للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المعاهدة البريطانية الحجازية
وخدعة الوحدة العربية
(٢)

(تعليق وجيز على خلاصة المعاهدة)
لم يظهر لنا أدنى وجه لجعل المسيطر على الحجاز هذه المعاهدة عيدًا للأمة
العربية، فما أبعد الفرق بين معاهدة لوزان التي جعلت الحكومة التركية عيد النحر -
وهو يوم إعلانها - عيدًا وطنيًّا للترك، وبين هذه المعاهدة التي جعل الملك حسين
يوم إعلانها بمكة عيدًا وطنيًّا للعرب؟
معاهدة لوزان قررت استقلال الترك استقلالاً مطلقًا من كل قيد سياسي
واقتصادي واجتماعي، والمعاهدة البريطانية الحجازية قررت استعباد بلاد العراق
وفلسطين وشرق الأردن بالوصاية البريطانية، وبلاد الحجاز بالحماية الإنجليزية،
فتلك جديرة بأن تجعل ذكراها عيدًا وموسمًا، وهذه جديرة إن أمضيت بأن تجعل
ذكرى خزيها مناحة ومأتمًا.
بينت الجرائد المصرية ما في هذه المعاهدة من قيود استعباد العرب والحجاز.
وبيَّن المؤتمر العربي الفلسطيني ما فيها من استعباد فلسطين والاعتراف بالحال
الحاضرة فيها وما هي إلا الاستعمار الإنجليزي بالانتداب المتضمن للوطن القومي
لليهود. وبينت اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني هذا أيضًا وزادت عليه
ما فيها من إقرار الانتداب في سورية الشمالية أيضًا. وإننا نسجل في المنار أهم ما
ظهر لنا من غوائل هذه المعاهدة المشئومة بما لا نعلم أن أحدًا سبقنا إلى مثله،
ونسأل الله أن يقضي عليها بالفشل، وحسبنا من أعياد ملك الحجاز (عيد النهضة)
التي هي علة كل هذا الشقاء.
(المادة الأولى) تنص على منع استعمال بلاد كل من الحكومتين المتعاهدتين
قاعدة لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى.
ليس في هذا النص أدنى فائدة للعرب! بل فيه من الضرر أنه يحظر عليهم
وعلى جميع مسلمي الأرض أن يتواطئوا في الحجاز أو يتشاوروا في أي أمر
ينكرونه على الإنجليز من ظلم شعبهم أو استعباد بعض بلادهم والاعتداء على
حكوماتهم، وكل ذلك واقع.
وسلب المسلمين لهذه الحرية في مهد دينهم ليس مما أعطاه الله لهذا الرجل الذي
نصبه الإنجليز ملكًا على بلادهم المقدسة التي جعل كتاب الله لكل مسلم من الأمن
والحرية فيه مثل ما لهذا الملك وأولاده ورجال حكومته سواء. وأما حكومته فلن تنال
في مقابل ذلك شيئًا، فإن الإنجليز لن يمنعوا مسلمي الهند من الأعمال الموجهة إلى
الإنكار على ملك الحجاز وحكومته وعليهم أيضًا في سياستهم الحجازية والعربية لا
في الهند ولا في إنكلتره نفسها.
وأما (المادة الثانية) فهي مشتملة على ست قضايا بعضها خداع وبعضها
خزي ونكال.
(١) تعهد عاهل بريطانية بأن يعترف باستقلال العرب في العراق وشرق
الأردن والدول العربية في شبه جزيرة العرب ما عدا (عَدَنًا) .
