للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التصرف في الكون
وحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكه
للسيد البدوي

(س٢١) جاء في عدد جريدة الأهرام التي صدرت في ٢٤ ذي القعدة و٩
يوليو تحت عنوان (أفتونا برأيكم) رسالة من مراسلها في بركة السبع هذا نصها:
(حدث أمس في جامع الدبابة نزاع بين المصلين سببه أن إمام البلدة عند
الصلاة في خطبة الجمعة قال: إن الله سبحانه وتعالى أعطى السيد البدوي حق
التصرف بملكه العزيز) .
(فقاطعه أستاذ آخر وقال له: إنه كاذب؛ إذ إنه طبقًا لشريعة الإسلام لا
يكون لله شريك) .
(فترتب على ذلك قطع الصلاة بضع دقائق حصل في فترتها نزاع بين
المصلين، ولما وصل ضابط بوليس بركة السبع أفهمهم أن المسألة دينية لا تستلزم
إلا الاستفتاء، وتمكن من إصلاح ذات البين بين الأستاذين فاستحق حضرته ثناء
الحاضرين. فما رأي أصحاب الفضيلة العلماء في هذا الخلاف في الرأي ا. هـ.
وقد طلب منا بعض علماء الأزهر وغيرهم أن نجيب عن هذا السؤال، فنقول
وبالله التوفيق ونسأله الهداية للصواب:
(الجواب) المراد بالتصرف في الكون أن الله تعالى قد وكل أمور العالم إلى
بعض الصالحين من الأحياء والميتين فهم يفعلون في الكون ما شاءوا بالخوارق لا
بالأسباب المشتركة العامة من بَسْطِ الرزق لبعض الناس وقَدْرِهِ - أي تضييقه على
بعض - ومن شفاء المرضى، وإحياء الموتى وإماتة بعض الأصحاء الذين ينكرون
عليهم أو الذين يستعديهم عليهم بعض زوارهم، والمتقربين بالنذور والهدايا
لأضرحتهم، وغير ذلك من أمور الناس وأمور الكون كالرياح والبحار والجبال
والحيوان والنبات. كما حكي عن بعضهم أنه مد رجله مرة وقال: إن سفينة خُرقت
في البحر وأشرفت على الغرق فاستغاث به بعض راكبيها فمد رِجله وسد بها ذلك
الخَرق، وذكروا أن ذلك المستغيث رأى عقب استغاثته رِجل الشيخ قد سدت ذلك
الخرق ونجت السفينة.
وسمعتُ مرة امرأة تستصرخ المتبولي وتستغيث به بِوَجْدٍ وجُؤَارٍ تستعديه على
رجل آذاها (تحيله عليه) لينتقم منه. فقلت لها: لماذا لم تطلبي من الرب تعالى
أن يجازيه؟ فقالت ما معناه: إن الله يمهل والمتبولي لا يمهل، واستدلت على ذلك
بأن رجلاً سرق فسيخة فأحال عليه صاحبها المتبولي فما عتم أن قيأه إياها.
وأمثال هذه الحكايات عنهم كثيرة جدًّا لعله لا يوجد أحد لم يسمع منها ما لم
يسمعه غيره، دع ما يتداوله الكثيرون في كل بلد وكل جيل مما يعدونه متواترًا،
وما المتواتر إلا نقل الكثيرين عن (المفتري) الأول الذي اختلق الحكاية أو تخيلها أو
توهمها فقصها وتناقلها عنه أمثاله.
وليست هذه الحكايات كلها من مفتريات العوام الأميين ومن هم على مقربة
منهم في قبول الأوهام والخرافات، بل تجد كتب المتصوفة محشوة بها؛ لأنها
أدخلت في عقائد الملة من أبواب ما يسمونه كرامات الأولياء، وهي تكثر في
المسلمين على نسبة إعراضهم عن الدين علماً وعملاً، فالمنقول عن الصحابة
رضي الله عنهم، وهم خير هذه الأمة بإجماع أهلها تبعًا للنص على ذلك من النبي
صلى الله عليه وسلم قليل جدًّا وأقله ما روي بإسناد آحادي قوي، وليس فيه شيء
قطعي، وما روي عن التابعين أكثر، ولكنه لا يعد شيئًا يذكر في عدده، ولا في
نوعه بالنسبة إلى ما اختلق في القرون الوسطى وتسلسل إلى هذا العصر.
ففي بعض كتب الرفاعية أن الشيخ أحمد الرفاعي كان يُفقِر ويُغْنِي، ويُسعد
ويُشقي، ويُميت ويُحيي - أي وإن حصر القرآنُ مثلَ هذا في عمل الخالق بقوله:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النجم: ٤٨) {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم:
٤٤) وأنه وصل إلى درجة صارت السموات السبع في رجله كالخلخال، وأن
الله تعالى وعده بأن من مسه لا تحرقه النار في الدنيا ولا في الآخرة، وأن هذا له
ولمريديه وأتباعه إلى يوم القيامة، وذكروا أن سبب إخباره إياهم بهذه (الكرامة)
أنه كان قد لمس سمكة حية فوضعوها بعد لمسه إياها على النار لشيها فلم تؤثر فيها
النار، فسألوه عن سبب ذلك فذكره.
وفي بعض كتب مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي - رحمه الله تعالى - أن مريدًا
له مات فطلبت أمه منه إحياءه فطلب روحه من ملك الموت، فأجابه بأنه لا يعطيه إلا
بإذن من الله تعالى، وكان ملك الموت جمع الأرواح التي قبضها يومئذ في زنبيل
وطار بها إلى السماء ليستأذن الرب ماذا يفعل بها فطار الشيخ عبد القادر في إثره
وجذب الزنبيل منه وأخذ روح مريده فتناثرت منه جميع الأرواح فذهب كل روح إلى
جسده فحيي جميع من مات في ذلك اليوم كرامة للشيخ عبد القادر. ولا أذكر هنا ما
قاله مفتري الحكاية في شكوى ملك الموت لربه تعالى من اعتداء الشيخ عليه (في حال
التلبس بأداء وظيفته) !! كما يقال في اصطلاح أهل هذا العصر - وما افتروا على الله
تعالى في جوابه - لا أذكره أدبًا مع الرب عز وجل وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا
كبيرًا.
