للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ليلة نصف شعبان والاكتساب بالقرآن

(٢١ - ٢٤) من الأستاذ صاحب الإمضاء:
حضرة صاحب الفضيلة ملجأ الحيران الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فأرجو من فضيلتكم إبداء رأيكم (من جهة الدين)
في ليلة نصف شعبان وفي قراءة القرآن في رمضان وغيره على الأموات
والأحياء وأخذ الأجرة على ذلك وفي استعماله تمائم (وحجب) وغير ذلك مما لا
يخفى على فضيلتكم، وما رأي حضرتكم في حديث (أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب
الله) أرجوك يا سيدي وأنت ملجئي وملجأ كل حيران في هذا الزمان الذي اختلطت
فيه العادات (بالدين) إجابتي وعدم إحالتي على أعداد المنار السابقة؛ لأني حديث
عهد بالاشتراك في مجلتكم الغراء (المنار) ولا توجد جميع أعدادها عندي وتقبل يا
سيدي فائق احترامي.
... ... ... ... ... ... ... توفيق عبد الجليل
... ... ... ... ... ... ناظر مدرسة العرابة المدفونة بالبلينا
الجواب عن مسألة ليلة نصف شعبان:
وضع الوضاعون عدة أحاديث في فضائل ليلة نصف شعبان والعبادة فيها
وصيام نهارها مهدت للملوك والأمراء المبتدعين للمواسم الدينية سبيل جعلها موسمًا
من هذه المواسم كالموالد، ووافقهم عليه علماء السوء كما وافقوهم على أمثاله. وقد
بيَّنا في المجلد الثالث من المنار بدع هذه الليلة ومنكراتها وهي ١٦ بدعة، منها
الدعاء المعروف، ثم سُئلنا: هل ورد فيها أحاديث صحيحة يُعمل بها؟ فأجبنا عن
ذلك في المجلد السادس جوابًا مختصرًا لا يزيد على صفحتين قلنا فيه: إن أمثل ما
ورد فيها حديث ابن ماجه عن علي كرم الله وجهه مرفوعًا: (إذا كانت ليلة
النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس
إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من مسترزق فأرزقه؟
حتى يطلع الفجر) ورواه عبد الرزاق في مصنفه، وقد قالوا: إنه ضعيف. واكتفينا
بنقل ذلك عنهم في المنار وقتئذ، والصواب أنه موضوع؛ فإن في إسناده أبا بكر
عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي بسرة، قال فيه الإمام أحمد ويحيى بن معين أنه
كان يضع الحديث. وللترمذي وابن ماجه في نزول الرب في هذه الليلة حديث آخر
عن عائشة ضعفه البخاري والبيهقي ولابن ماجه حديث آخر عن أبي موسى لفظه:
(إن الله ليطلع من ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)
وهو من رواية الوليد بن مسلم المدلس عن ابن لهيعة وهو ضعيف، والتابعي فيه
عبد الرحمن بن عزرب وهو لم يلق أبا موسى.
الجواب عن مسألة الاكتساب بالقرآن:
من المسائل المُجْمَع عليها في دين الله على ألسنة جميع رسله أن العبادة لا
تكون عبادة إلا بالإخلاص فيها لله تعالى لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: ٥) وأن العبادة المحضة لا تصح بالأجرة،
ولا يجوز أخذ الأجرة عليها من الناس. ومن قرأ القرآن بالأجرة ليجعل ثواب
قراءته للموتى فلا ثواب له، بل هو آثم، فأي شيء ينال الموتى من قراءته التي
هي معصية؟ هذا إذا صح أن الإنسان يمكنه أن يجعل ثواب عبادته لغيره كما قال
بعض العلماء، وقد بيَّنا ضعفه في آخر تفسير سورة الأنعام بالإسهاب وكشف
شبهات القائلين به، إلا ما صح من انتفاع الوالدين بعمل أولادهم لأنهم ملحقون
بهم، فيراجع هنالك، ونحن مضطرون إلى الإجمال فيما نُسأل عنه مما سبق فيه
التفصيل كالمسألة السابقة على أنا نزيد على ما سبق بعض الفوائد مما تيسر لنا
لإفادة من قرءوا ما سبق شيئًا جديدًا.
روى أحمد وأبو داود من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: (اقرءوا
القرآن وابتغوا به الله تعالى من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا
يتأجلونه) وله ألفاظ أخرى، ومعناه أنهم يقيمون ألفاظه ويضيعون أحكامه،
ويتعجلون أجره في الدنيا ولا يدخرون ثوابه الآجل عند الله في الآخرة. والقدح
- بالكسر - عود السهم قبل أن يُرَاش ويُرَكَّب فيه النصل. وفي معناه حديث عمران
ابن حصين رضي الله عنه عند الترمذي وحسنه: (من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه
سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس) رواه أحمد أيضًا وأقوى منه ما رواه
أحمد بسند رجاله ثقات من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعًا: (اقرءوا القرآن ولا
تغلوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به) .
وفي معنى ذلك أحاديث أخرى بعضها في وقائع ونوازل حدثت، وفي أسانيد
كل ما روي في هذا الباب بعض العلل ولكن بعضها يقوي بعضًا وهي واردة في
أصل صحيح. وقد ورد في مقابلها ما يدل على جواز الانتفاع بالقرآن في مصالح
الدنيا كحديث الصحيحين فيمن زوجه النبي صلى الله عليه وسلم امرأة على أن
يعلمها ما معه من القرآن بدل المهر. وفي رواية لأبي داود: علمها عشرين آية
وهي امرأتك.