نريد قبل كل شيء أن نفهم معنى هذا الاستقلال، فإن عند الإنكليز ممالك
وولايات تسمى مستقلة وهي ذات نظم مختلفة، فنرى هنا أن الإنجليز لا يزالون
متمسكين بما يسمونه الانتداب - أي الوصاية - على العراق وفلسطين وشرق الأردن
فكيف تكون مستقلة إذًا؟ وهنالك حكومات عربية كانوا جعلوها تحت حمايتهم كلحج
وحضرموت ولا نرى دليلاً يدل على رفع هذه الحماية عنها، والحجاز قد قيدها
(موبقها) بمقررات النهضة من قبل، وقيدتها هذه المعاهدة بما يأتي بعد، فما معنى
استقلال هذه الممالك إذًا؟ وأما حكومات اليمن وتهامة ونجد فهي مستقلة، ولم
ينكر الإنجليز عليها استقلالها وإنما كل همهم تقييدها بعهود واتفاقات وامتيازات
خادعة، تمهد لهم السبيل للعبث باستقلالها عند سنوح الفرص المناسبة. فإذا لم يكن
هذا الاستقلال لفظًا خادعًا فليصرحوا في المعاهدة بإلغاء الانتداب والحماية ... كيف
وهي لم تعقد إلا لتثبيت ذلك وتوكيده كما يعلم مما يأتي في القضية الخامسة، أفيصح
أن تعد هذه نعمة على العرب يأمرهم من سمى نفسه ملكهم بأن يتخذوا ذكرى إعلانه
عيدًا لهم؟
(٢) تعهد العاهل البريطاني بتعضيد هذا الاستقلال. هذه قضية مبهمة
تُخْشَى عواقبها ولا تُرْجَى أوائلها، فإنها باب مفتوح للتدخل في شئون البلاد الداخلية
بحجة تعضيد الاستقلال كما تدخل الإنجليز والفرنسيس في شئون بلاد اليونان في
أيام الحرب فعزلوا ملكها اتهامًا له بأنه يعبث باستقلالها، وقد كانوا صرحوا بأنهم
ضامنون له! فهل تعد هذه سعادة للعرب يجعلون بها يوم إعلانها عيدًا؟
(٣) التصريح بأنه لا حظَّ لعرب فلسطين أصحاب البلاد إلا ما ضمنته لهم
به الحكومة البريطانية في صك الانتداب المرتبط بعهد بلفور لليهود وهو إنه لا
يجري في البلاد شيء يُجْحِفُ بحقوقهم الدينية والمدنية، وهو حق سلبي محض
معناه أن الحكومة البريطانية صاحبة السيادة على البلاد لا تمنعهم ولا تدع اليهود
الذين تجعل هذه البلاد وطنًا قوميًّا لهم أن يمنعوهم من الصلاة والصيام، ولا البيع
والشراء أو من التقاضي إلى المحاكم مثلاً، على أننا علمنا بالتجارب أن كل
ضمان وعهد من قوي لضعيف لا ينفذ منه إلا ما فيه مصلحة القوي، وقد ضمن
ملك الإنجليز لمصر أن يدافع عنها في الحرب الكبرى، ولا يكلفها شيئًا في مقابلة
ذلك، فكان من أمر سلطة جيشه العسكرية أن جعلت جميع ما تملك الحكومة
المصرية والشعب المصري رهن تصرف الجيش، ويُقدر ما استفاده الجيش من
مصر بمئات الملايين من الجنيهات، دع تجنيده لزهاء مليون مصري استعان بهم
على فتح فلسطين والعراق! فهل يصح - والحالة هذه - أن يتخذ يوم إعلان تسجيل
هذه الرزية العظمى عيدًا للعرب؟
(٤) إذا رغبت هذه الحكومات كلها أو بعضها في الاشتراك في الجمارك أو
غير الجمارك بقصد التوسل به إلى عقد حلف بينها فيما بعد، وطلبت من العاهل
البريطاني أن يروج رغبتهم فإنه يسعى لذلك.
ونقول: إن كانت هذه الحكومات مستقلة استقلالاً صحيحًا، فأي حاجة إلى
طلبها من ملك أجنبي أن يروج ما تريد تنفيذه في بلادها من تلقاء نفسها؟ وهل وعد
هذا الملك لهم بالسعي لذلك يصح أن يعد نعمة له عليهم يتخذون يوم إعلانها عيدًا لهم؟
(٥) يعترف (صاحب الجلالة الهاشمية بالمركز الخاص الذي للجلالة
البريطانية في العراق وشرق الأردن) .
