للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مصطفى عبد الرازق


ذكرى رينان في الجامعة المصرية
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني

كلمة المنار في المحاضرة
(٤)

(٤) قال رينان: (إن المسلم يؤمن بأن الله يهب الرزق والسلطان لمن
يشاء من غير نظر إلى تهذيب أو استحقاق خاص، وهو بإيمانه هذا يزدري أشد
الازدراء العلم والتهذيب، وكل ما يدخل في تكوين الروح الأوروبي) .
وإننا نجيب عن هذا جوابًا موجزًا يظهر جهل رينان بالإسلام والمسلمين
ويحبط عمله، ويؤيد ما حققناه في معنى رد السيد جمال الدين عليه، فنقول:
إن عقيدة المسلمين في المشيئة الإلهية أعلى وأرقى من فلسفته، ومِن علم
جميع فلاسفة الأرض، وإن زعم أن عقول العرب ولغتهم لا تسع شيئًا من علم ما
وراء الطبيعة. فهم على موافقتهم لغيرهم من المؤمنين بالله في إثبات المشيئة
والإرادة له تعالى يقولون: إن متعلقات هذه المشيئة قسمان: قسم قدري تكويني،
وقسم ديني تشريعي، وبين القسمين العموم والخصوص المطلق فيجتمعان في بعض
الأمور وينفرد أحدهما ببعض.
فأما ما يجتمعان فيه فمثاله كسب الرزق من الحلال وإنفاقه في سبيل البر
والخير، ونيل الرجلِ العالمِ العادلِ السلطانَ باختيار الأمة وإقامته ميزان العدل فيها.
وأما ما ينفرد به أحدهما عن الآخر فمثاله كسب الرزق من الطرق المحرمة
كالغش والخيانة، ونيل الإمارة والسلطان بالتغلب والقهر، فهذا مخالف لدين الله
وشرعه، ولكنه لا يقع إلا بمشيئته التكوينية وقدره، ومعنى هذا أنه سبحانه جعل
نظام هذا العالم مبنيًّا على الأسباب والمسببات وجعل لذلك سننًا عامة وهي ما يُعَبَّر
عنه في عرف العصر بالنواميس الطبيعية والاجتماعية، وفي عرف القرآن بالأقدار
والمقادير وبالسنن. قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: ٣) .
وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ
بِمِقْدَارٍ} (الرعد: ٨) أي فلا شيء منها بُجزاف ولا بخارج عن النظام، فمن
راعى هذه السنن في الكسب، وفي الاستيلاء على البلاد والعباد قد ينال ما سعى
إليه بمشيئة الله التكوينية وقدره في نظام العالم، وإن لم يراع شرعه وهداية دينه في
أسباب ذلك ولا في نتائجه كاستيلاء المستعمرين من قومه وغيرهم بإتقان أسباب
القوة على المستضعفين المهملين لها.
ولما كان المسلمون يفهمون أصول دينهم حق الفهم كانوا يتحرون الجمع بين
أحكام الشريعة الدينية الآمرة بالحق والعدل والفضيلة والإحسان، وبين مراعاة سنن
الله في غيرهم، فاجتمع لهم بهداية دينهم الحضارة والسيادة، والغنى والنعمة،
والعدل والفضيلة والتقوى.
