للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخلاف بين مصر والحجاز

لما بلغنا أن ملك الحجاز أبى قبول البعثة الطبية المصرية التي أرسلتها
الحكومة المصرية مع ركب المحمل المصري - ظننا أنه يريد بهذا المنع أن يُري
المصريين وحكومتهم من أمر استقلاله ما يعرفون به خطأهم في قولهم: إنه وضع
البلاد تحت حماية الإنجليز.
ولما بلغنا أن الحكومة المصرية تريد إرجاع ركب المحمل المصري من جدة مع
ما يحمله من المال والغلال لأهل الحجاز إذا أصر الملك على منع البعثة الطبية
المذكورة - كتبنا مقالاً وجيزًا نشرناه في جريدة الأهرام نصحنا فيه للحكومة المصرية
بأن لا تفعل ذلك وأنه لا يجوز لها شرعًا أن تمنع رجال ركب المحمل ولا غيرهم من
الحج - وكانوا قد شرعوا فيه ووصلوا إلى جدة مُحْرِمِينَ به - وأن ملك الحجاز إذا
كان مستبدًّا غير مقيد في أحكامه بشرع ولا قانون يمنعه عن رد البعثة الطبية، فهي
ليست كذلك، وأن عليها أن تستفتي في مثل هذه المسألة الشرعية علماء الدين،
وارتأينا أن تأمر بعثتها الطبية بأن لا تمتثل أمر ملك الحجاز إذا أراد ردها وعدم
تمكينها من أداء المناسك أو معالجة من يحتاج إلى معالجتها من الحجاج؛ لأنه منع من
عمل شرعي لا يملكه ولا تباح طاعته فيه شرعًا. فإن افترضنا أنه أمر رجال حكومته
بمنع الأطباء أو غيرهم من ذلك بالقهر دافعوا عن أنفسهم- أي كما ورد في كتاب
الصيال من الشرع الإسلامي- وبيَّنا أننا نعتقد أنه لا يفعل؛ لأنه لا يجهل ما في ذلك
من التبعة وسوء الأحدوثة، وقد حمد رأينا هذا المعتدلون، ولم ينكره الغالون في
الإنكار على ملك الحجاز والمبالغون في الطعن فيه.
وأما الحكومة المصرية فقد استفتت شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية في
المسألة استفتاء مبهمًا غير منطبق على النازلة؛ فإنها بَنَتْ الاستفتاء على جواز منع
الحج إذا لم يكن هناك أمن أو كان خطر على الصحة، وأين الخوف أو الخطر؟ أما
حفظ الأمن حيث تؤدى المناسك من الحجاز فلا تقصير فيه، وقد نوَّه المنار به
مرارًا، وصرَّح بأن أكبر حسنات الملك حسين شدة عنايته بالأمن وراحة الحجاج
بقدر طاقته، وهو قادر على ذلك فيما بين جدة وعرفات ولا يتجاوز المصريين ذلك،
وأما الوباء فالظاهر أن الحكومة المصرية كانت تتوقع حدوثه في الحجاز؛ لوجوده
في الهند، وعلى هذا كان يتحتم عليها إبقاء البعثة الطبية وركب المحمل وإلقاء
تبعة كل ما يعمله الملك حسين عليه كما نصحنا لها، وليست هذه التبعة بالأمر
الهين. ولو وقع الوباء - والعياذ بالله تعالى - لما أمكن لها أن تبرئ نفسها من
التبعة، ولفضحت حكومة الحجاز شر فضيحة بعجزها عن القيام بما يجب للحجازيين
وللحجاج؛ إذ ليس عندها أطباء ولا أدوات وعقاقير تكفي لذلك.
وقد علمنا بعد ذلك أن مثار الخلاف أمر مادي محض، ذلك بأن السلطة
البريطانية كانت منذ انضم الملك حسين إلى دولتهم في الحرب ترسل إليه جميع ما
هو مخصص للحجاز من الأوقاف ومن الحكومة المصرية، وكان يتصرف فيه كما
يشاء على أن بعضه لأهل المدينة المنورة التي كانت إلى ما بعد هدنة الحرب في يد
الترك وللأعراب الذين على الطريق إليها، ثم إن حكومة مصر أرادت أن تتولى
توزيع هذه المخصصات بأدائها إلى أهلها؛ إذ بلغها كما بلغنا نحن - والله على ما
نقول شهيد - أن الملك لا يعطي كل ذي حق حقه منها، ومما نقله إلينا بعض
الحجاج الذين بلَّغهم في الحجاز مَن يثق بأمانتهم أنه في بعض السنين لم يُعطِ أحدًا
شيئًا وأن بعض المستحقين في المدينة المنورة ماتوا جوعًا، وأنه في سنة أخرى،
ولعلها التي قبل هذه السنة أعطى النصف. والحكومة المصرية أعلم منا بما هنالك؛
لأن لها تكية في مكة المكرمة وأخرى في المدينة المنورة والمستخدمون المصريون
فيهما أجدر بمعرفة هذا الأمر من غيرهم.