ونقول: إن هذا المركز الخاص المذكور بصيغة المعرفة - أي بلام العهد - لا
يمكن تفسيره لغة ولا عُرْفًا سواء كان العهد ذهنيًّا أو خارجيًّا إلا بالحال الحاضرة
التي سموها الانتداب في هذه البلاد الذي اختاروا في تنفيذه أن تكون كل حكومة فيها
على الوضع الذي هي عليه الآن، ومنه حكم فلسطين بما يستغيث أهلها منه من
الإدارة اليهودية والسيادة البريطانية.
ثم نقول على سبيل الإنذار والتحذير: إن استحلال ملك الحجاز لإقرار
الإنجليز على هذا ورضاه به يعد ارتدادًا عن الإسلام بإجماع المسلمين، ولا يوجد
عالم مسلم يمكن أن ينازعنا في هذا بعد العلم به، فهل يصح أن يستبدل بهذا جعْله
نعمة يَمُنُّهَا ملك الإنجليز على (ملك العرب) يأمر هذا بجعل إعلانها عيدًا للأمة
العربية؟
(٦) يتعهد (صاحب الجلالة الهاشمية) بأن يبذل غاية جهده في التعاون
مع جلالته البريطانية على القيام بتعهداته في المسائل التي تقع ضمن نفوذ جلالته
الهاشمية بشأن هذه البلاد.
ونقول: يالله العجب! كيف لم يكتف الإنجليز من هذا الرجل بمطالبته أن
يبذل في سبيلهم دينه وشرفه بأن يعترف لهم بالاستيلاء على بلاد الإسلام المقدسة
والتصرف في رقبتها كيفما أرادوا حتى حملوه على التعهد لهم ببذل منتهى جهده
على القيام بتعهداتهم في المسائل التي تقع ضمن نفوذ جلالته، أي في الحجاز وغيره
من البلاد العربية!! ثم يالله العجب كيف يفرح هو بهذا وذاك ويعلن في بيت الله أنه
يجب على العرب اتخاذ يوم إعلانه عيدًا وطنيًّا؟
(المادتان٣و٤) يفرض فيهما على ملك الحجاز المحافظة على العلاقات
الودية بينه وبين حاكمي عسير ونجد، وأن يسعى لتسوية المنازعات على الحدود
بينه وبينهما بالمفاوضات الودية. ويتعهد ملك الإنجليز في الثالثة بالسعي لتسوية
أمثال هذه المنازعات إذا رغب إليه في ذلك.
ونقول: أما الأول فحسن في نفسه، ويغلب على ظننا أن الملك حسينًا لم
يرض به، وأنه أهم ما أعاد الدكتور ناجي الأصيل إلى لندن لأجل تعديله، ودليلنا
على هذا أنه في أثناء المفاوضة في عقد هذه المعاهدة قد اعتدى على نجد وعسير
فأرسل جيشًا احتل (أبها) عاصمة العسير التي كان نزل عنها المرحوم السيد
الإدريسي لصديقه سلطان نجد عند عقد المعاهدة بينهما، كما أنه اعتدى على بعض
القبائل التابعة لنجد، ولكنه باء بالخيبة والخسران في كلتا الحملتين.
(المادة الخامسة) فيها (يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع
الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود
التي تقرر نهائيًّا) .
هذه هي الطامة الكبرى والصاخة العظمى التي صخت مسامع العالم الإسلامي
فعلا صراخه في جميع الأقطار وهي إهانة حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله
عليه وسلم بجعلهما تحت حماية دولة لا تدين الله بدينهما؛ بل هي طامعة في محوه
وتنصير أهله.
وقد اتفقت الجرائد المصرية والسورية التي ترجمت خلاصة المعاهدة الرسمية
على التعبير بعطف (الممكنة) على (السلمية) وعبر بعضها (بالفعلية) بدل
(السلمية) والعطف يقتضي المغايَرَة، فيكون معناها: والوسائل الحربية الممكنة
أي من برية وبحرية وجوية واحتلال وغير ذلك. وهذا عين ما صرح به فيما يسميه
ملك الحجاز بمقررات النهضة، فهو قد اشترط فيها على الإنجليز حماية البلاد في
الداخل والخارج حتى حال الفتن الداخلية واعتداء الأمراء الحاسدين! !