وقد شاع بين الناس أن الأقطاب الأربعة المتصرفين أو (المدّركين بالكون)
كما يقولون هم السادة الجيلاني والرفاعي والبدوي والدسوقي، فلا يجري في العالم
العلوي ولا السفلي شيء إلا بتصرفهم، وعلى هذا يكون سائر المتصرفين في الكون
عمالاً أو جندًا لهم.
ماذا كان من تأثير فشو هذا الاعتقاد في المسلمين؟ أن ألوف الألوف منهم
باتوا لا يعنون أقل عناية بشئون أمتهم العامة، ولا بشئون أنفسهم الصحية ولا
الدينية ولا الاجتماعية إلا ما تقتضيه الضرورة والعادة من القيام بضروريات المعاش
والقناعة منه بأخسه؛ لأن كل ما عدا ذلك موكول إلى أولئك الميتين!! فإذا وقع أحدهم
في شدة أو مرض أو حاجة استغاث بأحد المدركين بالكون أو أحد أعوانهم وجندهم
من المشايخ الميتين لينقذه من شدته أو يشفيه هو أو ولده من مرضه أو ينتقم له من
عدوه أو... أو ... وإذا عظم الخطب يتقرب إليه بعجل أو خروف ينذره له، وإذا
أبطأت الإغاثة يشد رحله إلى قبره ويستنجده بالقرب منه مع اعتقاده أن القرب عنده
كالبعد في إحاطة علمه بالغيوب كإحاطة قدرته بالعالم، ولذلك يقولون للولي عند
قبره: (يا سيدي: العارف لا يُعَرَّف) وقد صح عندنا أن بعض أصحاب العمائم
الكبرى يقولون ذلك، ومن المروي في الكتب عن الجيلي أنه متصرف في اثني
عشر عالمًا أحاطيًّا، السموات والأرض واحد منها.
وناهيكم بشد الرحال إلى احتفالات الموالد التي تتخذ أعيادًا ومواسم دينية لهم،
واجتماع مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال في كل مولد يقام لهؤلاء
المتصرفين في الكون الذين يقضون مصالح الناس في الدنيا وينجونهم من عذاب الله
في الآخرة مهما تكن جرائمهم وفواحشهم، ومن المشهور الذي يكاد يبلغ درجة
التواتر أن المُعْسِرين منهم يقترضون الأموال بالربا الفاحش لأجل إنفاقها في المولد،
على أن الكثيرين من هؤلاء الذين يَسْخُونَ بالألوف في هذه السبيل - وإن رهنوا في
ضمان قروضها أطيانهم - أشحة بخلاء ربما يقتل أحدهم أخاه أو أباه لأجل جاموسة
أو مال قليل.
هذا تذكير وجيز بمعنى التصرف في الكون وما له من سوء التأثير في إفساد
الدين والدنيا. وتجد رجال الشرع يشاركون رجال الطرق المنسوبة إلى الصوفية
في إقامة هذه الموالد وحضور دعواتها، وأكل نذورها، حتى ما كان مسيبًا للسيد
البدوي من العجول والخرفان، كالسوائب التي كانت تسيب للأصنام، ولا يرون في
هذا حرجًا ولا إفسادًا؛ لأنه داخل عندهم في باب كرامات الأولياء الواسع الذي لا
حدَّ له، وقد قال صاحب الجوهرة تبعًا لغيره من مؤلفي العقائد رضي الله عنهم
وأرضاهم:
وأثبتن للأوليا الكرامه ... ومن نفاها فانبذن كلامه
كما أن منكرات القبور التي تعد بالعشرات والمئات في بنائها ووضع السُّرُج
عليها واتخاذها مساجد وتشييدها وما فيها من مفاسد اجتماع النساء والرجال والأطفال
- كل ذلك يُقَرَّر ولا يُنْهَى عن شيء منه؛ لأنه يدخل في باب ما ورد من استحباب
زيارة القبور للرجال؛ لأجل تذكر الموت والآخرة، فالأمر المستحب يرتكب لأجله ما
لا يعد من كبائر المعاصي التي لعن الشارع مرتكبيها كمتخذي القبور مساجد وواضعي
السرج عليها وزيارة النساء لها وغير ذلك مما وردت فيه الأحاديث الصحيحة.
إعطاء الله حق التصرف في ملكه للبدوي:
بعد هذا أقول كلمتي في موضوع السؤال وأُقَفِّي عليها بكلمة في الكرامات
موضوع السؤال: زعم ذلك الخطيب أن الله تعالى قد أعطى السيد أحمد البدوي
الميت صاحب القبر المشهور في طنطا حق التصرف في ملكه العزيز.
ليست هذه المسألة مسألة جواز الكرامات ووقوعها وما فيها من خلاف لا يُعَدُّ
من أصول الدين وعقائده ولا من فروعه، بل هي مسألة تتعلق بأصول عقائد الدين؛
لأنها إسناد شيء إلى الله تعالى لا يمكن العلم به إلا منه عز وجل، وقد انقطع
الوحي عنه تعالى بموت خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله،
ولا طريق للعلم الصحيح عنه تعالى غير الوحي، وقد قال تعالى في بيان أصول
كبائر الكفر والفسق: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) .
بيَّنَ بعضُ المحققين أن هذه المحرمات في دين الله تعالى على ألسنة جميع
رسله قد ذكرت على طريقة الترقي في الحظر من المعاصي القاصرة إلى المتعدية
كالبغي على الناس، ومن الكفر القاصر على صاحبه كالشرك إلى المتعدي الضرر
كالقول على الله بغير علم، فإنه أصل جميع الفساد في الدين وجميع البدع.
