للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد المولى آل طريح ـ بغدادي


المراسلة والمناظرة

(تهورات أدعياء العلم في الموصل)
لأحد العلماء الأعلام
ولو أني بُلِيتُ بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن ... تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
ما أكثر الأدعياء، أدعياء العلم والأدب في هذا العالم، وما أعظم إفسادهم لسنن
الكون وتكديرهم صفو الحياة!
كل يوم تقرع صفا أسماعنا أخبار الغوائل والبوائق التي تصدر منهم والشرور
التي يأتونها، والمخازي التي يرتكبونها، والمحارم التي يستحلونها. وهم دائبون
في ذلك آناء الليل وأطراف النهار لا يردعهم رادع من ديانتهم، ولا يزعهم وازع
من أنفسهم.
أولئك الذين لا هَمَّ لهم في حياتهم إلا اصطياد طائر الرزق من منصب
يجلسون على منصته ويطلبون به الجاه والدنيا. ووظيفة ينالون بها مطامع أنفسهم
الخبيثة المطبوعة على الطبَع والدنس وارتكاب الرذائل والدنايا.
وليس لهم هم بغير رئاسة ... وما همهم إلا صدور المناصب
طرق سمعنا قبل أيام نبأ حادثة صدرت من بعض الأدعياء المتقمصين بثياب
أهل العلم، والمتردين بأردية أهل الزهد من أهل الموصل. فلم نثق به ولم نؤمن
لأنه نبأ لو تعلمون عظيم، ذلك النبأ هو تكفير أعظم علماء الإسلام وأجلهم قدرًا
وأرفعهم ذكرًا. ألا وهو المجدد العظيم والمصلح الكبير محيي الدين وفيلسوف
الإسلام الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه! والأمر بإحراق
بعض كتبه ومؤلفاته التي تمزق حُجب الأوهام والشكوك، وتبدد سحب الضلالة
المتلبدة في سماء الأفكار، وتنقي العقائد من الشوائب، وتهدي للتي هي أقوم، حتى
ورد كتاب من ثقة في الموصل إلى أديب موصلي يذكر فيه تلك الحاثة وتلك العثرة
التي لا يقال لصاحبها: لعا، ومما جاء فيه:
من عشرين يومًا وردت إلى أحد العلماء مجموعة في فلسفة الدين من تأليف
الإمام ابن تيمية مطبوعة في المنار على نفقة أحد التجار الأخيار وقفًا لله تعالى،
وقد حصل في الموصل لتوزيعها تأثير شديد خاصة على من لم يوافقهم نبذ
الخرافات حتى آل الأمر إلى اجتماع بعض من يدعي العلم بذلك الفاضل الذي
وردت إليه الرسائل (في دار النقيب) والكلام معه بجمعها وإحراقها وتكفير
صاحبها ولعنه على المنابر. وبعد القرار قصروا عن جمعها وإحراقها خوفًا من
الفتن والقلاقل؛ لأن بعض الأهالي المهذبين، والشبان المتنورين كانوا مناصرين
لنشرها ومعارضة من يمد يده إليها بسوء إلخ. فانظر رعاك الله إلى هذه الفعلة
الهمجية هل رأيت أو سمعت عن البربر بإتيان مثلها بل بارتكاب أمر أقل منها
خطرًا؟
متى كانت كتب الدين وفلسفته التي تأمر باتباع الكتاب والسنة وتنهى عن
البدع والمنكرات تحرق ويلعن أصحابها فوق المنابر؟ ولا سيما مثل كتب المجدد
الأعظم إمام الأئمة تقي الدين أحمد بن تيمية الذي أحيا الدين ونشر أعلامه على
ربوع الإسلام، وتلقت أقواله الناس بالقبول وأخذت بها ورجعت إليها في كل عصر
ومصر. وأكبر دليل على ذلك وأعظم برهان هو إقبال الناس على طبع كتبه في
مصر والهند والعراق وسورية وقازان وغيرها. وأهل قازان اليوم يتبعونه بدلاً
من اتباع الإمامين الأشعري والماتريدي كما يعلم من الكتاب الذي ألفه أحد علمائهم
الأعلام بلغة (الجاغتائي) وقد سماه بابن تيمية حتى إن بعضها نفد وأعيد طبعه،
ومنها هذه الرسائل التي يأمر الأدعياء بحرقها، طبعها بعض كرام المصريين
وأفاضلهم فنفدت بمدة وجيزة، فازداد اشتياق المهذبين الذين هداهم الله إلى نبذ
التقاليد القديمة التي وجدوا عليها آباءهم وتمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها،
فطبعها بعض التجار الأبرار مع رسائل أخرى في التوحيد والإصلاح وقفًا لله
تعالى بأشهر مطبعة إسلامية ألا وهي مطبعة المنار، لأعظم رجل مصلح ألا وهو
العلامة رحلة أهل الآفاق السيد محمد رشيد رضا، في أعظم بلدة إسلامية وفي منبع
العلوم والعرفان ومحط الأجلة الأعلام وفطاحل الإسلام، ألا وهي مصر.