(المادة السادسة) تنص على تعيين وكيل سياسي بريطاني في جدة ووكيل
سياسي حجازي في لندن، وعلى قناصل حجازيين في إنكلتره والهند، وقناصل
بريطانيين في جميع سواحل الحجاز.
نقول: إن لذة صاحب الجلالة الهاشمية في هذه المادة أنها من مظاهر فخفخة
المُلك الصوري، وإلا فأين المصالح السياسية والتجارية للحجازيين في بلاد
الإنجليز ومستعمراتهم التي تقتضي بذل النفقات العظيمة لتأسيس الوكالات السياسية
والقنصلية في هذه الممالك الواسعة، وأين المال الذي ينفق في هذا السبيل؟ أيؤخذ
من الضرائب والمكوس على أداء فريضة الحج؟
وأما الإنجليز فلهم مصالح كثيرة في تطويق سواحل الحجاز برجالهم
السياسيين والبحريين الحربيين لمراقبة كل ما يدخل في هذه البلاد المقدسة وما
يخرج منها، ولسبر غور هذه السواحل ومعرفة ما يكفي من القوة البرية والبحرية
للإحاطة بها عند الحاجة التي يتوسلون إليها عند سنوح الفرصة باسم الحماية
الممنوحة لهم من الجلالة الهاشمية المالكة المتصرفة بالدين ومعاهده أو باسم
المحافظة على معاهدهم هذه وعلى رجالهم إذا اعتدى عليها أحد من أعراب البلاد -
ولو بدسيسة منهم - وقد عهد في تاريخ الاستعمار البريطاني أن يكون دخول بريطاني
واحد في قطر عظيم مقدمة لسلب استقلاله وإذلال أهله لعظمتهم.
وأخر الأمثلة لهذا قنصلهم في جزيرة البحرين فقد سلب سلطة حكومتها وانفرد
بالتصرف فيها وجعل حاكمها الصالح التقي الجاهل أذل من عير الحي والوتد.
ومن دواعي الأسى والحزن أن هذه الحقيقة قد عرفت مثلها ملكة سبأ العربية
من ألوف السنين ويجهلها صاحب (الجلالة الهاشمية) الذي يظن في نفسه أنه أرقى
الخلق علمًا وخبرة وسياسة وكياسة حتى إن جريدته (القبلة) كانت تدعي أنها تعلِّم
دول أوروبا الخطط الحربية بما ينشره من آرائه فيها، والذي يدعي أن حكومته
شرعية ويقرأ في القرآن قوله تعالى حكاية عن ملكة سبأ: {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا
قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: ٣٤) وقد بلغته
وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أمر جزيرة العرب وأهم المراد منها أن لا يقيم
في بلاد الحجاز غير المسلمين، ولا سيما الطامعين. وإن دخول تاجر إنجليزي في
بلاد شرقية ضعيفة وإقامته فيها ليعد أعظم خطرًا عليها من دخول ملك فاتح من
المتقدمين، فكيف بدخول الرجال السياسيين والحربيين، إذا أعطوا صفات الحماة
المحافظين؟ فإذا كان صاحب الجلالة الهاشمية يجهل تاريخ تأسيس إمبراطورية
الهند بسعي شركة الجلد البريطانية فإن له في سودان مصر وجزيرة البحرين لعبرة
ماثلة؛ إن كان من المعتبرين. وقد بيَّنا من قبل أن الإنجليز قد أسسوا لإدارة
سواحل الحجاز وغيره من بلاد العرب محافظة جديدة سموها محافظة البحر الأحمر
شرعت في أعمالها بهدوء وخفاء.