والقول على الله بغير علم قسمان: أحدهما خاص بالعقائد كالكلام في ذاته
وصفاته وأفعاله ومنه نازلة الفتوى، ومثلها القول باتخاذ الولد قال تعالى: {قَالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن
سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (يونس: ٦٨) نفى أن يكون عندهم
سلطان- أي برهان قطعي- على هذا القول ووبَّخهم أن قالوا على الله ما لا يعلمون
بعد أن بيَّنَ البرهان على بطلان قولهم بأنه هو الغني الكامل غناه المطلق، وبأن ما
في السموات والأرض أي العالم كله ملك له، وهذا عين البرهان على بطلان اتخاذ
الناس يتصرفون في ملكه، ومن أصول المناظرة أن البينة على المُدَّعِي ويكفي
المنكر المنع، ولكن القرآن هداية لا جدل، ولذلك بيَّن بطلان الدعوى في نفسها
بالدليل، وبيَّن أنه لا دليل عليها، وأن مثلها لا يصح أن يقال بالظن والوهم، وإنما
يُطْلَبُ فيه العلم القطعي، كما قال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ
وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: ٢٨) .
ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي
الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨) فقولهم: (إنهم شفعاؤهم عند
الله) من القول على الله بغير علم، فإن العلم بالشفيع المعين للمشفوع له المعين
خاص به تعالى؛ إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وهو لا يأذن بأصل الشفاعة إلا
لمن ارتضاه شفيعًا، ثم لا يأذن له بأن يشفع إلا لمن كان سبحانه راضيًا عنه، كما
قال في شأن عباده المكرمين: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: ٢٧-٢٨) .
والقسم الثاني من القول على الله بغير علم: خاص بالتشريع كابتداع عبادة لم
يشرعها الله تعالى ألبتة، أو شرع أصلها فجيء بها على غير الصفة التي شرعها
كأذكار أهل الطريق بألفاظ لم ترد في الشرع مع الرقص والغناء، وغير ذلك مما
فصَّله الشاطبي في كتابه الاعتصام وابن الحاج في المدخل وغيرهما من الأعلام -
وكتحريم ما لم يحرمه الله تعالى في وحيه. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم
مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: ٢١) وقال: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: ١١٦)
الآية.
فعُلِمَ من هذه الآيات وما في معناها أن القول على الله بغير علم أغلظ أنواع
الكفر وأشدها إفسادًا لدين الناس ولعقولهم وفطرتهم، وأنه يسمى شركًا ويتضمن ذلك
عد فاعله شريكًا لله تعالى، ومن قَبِلَ تشريعًا من غير الله فقد اتخذه ربًّا وشريكًا،
وقد ورد في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) أن معناه أنهم كانوا يتبعونهم فيما
يحلون لهم ويحرمون عليهم. ومن شرع للناس عقيدة لم يشرعها ربهم لهم فهو أجدر
بانتحال الربوبية وجعْل نفسه شريكًا للرب تعالى ممن يشرع لهم تحريم شيء من
طعام أو شراب مثلاً.
وهل عنى هذا من قال لخطيب الفتنة المُضِلّ: ليس لله شريك، ردًّا لقوله:
إن الله أعطى السيد البدوي حق التصرف في ملكه العزيز؟ أم عنى أن هذا
التصرف يقتضي أن يكون البدوي شريكًا لله تعالى في تدبير أمر عباده؟ أيًّا ما عنى
فله وجه وجيه.
ذلك بأن الذين يقولون بهذا التصرف لا يعنون به أنه منتظم في سلسلة الأسباب
والمسببات العادية كتصرف البدوي في رعي ماشيته وسوقها حين يريح وحين
يسرح، وتصرف الفلاح في أرضه حين يعزق وحين يزرع، وإنما هو عندهم
بسلطة غيبية هي فوق الأسباب العادية والسنن الكونية المعروفة للبشر في الأعمال
التي يتناولها كسبهم، وهذه السلطة هي الخاصة بالخالق عز وجل، بمعنى أنه ليس
للناس فيها عمل ولا كسب، وهي التي تمتاز بها العبادات من العادات، فكل دعاء
أو تعظيم قولي أو عملي يوجهه الإنسان إلى من يؤمن بأن له سلطانًا غيبيًّا هو فوق
الأسباب المشتركة بين الخلق - فهو عبادة له وإلا فلا، فالفرق جليٌّ بين من يدعو
ميتًا لشفاء مرضه أو مرض ولده مثلاً أو للانتقام من عدوه، أو ينذر لأجل ذلك
وبين من يدعو الطبيب للمعالجة أو يشكو إلى الحاكم ظالمه، وسواء اعتقد من يدعو
الميت أنه يفعل ذلك وحده بقدرته الذاتية أو اعتقد أنه يفعل ذلك بتأثيره في علم الله
تعالى وإرادته بأن يكون واسطة وسببًا لأنْ يفعل سبحانه ما لم يكن ليفعله لولاه،
وذلك يقتضي تأثير الحادث في القديم وتعليل أفعاله تعالى بالحوادث، وكون هذا
الفعل لم يقع إلا باشتراك سلطتين غيبيتين هما فوق سنن الخالق في الأسباب
والمسببات - هو صورة هذا الوجه في المسألة، ولم يكن مشركو العرب وأمثالهم
يقولون بمساواة آلهتهم لرب العالمين في شيء بل كانوا يقولون: إنه ربهم وخالقهم،
وهم شفعاء عنده فقط. على أن هذا التحليل لا يخطر في بال أكثر الذين يدعون
هؤلاء الموتى وينذرون لهم ويشدون الرحال إلى قبورهم خاشعين متضرعين،
تاركين للصلاة مقترضين بالربا مرتكبين لكثير من المنكرات إرضاء لهم، لأجل أن
يقضوا لهم حاجتهم. وإنما هو تأويل من تلقوا عن شيوخهم كتبًا في العقائد قررت
فيها وحدانية الأفعال لله تعالى بما ينافي ما تلقوه ورسخ في أنفسهم ممن نشأوا بينهم
من تصرف بعض هؤلاء الشيوخ الميتين في الكون - فاخترعوا هذه التأويلات
للجمع بين العقيدتين.