ولم نر أحدًا رأى فيها ما يضر بالدين أو قام بمعارضتها، والرد عليها وحكم
بكفر صاحبها، ولعنه على المنابر، ولو كان فيها شيء من ذلك لكان الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي أولى بالمعارضة والرد، وهو الذي وقف
محياه ومماته لله رب العالمين، في سبيل إصلاح المسلمين، والذب عن الإسلام
ورد أباطيل المفترين على الدين المبين.
عجيب وأيم الحق! يرتضيها الأئمة الأعلام وجهابذة الإسلام ويتقبلونها
قبولاً حسنًا، ويأخذون بها ويرجعون إليها في كل عصر ومصر، وتتذمر منها
شرذمة جاهلة تدعي العلم، وليست منه ولا قلامة ظفر، فتقوم لها وتقعد، وتبرق
وترعد، وتهذي وتعوي، وتصرخ وتهرج.
غيرة عظيمة منكم أيها الأدعياء على الدين: تتذمرون من كتب التوحيد
والإصلاح وتنهون عن مطالعتها، وتأمرون بحرقها، وتكفرون أصحابها على
المنابر، والمبشرون اليوم أخذوا ينشرون الرسائل بين ظهرانيكم ويدعون شبانكم
إلى دين النصرانية، ويبثون الدعوة إلى دين التثليث، ونشروا منها ما نشروا في
المدارس الابتدائية والكتاتيب قبل بضعة أيام، وأنتم غاضون راضون صم بكم عمي
لا تتكلمون، ولا نرى أحدًا منكم ينبس ببنت شفة أمامهم ويرد مطاعنهم ويذب عن
الدين الحنيف وينتصر له.
وهم يشهدون الطعن في دين أحمد ... وما منهم من غاضب أو معاتب
وتنظرهم ما بين كاسٍ وطاعمٍ ... وتشهدهم ما بين لاه ولاعب
فمن كان منهم غائبًا مثل حاضر ... ومن كان منهم حاضرًا مثل غائب
وليس لهم هم بغير رئاسة ... وما همهم إلا صدور المناصب
إذا كنتم أيها الأدعياء تزعمون أنكم من خيل حلبة الفضل، وكماة ميدان العلم
والإصلاح، فاكتبوا ردًّا عليها وادعموه بما عندكم من الدلائل - ولا أراكم قادرين -
فإنا نجيبكم إن شاء الله تعالى على كل ما ترونه في نظركم القاصر مضرًّا ونبين لكم
خطأكم وجهلكم بالدليل والبرهان، فأي حاجة بعد إلى الصراخ والعواء، والإرعاد
والإبراق والسب والشتم، ومجاوزة الحد في سوء الأدب وتوسيع الدائرة في لعن
العلماء الذين أحيوا الدين وجددوه، وتحريق كتبهم الهادية إلى سواء السبيل؟
فهل يعمد إلى السب والشتم واللغو والهذر إلا عاجز جاهل عيي أو صاحب
هوًى يريد أن يفرق كلمة المسلمين ويشتت شملهم ويضعف قواهم في هذا اليوم؟
اليوم نحن في حاجة كبيرة فيه إلى جمع الكلمة والتأليف بين المسلمين الذين
فرَّقهم أهل الأهواء والمطامع، وعبدة الدينار والدرهم، وعباد الملوك والسلاطين
الجائرين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: ١٠٣) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بغدادي
(المنار)
إن محاولة بعض الموصوفين بالعلم جمع بعض الكتب التي لا ترضيهم من
أيدي أهلها وإحراقها ولعن مؤلفيها - فضيحة من أقبح فضائح الجهل والغباوة
والعصبية العمياء، وأمثال هؤلاء هم حجة رينان وأمثاله على الإسلام والمسلمين،
وهم الفتنة التي كانت سبب ارتداد كثير من المتعلمين عن الدين، ومن لطائف
المصادفات أن اضطررنا إلى تأخير نشر هذه الرسالة حتى اتفق وضعها في إثر الرد
على الفيلسوف رينان، ومِن شبهاته ما لم يبين تحقيق الحق ومفاسد التلبيس فيه أحد
من أئمة المسلمين كما بيَّنها شيخ الإسلام ابن تيمية كمسألة القدر التكويني والتشريعي
وما يجب الرضا به من الأول وما يجب كرهه ومقاومته (وسيأتي في الجزء الآتي)
فنحن لا نقول لهؤلاء الذين كادوا يجعلون اسم الموصل سبة في التاريخ لو نفذ رأيهم
الأفين: إنكم أخطأتم لأن هذه الكتب من الكتب النافعة، بل نقول لهم: إنكم في بلاد
فيها أديان ومذاهب مختلفة وآراء متباينة، فإذا ساغ لكل من أهلها أن يحرق ما يخالف
اعتقاده أو رأيه من كتبها لم يبق فيها كتاب ديني ولا علمي ولا أدبي ولا تاريخي! وإذا
ساغ لكم هذا وحدكم فمن أنتم؟ وبأي سلطان استبدادي تحكمون، وحكومتكم أباحت
الطعن في دينكم وكتابكم ونبيكم وأنتم راضون ساكتون؟ إن ما حاولتم لا يتم إلا