(المادة السابعة) يعترف فيها ملك الحجاز بنظام الحجر الصحي الذي
اتخذه الإنجليز في جزيرة قمران لأجل الحجر فيها على حجاج الشرق والجنوب،
كما يعترف له ملك الإنجليز (بالتدابير المتممة التي قد تتخذ في جدة أو غيرها من
مرافئ بلاد جلالته) .
ونقول: إن هذه المادة تعترف للإنجليز بما لا تعترف بمثله لدولة مصر
الإسلامية، وموضوع هذه المادة أن يكون عملها في مسألة الحجر على الحجاج متممًا
لعمل الإنجليز في (قمران) لا مستقلاًّ، ولا ندري كيف يكون تنفيذ ذلك، وإنما
ظاهره يدل على ترجيح ملك الحجاز رفض قبول الحجاج الذين يحجر عليهم في
(الطور) محجر الحكومة المصرية الإسلامية، وحتم أن يحجر عليهم، ولو مرة
ثانية في محجره بجزيرة (أبي سعد) مع أن هذا تضييق على الحجاج ليس له
مسوغ شرعي ولا فني.
(المادة الثامنة) يتعهد فيها ملك الإنجليز بأن لا يتدخل في التدابير التي
يتخذها ملك الحئجاز للاعتناء بالحجاج، ويتعهد ملك الحجاز بأن يعضد المساعي
التي يبذلها الرعايا البريطانيين المسلمون لمساعدة الحجاج في الحجاز.
ونقول: لماذا جعل ملك الحجاز لملك الإنجليز حقًّا في الاعتراف له بالاعتناء
بالحجاج، إذا لم يكن هذا مبنيًّا على أن الحجاز داخل في دائرة الإمبراطورية؟ ثم
ما هذا الاعتناء الذي يريده ويرى أنه لا يتم له إلا بإجازة ملك الإنجليز؟ إن الذي
يتبادر إلى الذهن أن العناية بالحجاج إنما تكون بتأمين البلاد وتسهيل الطرق وتوفير
المياه والعناية بمواد الغذاء والنظافة وتحتيم الاعتدال في أجور الجمال والمساكن -
فهل يحتاج شيء من هذا إلى إجازة ملك الإنجليز، وهو من أمور الإدارة الداخلية
المحضة؟ أم لهذه الكلمة معنى سياسيّ خفي يراد به التحكم في الحجاج بمصادرة
أموالهم وضرب المكوس عليهم، وإذا كان هذا أو ذاك يتوقف على إجازة ملك
الإنجليز؛ لأن له رعايا من الحجاج فلماذا لا يتوقف على إجازة سائر الدول
والحكومات التي لها رعايا يحجون كمسلمي الدولة البريطانية، وما وجه تخصيص
هذه الدولة بهذا الحق إذا لم يكن (منقذ الحجاز والعرب) قد جعل كل ما يدخل في
ملكه تابعًا لمستعمراتها؟
ثم إن تعهد ملك الحجاز في هذه المادة بتعضيد مساعي الرعايا البريطانيين
لمساعدة الحجاج في نفس الحجاز يقتضي أن يقبل منهم بعد إمضاء هذه المعاهدة ما
منع منه الحكومة المصرية في هذا العلم من البعثة الطبية المرافقة لركب المحمل
المصري مع أننا رأينا في الاعتذار له عن قبولها أنه يفتح الباب لغير دولة مصر
من الدول غير الإسلامية لإرسال بعثات طبية، فما الذي أباح للبريطانيين ما حرم
على المصريين؟ أليست الدولة المصرية الإسلامية أولى بهذا من الدولة
البريطانية؟ إذا لم يكن الحجاز كله تابعًا لهذه الإمبراطورية؟
(المادة التاسعة) (تنص على تعيين مبلغ محدود كي يدفعه كل حاج) .