ولئن سألتهم ليقولُن: إنه ليس لهم أدنى تأثير في إرادة الله تعالى ولا في
أفعاله وإنما هم أسباب خفية يخلق الله الأشياء عندها لا بها، كما يقول أكثرهم في
الأسباب الجلية العادية كإحراق النار وإرواء الماء، ولو كان هؤلاء المفتونون
بالقبور يعتقدون أنه لا تأثير لأصحابها ألبتة لما وجد شيء من هذه الخرافات والبدع
التي أفسدت الأمة ولوقف الناس في زيارة القبور عند هداية السنة، يزورونها
لتذكرة الآخرة ويدعون لأربابها ولا يدعونهم، ويشفعون لهم بالدعاء ولا يستشفعون
بهم؛ لأن هذا هو الوارد في السنة. على أن الأسباب الظاهرة من عالم الشهادة قد
علم كونها أسبابًا بالمشاهدة والتجربة المُطَّرِدَة. وأما تصرف الموتى فهو أمر غيبي
لم يثبت بالمشاهدة ولا بالتجربة المطردة، ولا جاءنا الوحي من عالِم الغيب والشهادة
بأنه جعلهم أسبابًا لشيء من ذلك، بل كل من التجربة الدقيقة في الأمم المختلفة ومن
الوحي الصادق يدل على خلاف ذلك.
أما التجربة فإننا قد علمنا من تاريخ الأمم أن هذا الاعتقاد إنما يفشو ويَرُوجُ
فيها في زمن الجهل والانحطاط فتكون به أشقى الأمم وأشدها خسارًا في دينها
ودُنياها وصحتها ومعيشتها، فالمسلمون لم يكونوا كذلك في خير القرون التي فتحوا
بها الممالك ودونوا العلوم وأسسوا الحضارة، فلم يَرْوِ لنا أصحاب الصحاح ولا
السنن أن الصحابة كانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره الشريف ولا
عند اشتداد الخطوب في الحروب ولا في حالة المرض لأجل النصر والشفاء، ولا
روى التاريخ لنا ذلك عن التابعين ولا تابعيهم من علماء الأمصار كأئمة الفقه الأربعة
وأئمة آل البيت النبوي رضي الله عنهم أجمعين. بل رووا لنا أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه كانوا ينوطون الأشياء بأسبابها وأنهم لما قصروا فيها يوم أحد
انكسروا ونال المشركون منهم حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم شج رأسه
الشريف وكسرت سنه. ولما تعجب الصحابة وتساءلوا في ذلك أنزل الله تعالى:
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: ١٦٥) .
وقد فشت هذه البدع في الأمم الوثنية فالكتابية من قبلنا، فكان فشوها فيهم من
أسباب ضعفهم والعون لسلفنا على السيادة عليهم، فلما ضعفت هذه العقائد الخرافية
فيهم بارتقائهم في علوم الكون وسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات، وقل فيهم
من يعتمد في إصلاح حال الأفراد والجماعات على تصرف الأولياء الأحياء
والأموات، بعد أن سرت إلينا منهم هذه الخرافات، دالت لهم الدولة علينا، وصاروا
أحسن منا صحة، وأشد قوة، وأعلى سيادة، وأرفه معيشة.
وأما الوحي فالله تعالى قد أمر خاتم رسله الذي أكمل دينه وأتمه على لسانه
وهديه أن يخاطب من آمن به بقوله عز وجل في {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ
وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: ٥٠) فقد نفى أن تكون عنده
خزائن رزقِ اللهِ يتصرف فيها، ويأتي ما اقترحوا عليه من الآيات لإثبات رسالته
من تفجير الينبوع في مكة وإيجاد جنة فيها يفجر الأنهار خلالها تفجيرًا كما قال
الفخر الرازي، ونفى أن يكون يعلم الغيب، وأن يكون مَلَكًا كما اقترحوا أو يقدر
على ما يقدر عليه الملَك، ثم أمره أن يقول بعد ذلك {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: ٥٠) كما قال في الرد على ما اقترحوه عليه من الآيات التي أشرنا إليها:
{سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: ٩٣) أي فهو من حيث
إنه بشر لا يقدر على ما لا يقدر عليه البشر، ومن حيث إنه رسول ليس عنده إلا
ما يوحيه الله إليه فيبلغه ويبينه للناس. فأين هذا ممن يدعون أن السموات السبع في
رِجْلِ أحدهم كالخلخال إلخ.
وأمره أيضًا أن يخاطب الناس بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ
ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ
أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ١٨٨) وبقوله: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ
لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: ٢١) أي: ولا نفعًا ولا غيًّا، ففي الآية احتباك.
أي: وإنما الذي يملك ذلك كله الله تعالى، ونفي الإغواء لا يقتضي جواز وقوعه منه
صلى الله عليه وسلم، فهو كنفي الظلم عن الرب تعالى بيّن به الحق الواقع فلا يقتضي
أنه مظنة الوقوع، والمراد هنا أن هداية الناس وضلالهم ونفعهم وضرهم كلها بيد الله
تعالى من حيث إنه هو الخالق المدبر الواضع للسنن والأسباب لكل من ذلك، فليس
وراء هذه الأسباب تصرف لغيره.
هذا نوع من أنواع دلالة الوحي على بطلان تلك الدعوى، أعني نفي علم الغيب
ونفي القدرة على التصرف في ملك الله وخزائن رزقه عن الرسل عليهم السلام.