ولما استحوذ عليهم الجهل والضعف بتوسيد أمور حكومتهم إلى غير أهلها
وتغلب همج الأعاجم عليهم بالقوة القاهرة - أعرضوا عن النظر في سنن الله
الاجتماعية وعن هدايته الدينية معًا، وكان مما أدخله جهلة الصوفية ومبتدعة
الجبرية في عقائدهم بدسائس حكامهم أن المُلك والرزق والظلم والفسق كلها من قدر
الله تعالى فيجب الرضا بها، وعدم الاعتراض عليها، وكذا عدم مقاومتها بالأَولى،
وبنشر هذه السموم طال ملك أولئك الظالمين، وتمتع أولئك الفاسقون، حتى سلبه
منهم من هم أشد مراعاة لسنن الكون والاجتماع، وكل هذا مخالف لنصوص القرآن
والسنة ولما قرره الأئمة الراسخون في العلم من المتكلمين والصوفية أيضًا كالشيخ
عبد القادر الجيلاني الذي صرح بوجوب مقاومة الأقدار بالأقدار، أخذًا من قول
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي وافقه عليه جمهور الصحابة: (نَفِرُّ مِن قَدَر
الله إلى قَدَر الله) قال هذا حينما قرَّر بعد مشاورة جميع شبانهم وشيوخهم عدم
دخول الشام والوباء فيها. ومثل ذلك وجوب مقاومة الظلم وأهله، فليس في الإسلام
مثل ما في الإنجيل من وجوب الخضوع لكل سلطة لأنها من الله ‍! بل فيه ضده كما
سيأتي، وإنما ذلك من خرافات المتصوفة.
وإنه يحق لرينان أن يسخر من جميع المسلمين بما علمه هو وقومه من فشو
هذه الضلالة بين مسلمي الجزائر وسائر إفريقية حتى تسنى لمن تلبس بالإسلام
وتعمم بعمائم شيوخ الطريقة (من قومه) أن يبثوا فيهم وجوب الرضا بسلطتهم
وتحريم التبرم بهم والكراهة لشيء من أحكامهم وأعمالهم بشبهة أنه يتضمن
الاعتراض على الله والكراهة لقضائه وقدره بزعمهم! وأنَّى لأولئك المحرومين من
علوم الدين والدنيا أن يميزوا بين الرضا من الله تعالى وعدم الاعتراض عليه،
وبين ما أوجبه من عدم الرضا بالمقضي والمقدور نفسه إذا كان ضارًّا أو مخالفًا
للشرع، ومن وجوب مقاومته بما يعلم من سنن الله تعالى وأقداره؟ ومثاله المرض:
لا نعترض على الله تعالى إذا مرضنا ولا نسخط على تقديره إصابة من يتعرض
لأسباب الأمراض فيها، ولكن يجب أن نكره المرض وأن نقاومه بالدواء والمعالجة
بعد وقوعه، وباتقائه قبل وقوعه، كما فر جمهور الصحابة من الشام. ولم يدخلوا
البلد الذي وقع فيه الوباء منها بالإجماع فثبت بهذا أن ما ينكره على مسلمي إفريقية
وأمثالهم إنما هو مخالفة قواعد الإسلام لا الاهتداء بها.
وإننا نذكر للمفتونين بفلسفة رينان والمشيدين بفلسفته من قومنا بعض الشواهد
من نصوص القرآن على أن مشيئة الله التشريعية لا تقضي بأن يكون السلطان في
الدنيا لمن لا أهلية له ولا استحقاق ولا مزية في الفضل، بل الأمر بالضد.
(أ) أخبرنا الله تعالى في سورة البقرة أنه وعد نبيه وخليله إبراهيم صلى
الله عليه وسلم بأنه يجعله إمامًا للناس فسأله إبراهيم أن يجعل من ذريته أئمة مثله
فأجابه تعالى بقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: ١٢٤) أفليس هذا نصًّا
صريحًا في أن الإمامة والسلطان في الناس لا يكونان عهدًا من الله تعالى لأحد من
الظالمين، وإن كانوا من ذرية الأنبياء المرسلين؟ بلى! وقد فهم هذا الحكم من الآية
أئمة المفسرين، فقالوا: إن الآية تدل على أن الظالم لا يصح في دين الله أن يكون
إمامًا للناس في أمور دينهم ولا أمور دنياهم، أي لا يكون خليفة ولا سلطانًا ولا
أميرًا، وقد ذكرنا بعض أقوالهم في فاتحة كتاب الخلافة وفصلنا المسألة فيه.