بل نقول: إن الملك حسينًا كان يتوسل بالإنجليز إلى الاستيلاء على جميع
أوقاف الحرمين الشريفين في مصر؛ ليتولى إدارتها برجال من قِبَلِهِ، وبلغنا أنه
كان موعودًا بذلك ولكن حال دون الوفاء به استقلال مصر فعظم عليه الأمر، ورأى
أن يتوسل إلى أخذ المخصصات المذكورة بمشاكسة الحكومة المصرية، ولم يجد
شيئًا يُشَاكِسُهَا به إلا مسألة البعثة الطبية، فأهان رجالها في جدة بجعلهم كالمجرمين
المحجور عليهم تحت خفارة رجال الشرطة في مقامهم وفي انتقالهم من مكان إلى
آخر، فكبرت هذه الإهانة على الحكومة المصرية ولكنها لم تحسن التصرف في
تلافيها بحسب ما وصل إليه علمنا إلى وقت كتابة هذه السطور؛ إذ لم تطبقه على
أحكام الشرع الإسلامي تطبيقًا صحيحًا، ولولا الحالة الشرعية وما لها من الأحكام،
لكان عملها من قبيل المعهود في مثل هذه الأحوال، والناس ينتظرون بلاغًا رسميًّا
منها يوضح الخفايا ويعرف بمقابلته ببلاغ حكومة الحجاز ما يُمَكِّنُ كلَّ مطلعٍ مِن
الحكم في المسألة من كل وجه.
حدث هذا الخلاف في أثناء اهتياج المسلمين من المعاهدة البريطانية الحجازية
فكان ضغثًا على إبالة، كان للناس مطعن في ملك الحجاز فصار لهم مطعنان، فكان
الطعن فيه شغل جميع الجرائد، وقد أسرف فيه بعض الكُتَّاب بما خرجوا عن الأدب
والذوق، وصورته جريدة اللطائف المصورة بصورة حمار حوله الحشيش ... فكان
عملها أقبح خزي أعماها الطمع عن سوء موقعه من المسلمين الذين يحترمون مكانته
ومكانة نسبه وسنه، وإن أنكروا سياسته وعمله، وتجاوز بعضهم خطة الإنكار إلى
الغميزة والازدراء، والتهكم والاستهزاء، ونبزه بعضهم بلقب البدوي وصفة البداوة،
وما هو إلا ربيب مكة والآستانة ومكة أقدم مدن الأرض حضارة، ووجهاء أهلها على
أدب جم، وإنما اشتهر سُوقَتُهَا بالشراسة، ولعمر الحق إن الملك حسينًا لَمِنْ أرقى
الناس آدابًا، وإنه لا يوجد في أرقى طبقات المصريين والترك مَنْ يَفْضُلُهُ في ذلك،
لولا أنه على كبريائه يجاهل الجرائد، ويطعن في الأفراد والجماعات والشعوب في
جريدته (القبلة) حتى في منشوراته الرسمية، ولو تنزه عن هذا لكان خيرًا له، ولما
وجد الناس مجالاً للكلام فيه إلا من ناحية سياسته ولغته وما يتعلق بهما، وكأن الله
تعالى سلط عليه الناس جزاء له! فإن كان بعضهم قد قدح فيه بالباطل، فقد وجد من
يدافع عنه وينصره بالباطل أيضًا، وقد كان طعن جريدة القبلة في المصريين أن
شبهتهم بالبقر والغنم، وجعلتهم إخوة الثوم والبصل، وكفَّرَهم الملك في منشور رسمي
بإنشائهم الدستور. وهددهم نجله الأمير عبد الله بما ينبئ أنه لولا الإنجليز لقام بما هو
مستعد له من غزوهم وفتح بلادهم كما فتح الطائف! وقد نسي أنه عجز عن فتح قرية
الخرما، وأن والده لم يُخْرِج التركَ من الممالك الهاشمية - الطائف ومكة وجدة - إلا
بجيشهم وأموالهم، ولعله لا يجهل أن دخل رجل واحد من مزارعيهم أعظم من دخل
(حكومة الشرق العربية) ذات الوزراء والألقاب الفخمة.