ويتصل به نوع آخر وهو كون الآيات (المعجزات) التي يؤيدهم الله تعالى بها لا
تتعلق بها قدرتهم، وإنما هي لله وعند الله وبيد الله عز وجل، والآيات فيها معروفة،
وهناك نوع إيجابي أقوى من هذا ويُجَامِع ما قبله وهو دلائل وحدانية الأفعال التي
فسرها الأشعرية بأنه لا فعل لغير الله، وأن الله تعالى يخلق المسببات عند الأسباب
لا بها، وهل يمكن أن يطلب المؤمن بهذه الوحدانية شيئًا من الموتى وهم لم يصح
شرعًا ولا علمًا أن الله جعلهم أسبابًا؟
كرامات الأولياء:
علم مما مر أن فتنة الغلو في كرامات الأولياء قد هدمت من عقول الألوف
وألوف الألوف من الناس عقيدة تجريد التوحيد وهو أساس الدين الذي بني عليه
غيره منه، وأعلى علوم البشر ومعارفهم التي يتحقق بها تكريم الله تعالى لهم
بإعتاقهم من الذل والعبودية لغيره عز وجل، ونسخت من أذهانهم وقلوبهم الآيات
المحكمة في العقائد الإلهية ومعنى الرسالة ووظائف الرسل، ووضعت في مكانها ما
لا يُحْصَى من الخُرَافات والأوهام التي أفسدت عليهم أمري الدين والدنيا، ويزعم
كثير من أنصار هذه الخرافات المُعَمَّمِين أن تشكيك العوام فيها يفضي إلى شكهم في
الرسالة وفي سائر أصول الدين، وقد جهلوا أن هذا الغلو فيها هو الذي أفسد عقائد
جماهير العوام وأعمالهم، ونفَّر جماهير الخواص الذين تلقوا العلوم العقلية والكونية
والاجتماعية من الإسلام نفسه، إذ حسبوا أنه مجموعة خرافات لا تليق إلا بأمثال
هؤلاء العوام.
ولو صح أن بعض هؤلاء لا يقنعه بأصل الإسلام إلا هذه الكرامات لكان ذلك
مفسدة أخرى يطلب من العلماء إزالتها وبناء العقيدة على البراهين العقلية والنقلية
القطعية؛ وهو الواجب الذي قرره جميع العلماء، وإلا فإن التشكيك في هذه
الكرامات من أسهل الأمور وقلما ترى أحدًا من المتعلمين المتدينين يصدق شيئًا مما
يرويه هؤلاء العوام منها دع غير المتدينين الذين لا شبهة لأكثرهم على الدين إلا
جعلها من أركانه وأسس بنيانه.
ما هذه الكرامات؟ إنها ليست من عقائد الدين وإنما تُذْكَرُ في كتب الكلام
بالتبع لبحث معجزات الرسل كما يذكر السحر وغيره مما عَدُّوا من خوارق العادات.
وقد اختلف نظار العلماء في جوازها، واختلف المُجَوِّزُونَ لها في وقوعها،
واختلف القائلون بوقوعها هل تقع في جميع خوارق العادات التي يؤيد الله تعالى
بمثلها الرسل أم لا تقع إلا في أمور محدودة؟ وهل تكون بقصد من الولي واختيار
أم بغيرهما؟ وهل تتكرر أم لا وكيف يكون المكرر من الخوارق.
جاء في المواقف وشرحه ما نصه: (المقصد التاسع) في كرامات الأولياء
وأنها جائزة عندنا خلافًا لمن منع جواز الخوارق، واقعة خلافًا للأستاذ أبي إسحاق
والحليمي منا، وغير أبي الحسين من المعتزلة اهـ. فهذان إمامان من أكبر أئمة
الأشعرية ينكران وقوع الكرامات، ولم يكن ذلك مطعنًا في دينهما ولا مُسْقِطًا من
مكانتهما من أئمة أهل السنة، بل ظلا في الذروة، وكان أبو إسحاق الإسفرايني هذا
إمام الأئمة في عصره، ولا يزال يعبر عنه في كتب العقائد والأصول بالأستاذ،
فإذا أطلق لا ينصرف إلى سواه.
لا تتسع هذه الفتوى لتمحيص القول في مسألة الكرمات وقد كتبنا من قبل
مقالات كثيرة فيها خاصة، وألممنا ببعض مسائلها في مقالات أخرى نشرت في
مجلدات المنار المتفرقة. منها بضع مقالات بعنوان (الكرمات) في المجلد الثاني
لخصنا فيها ما أورده التاج السبكي في طبقات الشافعية من الخلاف فيها، وحجج
منكريها ومثبتيها، والمأثور منها، ومنها إحدى عشرة مقالة بهذا العنوان في المجلد
السادس ذكرنا فيها ما أورده السبكي من أنواعها، وتأويل ما ورد منها على تقدير
صحة الرواية فيه. ومنها مقالات أخرى بعنوان الخوارق والتصرف في الكون
والموالد وغير ذلك.
وفي هذه المقالات فوائد كثيرة من المنقول والمعقول تعطي المُطَلَّع عليها
بصيرة في الدين والدنيا، نشير إلى بعضها بالأرقام:
(١) إن ما يُنقل إلينا من الوقائع المخالفة لسنن الله تعالى في الخلق
وفي سير الاجتماع البشري يجب أن لا يُقْبَل فيجعل محلاٍّ للبحث فيه إلا إذا ثبت
ببرهان يقيني؛ لأنه جاء على خلاف الأصل من المعقول والمنقول، وأعني
بالمنقول ما ثبت في نص القرآن من أن سنن الله تعالى في نظام الخلق وشئون
الأمم لا تتبدل ولا تتحول.
(٢) إن كثيرًا مما يظهر بادي الرأي أنه من خوارق العادات لا يكون كذلك
في الواقع ونفس الأمر، بل منه شعوذة وتخييل، ومنه ما له أسباب خفية من
طبيعية وصناعية، كقوله تعالى في الحبال والعصي التي ألقاها سحرة فرعون:
{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: ٦٦) وقد أثبت صاحب جامع التواريخ
أو (نشوار المحاضرة) عن معاصري الحلاج وكذا الحافظ ابن الجوزي أن كراماته
كلها كانت من قبيل الحِيَل وقد اكتشفوا حيله في عصره كالذي عرف الدار والبستان
الخفيين اللذين كان يحفظ فيهما السمك الحي والفاكهة والأطعمة فيأتي بها عند الحاجة
وأنذره الحلاج القتل إذا هو فضحه، وقد ذكرنا في مقالات المنار شواهد كثيرة
للحيل ولما في معناها من الخواص الكونية.