الجواب عن الحديث:
ومنها الحديث الوارد في السؤال، وسببه أن نفرًا من الصحابة رضي الله
عنهم مروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد الحي
فسعوا له بكل ما علموا فلم ينفعه فسألوا أولئك النفر هل عندهم من شيء؟ فقال
أحدهم: إنه يرقي وطلب الجُعْل على الرقية؛ لأنهم لم يضيفوهم فجعلوا له قطيعًا من
الغنم فرقاه بفاتحة الكتاب فشفي فأعطوهم القطيع فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم فأقرهم عليه وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) روى البخاري هذا
اللفظ للحديث المرفوع عن ابن عباس وروى الجماعة إلا النسائي القصة من حديث
أبي سعيد الخدري وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية) أي
الفاتحة ثم قال: (اقتسموا واضربوا لي معكم سهمًا) أي قاله تطييبًا لقلوبهم؛ لأنهم
شكوا في جواز أكلها كما قيل.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الأحاديث على جواز أخذ الأجرة على تعليم
القرآن دون التعبد بتلاوته، ومنع ذلك آخرون وأجابوا عن الحديثين بأجوبة أظهرها:
أن ما وردت فيه أخص من المُدَّعَى. وحديث الرقية يدل على جوازها وجواز أخذ
الأجرة عليها إذا لم يكن فيها شيء من الباطل كما ورد في حديث راقٍ آخر بالفاتحة
قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عما أعطي عليها: (خذها فلعمري من
أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق) رواه أحمد وأبو داود عن خارجة بن الصلت
عن عمه ورجاله رجال الصحيح إلا خارجة وقد وثقه ابن حبان وقال الحافظ في
التقريب: مقبول من الثالثة، والرقية بالقرآن لا يقصد بها التعبد به لأجل الثواب
والقربة وإنما يقصد بها تقوية روحانية الراقي؛ لأجل أن تؤثر روحه وإرادته في
نفس المُرْقَى تأثيرًا يغلب أثر الألم فلا يقاس عليها التعبد به لأجل الثواب، ثم إهداء
الثواب إلى مَن لم يقرأ لينتفع بعبادة غيره.
(فإن قيل) : قد ثبت في حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب في
الصحيح أنهم (الذين لا يرقون ولا يسترقون ... ) . فالجواب أن الرقية ليست دواء
يشفي من الألم أو المرض باطِّرَادٍ، بل الغالب فيها تأثير الاعتقاد أو تأثير نفس ذات
إرادة قوية روحانية في نفس أخرى بحسب سنة الله في البشر لذلك كانت تنافي
التوكل الذي هو الأخذ بسنن الله الثابتة في الأسباب والمسببات الصحيحة وتفويض
الأمر إلى الله وحده فيما لا يُعْرَف له سبب صحيح. وقد فصَّلنا هذه المسألة من قبل
في المنار (ص٣٩٠-٣٩٣ من المجلد السابع) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم
لُدِغَ مرة فغشي عليه فرقاه ناس فلما أفاق قال: (إن الله شفاني وليس برقيتكم)
رواه البخاري في التاريخ وابن سعد والبغوي والطبراني والدارقطني وغيرهم،
وذلك أن النفس لا تؤثر إلا في نفس أضعف منها وروحه صلى الله عليه وسلم أقوى
من جميع الأرواح، وهذا المدرك يؤيد القول ببطلان ما ورد من أنه صلى الله عليه
وسلم سُحِرَ، وأثَّرَ السحر فيه كما بيَّنَه الأستاذ الإمام، وسبقه إليه أبو بكر
الجصاص من أئمة الحنفية في كتابه أحكام القرآن.
وفي ص ٨٥٥ من ذلك المجلد (السابع) سؤال عن أخذ الأجرة على القرآن
استشكالاً على عَدِّ الأستاذ الإمام إياه من أكل أموال الناس بالباطل ويعني به ما بيَّناه
في تفسير {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: ١٨٨) والاحتجاج عليه
بحديث الرقية مع الجواب عنه.
الجواب عن مسألة التمائم ونحوها:
ورد في حظر التمائم وما في معناها أحاديث مرفوعة، منها: (من علق تميمة
فقد أشرك) رواه أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر ومنها: (إن الرقى والتمائم
والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. ومنها: (ثلاث من السحر:
الرقى والتولة والتمائم) رواه الحاكم. والمراد بها رقى الطلسمات الخرافية.
وإذا أراد السائل مزيد بيان لهذه المسألة فليراجع ما ذكرناه من المواضع في
المجلد السابع، وكذا ما نقلناه عن الدر النضيد في (ص ٥٨٤) من المجلد الثاني
والعشرين من الأحاديث في النهي عن تعليق التمائم والودع والعظام ووضع الخيط
في اليد للحمى وقلادة الوتر في عنق البعير لأجل وقايته. وكل هذا داخل في
مفهوم كلمة (الجبت) ففي حديث قطن بن قبيصة مرفوعًا عند أبي داود
(العيافة والطيرة والطرق من الجبت) وفسر العيافة بالخط وهو ضرب الرمل، وهو
من تفسير العام ببعض أفراده فالجبت يشمل كل الخرافات كالطرق وهو الضرب
بالحصى والودع أو حب الفول لمعرفة البخت وغيره من أمر الغيب.