ونحن على علمنا بهذا كله نقول: إن الجرائد المصرية أسرفت في الطعن في
الرجلين؛ لأن المنار لا يكتب إلا ما يعتقد أنه الحق، ويحاسب صاحبُه في ذلك
نفسَه على خطرات القلب، والذي ظهر لنا من الحق في هذه المسألة أن الملك
حسينًا أخطأ شرعًا ورأيًا في منع البعثة الطبية المصرية أن تعمل بحريتها كل ما
تراه من الاستعداد لمعالجة الحجاج المصريين وغيرهم عند الحاجة إليها، فإنه ليس
له حق أن يمنع أحدًا من المسلمين هنالك من شيء إلا إذا كان مخالفًا للشرع كما بيَّنا
ذلك بالتفصيل في مقال الاستفتاء في أمره وأعماله وسياسته.
وإذا كان يخاف أن يفضي ذلك إلى تدخل النفوذ الأجنبي في الحجاز من هذه
الناحية، فما عليه إلا أن يسن للحجاز قانونًا سياسيًّا يصرح فيه بأن جميع الحجاج
أحرار في كل ما لا يخالف الشرع، وأنه لا يجوز أن يكون لأي دولة من دول
الأرض أدنى نفوذ ولا تداخل في شئون الحجاز الداخلية بسبب وجود حجاج من
رعاياها فيه. ولكن مشروع المعاهدة التي فرض على الأمة العربية جعلها عيدًا لها
قد جعلت للإنكليز عدة امتيازات في الحجاز كما بيَّنَّاه في تعليقنا عليها.
وأما الحكومة المصرية فقد أخطأت في إرجاع ركب المحمل المصري ومنه
البعثة الطبية، وأما إرجاع النقود والأقوات المخصصة لأهل الحرمين في هذا العام،
فإن كان سببه أن الملك لا يمكنها من إعطائها لمستحقيها بحجة منافاته لاستقلاله
في ملكه - فالذنب عليه لا عليها، وإن كان انتقامًا منه لمغاضبته إياها وإهانته لبعثتها
فالذنب عليها، فإنَّ ما يقع بين الحكومات من الأمور المنافية للحقوق الودية يتلافى
بغير هضم حقوق الأفراد كشرفاء الحرمين وفقرائهما الذين لا ذنب لهم.
ويجب أن تعلم الحكومة المصرية والرأي العام المصري أن ما هو موقوف
على الحجاز وأهله من أرض مصر فصرفه إليهم واجب شرعي لا مِنَّةَ لأحد في
أدائه إلى أهله، وأن ما يُرْسَل من الصدقات غير المستحقة لهم - ونحن غير واقفين
على تفصيلها - فإن لمصر به مكانة ومنزلة في المعاهد المقدسة، وفي سائر العالم
الإسلامي ينبغي لها أن تحافظ عليها، ولا تلتفت لكلام بعض الماديين المارقين الذين
لا يفقهون للمكانة الروحية والمنزلة الأدبية معنًى، وسنوضح هذا إن احتيج إليه
في فرصة أخرى.
هذا وإن كلاًّ من حكومتي مصر والحجاز الحاضرتين مؤقت، فإذا لم يفصلا
هذا الخلاف بالحق والعدل، وبما يحفظ لمصر مكانها من الفضل، فلا يكون ما
يقررانه مبرمًا دائمًا، أما مصر فستخلف حكومتها الوزارية الحاضرة حكومة
الدستور المقيدة بمجلس النواب والأعيان، وأما حكومة الحجاز فلا يمكن الجزم الآن
بما يكون من أمرها، وإنما المجزوم به أنها لن تبقى حكومة شخصية مطلقة خلافًا
لشريعة الإسلام، وبالرغم من أنوف مئات الملايين من المسلمين؛ لأن الدولة
البريطانية تريد ذلك، والمعقول الموافق للمصلحة الإسلامية العامة ما اقترحناه من
قبل في أمرها، وهو الذي سيكون إن شاء الله تعالى، وحينئذ يتعاون العالم
الإسلامي كله على رفع شأن الحجاز من كل وجه، ويكون لمصر القَدَح المُعَلَّى في
ذلك.
هذا وإن كثيرًا من المصريين كانوا يظنون أن الإنجليز هم الذين أثاروا هذا
الخلاف بحمل الملك حسين على رد البعثة الطبية لغرض لهم في ذلك كثر البحث
فيه والسؤال عنه، وكنا نقول لمن يسألنا عن رأينا في هذا: إنها تصدق على مثلهم:
لا نخلق الفرص ولا نضيعها.. .
وكان الكثيرون يظنون أن الملك المذكور يوشك أن يؤذي الحجاج المصريين
انتقامًا من حكومتهم، وكنا نجزم بأن الخلاف إنما يحمله على تحري إرضائهم بأشد
مما يعنى بإرضاء غيرهم؛ ليكونوا دعاة له ومدافعين عنه، وكذلك كان.