(٣) إن روايات الكرامات مأثورة عن جميع الأمم الوثنية والكتابية، وإن
دعواها تكثر في العصور التي يضعف فيها العلم والدين ويكثر الكذب والدَّجَل،
وتقل في عصر العلم وعهد التقوى، ولذلك ترى المروي عن الصحابة والتابعين
منها قليلاً، وقد زعم بعض الناس أن سبب هذا: حاجة الناس في زمن الجهل
والفسق إلى ما يقوي إيمانهم، ولكننا نرى أنها لا تزيد الناس في هذا الحال إلا
فسقًا وجهلاً ودجلاً وغرورًا وضعفًا في الدين والدنيا، وخضوعًا للدجالين الذين
يعبثون بأموال الناس وأعراضهم، كما أشرنا إليه في أوائل الفتوى.
(٤) إن الأصل في الكرامات أن تكون خفية، وأن الأولياء لا يَدَّعونها ولا
يظهرونها إلا لضرورة حتى قال السبكي إنه (لا يجوز إظهارها إلا بسبب ملزم،
وأمر مهم) فأين هذا وذاك من معمل الكرامات الكبير بل معاملها (فبريكاتها)
الكثيرة المعبر عن صناعاتها الدائمة بالتصرف في الكون؟ الذي ينقلون عن كل قبر
من قبور عماله الكثيرين ما لا يحصى من الكرامات لأحقر الأسباب كإصابة زيد من
الناس بداءٍ قَتَّال أو مرض عضال أو إماتته فجأة أو إصابته بجائحة في زرعه أو
هلاك لبهائمه لأجل استغاثة خصم أو عدو له بولي يستعديه عليه ولو بالباطل، أو
لأنه قال كلمة اعتراض وإساءة أدب مع صاحب القبر، كأن أولياءهم من الأشرار
الذين خلقوا للأذى والضرر. دع قسم المستشفيات من معمل التصرف في الكون الذي
يبرئ كل يوم ألوفًا من المرضى الذين لا يذكر مرض أجسامهم في جانب أمراض
عقولهم وأديانهم.
(٥) كون الكرامات الحقيقية لا تتكرر وعلله الشيخ محيي الدين بن عربي
في الفتوحات المكية بأن ما يتكرر يكون معتادًا فلا يدخل في خوارق العادات،
ونحن نرى أن ما يدعونه للمتصرفين في الكون من (صادرات المعامل الدائمة)
يتكرر في كل يوم وفي كل ساعة.
(٦) إن أكثر ما فشا ويتناقله الناس من الأمور التي يسمونها كرامات،
والكثير مما يصح نقله - من المصادفات التي يكثر وقوعها، وإنما الاعتقاد هو الذي
يحمل غير المدقق في معرفة أسبابها على جعلها من الكرامات، والجاهل بالمنطق لا
يفرق بين القضية الشرطية الحقيقية، كقولهم: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار
موجود - والشرطية الاتفاقية، كقولهم: إن كان الإنسان ناطقًا فالحمار ناهق. فإذا
استدعى أحد شيخًا (وليًّا) على عدوه (أو حاله عليه كما يقولون) أو إذا أنكر منكر
على الشيخ وأصابه عقب هذا أو ذاك مصيبة في نفسه أو أهله أو ماله قال أصحاب
العقول الخرافية: إنه تصرف به، وقد وقع مثل هذا لنا ولأهل بيتنا كما وقع لغيرنا
مرارًا ولم نعده من الكرامات. ولو شئنا أن نعد لنفسنا عشرات من الكرامات التي
يثبت مثلها لدجال الشيخ يوسف النبهاني لفعلنا وكنا أصدق منه في النقل، وأقدر على
الإتيان عليه بالشهود العدول من الأحياء.
(٧) إن ما يُعَدُّ بادي الرأي خارقًا للعادة يجوز أن يكون له أسباب خفية،
ومنه ما يسميه علماء الكون فلتات الطبيعة. ومنه ما هو من خواص الأنفس
البشرية التي يتفاوت فيها الناس تفاوتًا بعيدًا، كالمكاشفة والتأثير النفسي في بعض
الناس ولا سيما أصحاب الإرادات الضعيفة وناهيك أصحاب الأمزجة العصبية من
النساء وبعض الرجال الذين يعتقدون أن لزيد من الأموات والأحياء سلطانًا غيبيًّا
يتصرف به في الكون، فإن هؤلاء يكونون سريعي التأثر والانفعال بما يعتقدون
تأثيره حتى إن بعض الأطباء يعالجونهم بما للأوهام من السلطان على أنفسهم،
ولذلك تجد هذه الأنواع كثيرة الوقوع.
وقد وضَّحْنَا هذه المسألة في المنار مرارًا، وشبهنا فيها أرواح البشر وأنفسهم
بأجسادهم في تفاوت الأفراد في قوتهما وضعفهما واختلاف استعدادهما واستعمالهما
لهذا الاستعداد.