ونقول: هذا نص صريح في ضرب المكوس على الحجاج بإطلاق. ولا شك
في أن هذا محرم بإجماع المسلمين ولا سيما إذا جعل شرطًا لدخول الحجاز لأجل
النسك كضريبة جواز السفر، ومن يستحله يكن مرتدًّا عن الإسلام، هذا حكمه
الشرعي، أما حكمه السياسي فيقال فيه ما قيل فيما قبله: لماذا جعل منوطًا بإجازة ملك
الإنجليز له دون غيره من ملوك المسلمين وغيرهم الذين تضرب هذه المكوس على
رعاياهم؟ أَوَلَيْسَ الواجب أن لا يكون في الحجاز نفوذ ولا وجود لأجنبي غير مسلم؟
وماذا يقول ملك الحجاز إذا خاطبته هذه الحكومات بأنه ليس له حق أن
يتقاضى من رعاياهن مكوسًا بغير اتفاق معهن عليها كما اتفق مع الإنجليز؟ أيحتج
بالحماية والوصاية؟ أم يعاملها كما عامل الحكومة المصرية؟
(المادة العاشرة) في الاعتراف بما لرعايا كل من الحكومتين في بلاد
الأخرى من الصفة، وهي مجملة لا يمكن العلم بما فيها من ضر أو نفع إلا بعد بيان
صفة كل منها، وهو لا بد أن يكون مُبَيَّنًا في أصل المعاهدة.
(المادة الحادية عشرة) وما بعدها إلى (السادسة عشرة) في تفصيل
الامتيازات القضائية للإنجليز في بلاد الحجاز، وكل ما يتوقعون أن يدخل في ملك
حسين بن علي وكلها تنافي الاستقلال التام وتنفيذ الشرع الإسلامي في الحجاز في
المسلمين التابعين للدولة البريطانية، وهذه المسألة قد رفض المصريون مثلها في
مفاوضة الإنجليز، وقد رفضها الترك وما زالوا يجادلون ويناضلون في مؤتمر
الصلح حتى أنقذوا دولتهم من رقها، وملك الحجاز يقبلها في الحرمين الشريفين من
تلقاء نفسه بلا موجب ولا مقتضٍ ولا مقابلة لها بمثلها، فما أذل هذا الرجل
للبريطانيين! وما أعزه وأعظم جبروته وكبرياءه على المسلمين! !
(المادة السابعة عشرة) (تعالج الشروط التي بموجبها يعترف صاحب
الجلالة البريطانية بعلم الجلالة الهاشمية) وهي مجملة لا يمكن بيان الرأي فيها إلا
بعد بيان الشروط المشار إليها فيها وستعلم متى نشرت المعاهدة بنصها.
(المعاهدة الثامنة عشرة) تصرح بأنه لا يجوز لأي الفريقين المتعاقدين
الساميين أن يعقد أية معاهدة أو اتفاق مع فريق ثالث ضد مصالح الفريق المتعاقد
السامي الآخر) .
ونقول: إن هذه مادة عادلة في صورتها لما فيها من التساوي، وإنما يقال فيها
ما يقال في المعاهدة بجملتها وهو أن الإنجليز يقيدون فيها الحجاز ولا يتقيدون معه
في شيء بالفعل، كما فعلوا فيما اتفقوا عليه عند حمله على الخروج على الدولة
العثمانية، وذلك أن المعاهدات عند أوروبة حجة القوي على الضعيف، والإنجليز
أبرع الأمم في التفصي من الوفاء بها بالتأويل، كما قال البرنس بسمارك، أو هي
عبارة عن عقد شركة بين طرفين متكافئين في القوة كما قال لويد جورج، وقد لدغ
الملك حسين من هذا الجحر المرة بعد المرة، ولا يزال لاصقًا به متعرضًا لتوالي
لدغه، فلم يكن له حظ من حديث: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) .