لحكومة شخصية مستبدة كحكومة أسبانية في القرون الوسطى وحكومة الحجاز في
هذا العصر، فإنها هي التي تمنع أمثال هذه الكتب النافعة، وأما بلادكم فلا يفوز فيها
بعد اليوم إلا ذو العلم الصحيح فتعلموا، وإلا ضاع دينكم ودنياكم.
***
(تظاهر العقل والشرع)
اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع والشرع لن يتبين إلا بالعقل والعقل كالأس،
والشرع كالبناء، ولم يثبت بناء ما لم يكن أس ولم يغن أس ما لم يكن بناء،
وأيضًا العقل كالبصر والشرع كالشعاع ولن ينفع البصر ما لم يكن شعاع من خارج
ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر. فلهذا قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ
لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ} (المائدة: ١٥-١٦) وأيضًا فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده،
فما لم يكن زيت لم يشعل السراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وعلى هذا
نبه بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} (النور: ٣٥) إلى
قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور: ٣٥) وأيضًا فالشرع عقل من خارج، والعقل
شرع من داخل وهما يتعاضدان بل يتحدان ولكون الشرع عقلاً من خارج سلب الله
اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن نحو: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ} (البقرة: ١٧١) ولكون العقل شرعًا من داخل قال تعالى في صفة العقل:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) فسمي العقل دينًا ولكونهما
متحدين قال: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور: ٣٥) أي نور العقل ونور الشرع ثم
قال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (النور: ٣٥) فجعلهما نورًا واحدًا، فالعقل
إذا فقد الشرع عجز عن أكثر الأمور كما تعجز العين عند فقد النور.
واعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء لا يكاد يتوصل إلى معرفة كليات الشيء
دون جزئياته نحو أنه يعلم جملة حسن اعتقاد العقل (؟) وقول الصدق وتعاطي
الجميل وحسن استعمال المعدلة وملازمة العفة، ونحو ذلك من غير أن يعرف ذلك
في شيء شيء، والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته ويبين ما الذي يجب أن
يعتقد في شيء شيء، وما الذي هو معدلة في شيء شيء، ولا يعرف العقل مثلاً أن
لحم الخنزير والخمر محرمان وأنه يجب أن يتحاشى من تناول الطعام في وقت
معلوم، وأن لا ينكح ذوات المحارم، وأنه لا يجامع المرأة في حال الحيض، فإن
أشباه ذلك لا سبيل إليها إلا بالشرع، فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة، والأفعال
المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة مَن عدَل عنه فقد ضل سواء السبيل؛
ولأجل أن لا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً} (الإسراء: ١٥) وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا
لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: ١٣٤)
وإلى العقل والشرع أشار بالفضل والرحمة بقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء: ٨٣) وعني بالقليل المصطفين
الأخيار ويصدقه ما روى عنه الإمام عليه أفضل السلام: العقل عقلان: مطبوع
ومسموع، ولا ينفع المسموع ما لم يكن مطبوع كما لا ينفع نور الشمس ونور العين
ممنوع، وقد ظهر مما ذكر أن أصحاب العقل قليل جدًّا، وأن مَن لم يهتد لنور
الشرع ولم يطابقه عقله فليس من ذوي العقول في شيء، وأن العقل فضل من الله
ونور كما أن الشرع رحمة من الله وهدًى، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
ويهدي الله لنوره من يشاء {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور:
٤٠) ، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .
... ... ... ... ... النجف (عبد المولى آل طريح قدس سره)