مثال ذلك أن الروح هو المُدْرِك من الإنسان وإدراكه غير مقيد لذاته بالحواس
التي هي آلات له ما دام محبوسًا في الجسد بل يمكن أن يدرك بعض الأمور بذاته
في نوم أو يقظة، وقد يدرك بعض الأمور قبل وقوعها، وبيَّنا أن هذا النوع من
الإدراك ليس من العلم بالغيب الذي استأثر الله تعالى به، وإنما هو غيب إضافيٌّ لا
حقيقيٌّ، وأن قلة هؤلاء المدركين لهذه الأمور لا ينافي أن إدراكها مما أودع في
الفطرة البشرية وجعل من مقدورها، على أنها في الغالب تقع بدون إرادة من
صاحبها، ومن غير الغالب أن تكون بتوجيه الإرادة إلى إدراك الشيء وحصر الهمة
في التوجه إليه وصرفها عما عداه حتى إذا انحصر التوجه وصرفت عن الفكر
الشواغل، أدرك الروح ما توجه إليه إدراكًا ما، وضربنا له المثل في انفراد بعض
الأفراد بالقوة العضلية النادرة كقوة القيصر الروسي إسكندر الثالث الذي كان يأخذ
بيده الريال الروسي فيجوفه بأصابعه فيجعله كفنجان القهوة ويضع فيه زهرة يتحف
بها بعض النساء في مجلسه. وكان الشيخ علي العمري عندنا في طرابلس الشام
يلوي بأصابعه حديد النوافذ ويمسح القطعة من النقد فيزيل حرشة نقشها، وله
غرائب في قوة العضل كانوا يعدونها من كراماته الكثيرة، ولم يعد أحد مثلها من
القيصر الروسي كرامات له. ولا غرو فالمتكلمون يُجَوِّزُونَ وقوع خوارق العادات
من كل أحد حتى الفساق والكفار ووضعوا لها أسماء تختلف باختلاف حال من وقعت
لهم أو على أيديهم.
هذا وإن الروحيين من المتقدمين ومن فرنجة هذا العصر الذين يقولون: إن
أرواح الأحياء قد تتجرد من المادة الكثيفة، وإن أرواح الموتى قد تتجلى في مادة
لطيفة أو كثيفة تستمدها عن عناصر الكون - لم يثبت أحد منهم أنها قد أعطيت
التصرف في أمور العالم ونفع الناس وضرهم بل صرح بعضهم بأنها لم تُعْطَ هذا
ولا تقدر عليه.
وما نقل عن بعض كبار الصالحين العارفين من ادعاء ذلك فأكثره كذب وزور
لا تصح به الرواية عنهم، ومنه ما عَدُّوهُ من الشطح الذي يصدر عنهم في حال
غيبة ثم يتوبون منه، ومنه ما يقصد به الأسباب الظاهرة كالبيتين المنسوبين للسيد
الجيلي قدس الله روحه:
على بابنا قف عند ضيق المناهج ... تفز بعليّ القدر من ذي المعارج
ألم تر أن الله أسبغ نعمه ... علينا وولانا قضاء الحوائج
فقد كان - رحمه الله تعالى - ذا مقام رفيع عند الخلفاء وكبار الحكام فإذا
أوصى بكشف ظلامة لا تُرَدُّ وصيته، وقد كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ممن
يصدق عليه معنى هذين البيتين، على أن علماء النقل قد قالوا: إن الجيلي كان ذا
كرامات صحيحة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن أكثر ما في كتب مناقبه كذب،
وبعضها ليس من الكرامة في شيء.
وهاهنا مسألة يغفل الناس عنها بيناها في المنار مرارًا وهي كيف يصح أن
يكون أولياء الله الأحياء والأموات يتولون قضاء حاج المسلمين ودفع المضار عنهم
وجلب المنافع لهم بما أوتوا من التصرف في ملك الله الواسع بخوارق العادات ونحن
نرى المسلمين أسوأ حالاً من سائر الأمم - ولا سيما الإفرنج - في صحتهم وسعة
عيشهم وعزهم وعظمة ملكهم؟ وسائر ما يطلبه الناس من هؤلاء الأولياء من أمور
دنياهم، فلماذا لا يتصرفون في الأسطول البريطاني مثلاً؟ ونرى الذين لا يصدقون
بقدرة هؤلاء الأولياء على التصرف في أمور الكون من المسلمين أنفسهم أحسن حالاً
في ذلك كله من المصدقين الذين وصفنا حالهم من قبل، سواء كان سبب إنكار هذا
التصرف كمال التوحيد والعلم الصحيح بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، أو العلم
بسنن الكون ونواميسه وتواريخ الملل وكون هذه الخرافات قد انتقلت من الوثنيين
إلى أهل الكتاب ومنهم إلى المسلمين، فكانت مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر
ضب تبعتموهم. أو: لدخلتموه) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد وغيره.
تفاوت الأرواح وما تسعد به وتشقى:
هذا وإن ما ذكرناه من تفاوت أرواح البشر في أصل الخلق له أصل في
الكتاب والسنة يجب أن نعتبر به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن
كمعادن الفضة والذهب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا،
والأرواح جنود مُجَنَّدَة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) رواه مسلم
هكذا حديثًا واحدًا بهذا اللفظ عن أبي هريرة ورويا حديثين في كل من الصحيحين،
وفي بعض ألفاظ الحديث الأول: (إن الناس معادن في الخير والشر) أي إن
أنفسهم في أصل فطرتها التي تؤثر فيها الوراثة كمعادن الذهب والفضة والنحاس
والحديد والقصدير وغيرهن.
وقال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ
مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: ٧ - ١٠) فالنفس الإنسانية مستعدة
في أصل الفطرة للخير والشر وللفجور والتقوى، على تفاوت في الاستعداد، ولكن
الفلاح والفوز بالسعادة مَنُوطٌ بتزكيتها بالعلم الصحيح وما يترتب عليه من العمل
الصالح، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (خيارهم في الجاهلية خيارهم
في الإسلام إذا فقهوا) والخيبة والشقاء منوطان بتدسيتها أي إهمال صقلها وتزكيتها
بالعلم الصحيح والعمل الصالح، وهو من دس الشيء في التراب مثلاً. ولذلك قال
البيضاوي في تفسير: {دَسَّاهَا} (الشمس: ١٠) أخفاها ونقصها بالجهالة
والفسوق.