(ب) قال تعالى في الآيات التي أذن فيها للمسلمين بأن يقاتلوا من قاتلوهم
من أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم بغير حق، بل لأجل توحيدهم لله عز وجل:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
المُنكَرِ} (الحج: ٤١) فالدين الذي يشترط على أهله في المدافعة عن أنفسهم
وإعطائهم السلطان في الأرض أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، هل يقال:
إنه يعطي السلطان لمن شاء بدون تهذيب ولا استحقاق؟ والآيات والأحاديث في هذا
المعنى كثيرة.
(ج) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: ١٠٥) ومعلوم أن الصلاح ضد الفساد. وقد
ذم الفساد والإفساد في الأرض من الملوك وغيرهم وتوعدهم في عشرات من الآيات
في سور كثيرة. قال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: ٢٨) وهذا دليل على أن المراد
بالصالحات أعم من العبادات البدنية؛ لأنه مقابل لكل ما فيه إفساد في الأرض،
وهو يشمل إفساد النبات والحيوان والإنسان، بأي طريق وأي وسيلة وكل شكل من
أشكال الفساد، كما أن إرث الأرض فيها عام يشمل الدنيا والآخرة، فلا يرث
الأرض في حكم الله ومقتضى دينه إلا الصالح، وخص الأرض بعض المفسرين
هنا بالمقدسة وبعضهم بالجنة، ويدل على إرث الملك والسلطان في الأرض المقدسة
أو مطلقًا آية الشاهد التالي وهو:
(د) قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: ٥٥) الآية.
(هـ) قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) فسر بعضهم الظلم هنا بالشرك أخذًا من قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: ١٣) ومن غيره. والمعنى أنه ليس من سنة الله أن يهلك
الأمم بسبب الشرك به إذا كان أهلها مصلحين في الأرض بالعدل والعمران، وقال
بعضهم: إن المعنى: وما كان من شأن ربك ولا مما مضت به سنته في العمران أن
يهلك الأمم بظلم منه وهم مصلحون في أعمالهم - إي إذا أهلكهم وهم مصلحون يكون
ظالمًا لهم، وهو منزَّه عن الظلم. ويؤيده ما ورد من الآيات الكثيرة في إهلاك
الظالمين، وإدالة الدولة للعادلين المصلحين، ونكتفي منها بالشواهد الثلاثة الآتية.
(و. ز. ح) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: ١٠٢) وقال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ *
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (إبراهيم: ١٣-١٤) وقال: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (الحج:
٤٥) وحث بعدها على السير في الأرض والاعتبار بآثار الأمم.
هذا قليل من كثير من شواهد القرآن على أن الله تعالى لا يعطي السلطان في
الأرض لمن يشاء من غير أهلية ولا استحقاق مطلقًا كما زعم رينان بل هو يعطيها
لمن يشاء من أهل العدل والإصلاح، ولو بالنسبة إلى غيرهم، وإن لم يكونوا
عادلين ومصلحين مطلقًا.
وأما مسألة الرزق فليس من سنة الله في الاجتماع البشري أن يخص الله
بالرزق الصالحين المصلحين ولا المفسدين بل قال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ
عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: ٢٠) ولكنه على هذه السنة
قد خص أهل التقوى والاستقامة بما يؤخذ من الشواهد الآتية:
(ط) قال تعالى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (الجن: ١٦) .
(ي) قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ
يَحْتَسِبُ} (الطلاق: ٢-٣) ولكنه قرن الرزق بالسعي بما يدل عليه:
(ك) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: ١٥) .
(ل) قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ
عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: ٧) قال الربيع رضي الله عنه: أي أنهم إذا شكروا
النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم في الرزق. ومِن شُكْرِ النعمة عند علماء الإسلام
حفظُها وحسنُ التصرف فيها بوضعها في مواضعها من غير إسراف ولا تبذير.
وأما نَوْطُ الرزقِ وغيرِهِ بالكسب العملي فالشواهد عليه من الكتاب والسنة وأقوال
السلف الصالح كثيرة.