(المادة التاسعة عشر) (تنص على أن لا شيء في هذه المعاهدة يبطل ما قد
تعهد به أو قد يتعهد به أحد الفريقين المتعاقدين الساميين بمقتضى عهد جمعية الأمم)
ونقول: إن ذكر الفريقين الساميين هنا كغيره من المخدرات التي تخدر
أعصاب الملك حسين وتشغله بنشوة توهم مساواته بما يسميه (العظمة البريطانية)
فهو ما تعهد بمقتضى عهد عصبة الأمم بشيء وإنما تعهد الطرف الآخر بالانتداب
على أعظم بلاد العرب عمرانًا وخصبًا بالاشتراك بينه وبين فرنسا، فإمضاء الملك
حسين لهذه المعاهدة يسلبه حق مطالبة الإنجليز بتركها هذا الانتداب على العراق
وفلسطين وشرق الأردن أو إلغاء وعد بلفور الداخل في صك الانتداب والوصاية
على فلسطين بمقتضى عهد جمعية الأمم.
(المادة العشرون) في تحديد مدة العمل بهذه المعاهدة وجعله سبع سنين،
وهي المدة التي يقدرها الإنجليز لفض المشاكل وحل المعضلات السياسية
والاقتصادية التي خلفتها الحرب الكبرى، ولتأسيس قوى الطيران والمواصلات
الجوية والحربية في شرق الأردن والعراق ومصر والقوة البحرية ومراكز الدسائس
في سواحل الحجاز وغيرها من البحر الأحمر، وهم يعتقدون أن (ملك البلاد
العربية) سيضطر بعد هذا كله إلى تجديدها بما هو خير لهم وشر له ولبلاده وقومه
منها.
فهذه كلمتنا المجملة المختصرة في النص الرسمي الذي نشر لخلاصتها، وقد
كان من المعقول المتوقع أن يضطرب العالم الإسلامي كله لها، ويستنكر ما فيها من
تدخل دولة غير مسلمة في مهد الإسلام المقدس بالحماية والامتيازات السياسية
والقضائية والحماية وما تقتضيه من الخزي والنكال.
ولكن العجب العجاب أن يشذ مسلمو سورية وفلسطين وحدهم عن سائر
المسلمين؛ إذ لم نر لهم قولاً ولا احتجاجًا في استنكار شيء منها إلا ما أنكروه
أهل فلسطين، وهو ما يخصهم من تضمن المعاهدة لإقرار الانتداب وما فيه من عهد
بلفور. كأن حرم الله تعالى وحرم خاتم رسله صلى الله عليه وسلم لا قيمة لهما عند
أحد من مسلمي تلك البلاد!! ولماذا يطالبون العالم الإسلامي أن يهتم بأمرهم لمكان
المسجد الأقصى منه وهو في المرتبة الثالثة؟ !
فيا ليت شِعري هل جهل علماؤهم ومديرو جرائدهم ومحرروها ورجال الشرع
والقوانين فيها ما فهمه المصريون وغيرهم من معناها، أم هم يرون أن للملك حسين
أن يتصرف في دين الله ومعاهده المقدسة بما شاء، وإن خالف أحكام الشرع المجمع
عليها وكرامة الإسلام ومشاعره العظام بشرط ألا يقر وعد بلفور عند بعضهم؟
فإذا كانوا لا يرون في هذه المعاهدة منكرًا شرعيًّا ولا خطرًا سياسيًّا إلا
تضمنها لوعد بلفور فليبينوا لنا خطأنا فيما فهمناه نحن وغيرنا من المسلمين، وإلا
فليرفعوا أصواتهم في إنكار هذا المنكر، ولهم أن يسلكوا في التعبير الطريق الذي
يفضلونه، والأسلوب الذي يرجحونه، ولا يغفلوا عن كون سكوتهم عارًا عظيمًا
عليهم، وتأييدًا لمرتكب المنكر وتجرئة له على الإصرار عليه، بل الأمر أعظم من
ذلك هو إقراره مع أولاده على القضاء على استقلال بقية البلاد العربية، حتى
الجزيرة التي عزت على جميع الفاتحين من قبل. ولقد كان استعبادهم لمصر
والسودان وحماية فرنسا لمملكة مراكش وسلاطينها (أولاد عم) شرفاء مكة بما
هو دون تداخل الإنجليز في البلاد العربية الآن بمعاونة هؤلاء الأشراف والزعماء!
فليتدبر العقلاء أصحاب الغيرة على أمتهم ودينهم.
((يتبع بمقال تالٍ))