فمدار السعادة والشقاء في الإسلام على صقل معدن النفس بالعلم والفضيلة أو
دسه فيما يفسد جوهره من الجهالات والخرافات والرذائل، ومن المعروف عند
الناس كافة أن الجوهر الأدنى يكون بجودة صقله أجمل وأنفع من الجوهر الأعلى
الذي دس في الأرض، ولا سيما الرطبة ذات المواد الملحية. ألم تر أن الذهب
والفضة يفسد جوهرهما بهذا الدس والإهمال، حتى إذا عثر عليهما الناس لا يكادون
يعرفونهما من حيث نرى الصفر المجلو والحديد المصقول يتلألآن كالمرآة فيكونان
أجمل منظرًا وأحسن مرتفقًا وفائدة للناس من الذهب والفضة المدسيان في السبخة؟
ولكن المعدن الأعلى إذا صُقِلَ كما يصقل المعدن الأدنى فإنه يكون أبهج منه منظرًا
وأكرم عند الناس استعمالاً.
فيجب أن نجعل هذه الحقيقة هي الأصل في تربية المسلمين وتعليمهم، وهي
أن سعادة كل فرد من الأفراد محصورة في تزكيته لنفسه بالعلم والفضيلة والعمل
الصالح وشقاؤه بضد ذلك، وإن من فسدت نفسه وخبثت لا ينفعه زكاة نفس غيره
من الأحياء ولا من الموتى لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى لو أعطي هؤلاء
تصرفًا في الكون لَمَا بالوا بمن دسوا أنفسهم وتركوا هداية ربهم اتكالاً على أن يعمل
لهم بعض خلقه ما كلفهم أن يعملوه هم لأنفسهم. ومِصْدَاق هذا الأصل ظاهر في
الأمم كلها لمن سار في الأرض أو قرأ التاريخ قراءة عبرة.
ولذلك كان فيما وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أقرب الناس منه قرابة حين
أنزل الله تعالى عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: ٢١٤) أن دعا
بطون قريش وعمَّ وخصَّ، قال: (يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا
أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا. إلى أن قال: يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار
فإني لا أملك لك ضرًّا ولا نفعًا) رواه أحمد والشيخان في الصحيحين وغيرهم من
حديث أبي هريرة. وفي رواية لأحمد ومسلم وغيرهما من حديث عائشة أنه قال
يومئذ: (يا فاطمة ابنة محمد يا صفية ابنة عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك
لكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم) .
مدار النجاة في الإسلام وفي الوثنية:
وجملة القول أن مدار دين التوحيد على أن النجاة في الآخرة بالإيمان والعمل
الصالح، ومدار أديان الوثنية على أن النجاة فيها بتأثير الصالحين عند الله في نجاة
الضالين، وحسبنا قول الله عز وجل في وصف هذا اليوم: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ
لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: ١٩) وحكم الله في ذلك اليوم مبين في
كتابه كقوله الذي أنزله يوم تفاخر بعض الصحابة مع بعض أهل الكتاب: {لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ
وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ
الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء: ١٢٣-١٢٤) والعبرة عند جمهور أهل السنة
بالخاتمة فهم لا يقطعون بولاية شخص معين كالبدوي ولا بدخوله الجنة؛ لأن القطع
يختص مَن ورد النص بأنهم أهلها كالسبطين سيدَي شباب أهل الجنة والعَشرة رضي
الله عنهم أجمعين.
فيا أيها العلماء حسبكم إهمالاً لأمر عامة هذه الأمة ‍! بَيِّنُوا لها حقيقة دينها،
وأنذروها عاقبة هذه الخرافات التي أفسدت عليها دينها ودنياها، أما ترونها تتسلل
من الدين لواذًا، وتعلن الكفر والفسوق ثبات وأفذاذًا، حتى صاروا يدعون إلى
الإلحاد جهرًا، وإلى ترك الشريعة احتقارًا لها واستكبارًا، زاعمين أن الإسلام دين
خرافات وأوهام، لا يمكن أن ترتقي به الأمة في هذا الزمان، ويستدلون على هذا
بما أشرنا إليه من الضلالات والخرافات الفاشية في الأمة، ومشاركة الكثير من
علمائها لها فيها بحضور هذه الموالد معها، وترك إقامة شعائر الدين والدروس في
المساجد لأجلها، وبتأويل البدع والخرافات لها، واضطهاد مَن تصدى من العلماء
وطلاب المعاهد الدينية لإنكارها كما وقع في دمياط وطنطا والإسكندرية وغيرها.
فاتقوا الله وتداركوها قبل أن يخرج الأمر من يدكم، ولا عذر لكم بعد اليوم بما كنتم
تعتذرون به من سلب الحكام لحريتكم، فإن الدستور الذي كرهه بعضكم قد أعطاكم
من الحرية ما لم يكن لكم، وهو لم يعط الملاحدة والفساق شيئًا لم يكن لهم، فقد
كانت حرية الكفر والفسق تامة وحرية الإسلام صورية ناقصة، على أن نقصها
في مصر كان خاصًّا بالإنكار على الحكام والأحكام، دون ما يتعلق بإرشاد العوام.
ملخص الفتوى:
إن ذلك الخطيب قد قال على الله تعالى ما ليس له به علم، فدخل فيمن
شرعوا للناس ما لم يأذن به الله، وقد دل القرآن والسنة على أن هذا من الشرك،
فإنكار المنكِر عليه صحيح، فإن كان متأولاً أو معذورًا بجهله عذرًا يدرأ عنه الردة،
فعليه بعد العلم أن يتوب توبة صحيحة، وأنا لا أكفر شخصًا معينًا لم أختبر حاله
اختبارًا تامًّا. وأعلم أن أكثر مسلمي هذا العصر لم يلقنوا عقائد الإسلام كما أنزلها
الله تعالى. فأكثرهم يحبونه ولا يعرفونه، والواجب على العالم أن يبين الحق وعلى
من بلغه أن يحاسب نفسه، والقاعدة عند العلماء أن الجهل ليس بعذر في دار
الإسلام إلا لحديث العهد به، ولها فروع وجزئيات في باب الردة وغيرها دقيقة قد
حققناها في مواضع من المنار، والله أعلم.