للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


هل كان النبي صلى الله عليه وسلم
يعرف لغة غير العربية

(س ٢٥) من صاحب الإمضاء الطالب في الأزهر:
مولانا الأستاذ الفاضل محمد رشيد رضا نفعنا الله بمواهبه. آمين:
لقد احتد الجدال بين عالمين مسلمين فلسطينيين في: هل كان النبي عليه
السلام يعرف اللغات كلها أو اللغة العربية فقط؟ ولقد قبل الطرفان فتواكم، ورضيا
بقولكم لحل هذه المعضلة، وكشف هذه المسألة. نرجو من الله أن يهدي المسلمين
إلى ما فيه الخير الجزيل. وأن يبعدهم من التعصب الذميم. وفي الختام تقبلوا
تشكراتنا القلبية سيدي.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد فريد الشطي
... ... ... ... ... ... ... ... طالب علم بِرِوَاق الشوام
(ج) قد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أميًّا لم يتعلم قراءة ولا
كتابة، ومن المعلوم بالقطع الثابت بكتاب الله تعالى وبالتواتر أنه عربي أمي، فالعلم
بلغة غير لغة قومه لا يكون إلا بالتعلم وهو لم يتعلم. أو بالوحي وقد كان الوحي
إليه بلسانه قطعًا بنص القرآن ولم يثبت ما يخصص هذا النص أو يقيد إطلاقه، بل
ثبت ما يؤيده وينفي ما عداه كقوله تعالى في سورة النحل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل:
١٠٣) نزلت في عبد لبني الحضرمي رومي كان يقرأ الكتب، وقيل في قين
(حداد) رومي كان يعمل السيوف بمكة مع أخ له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
وآله وسلم يحب أن يرى هذه الصنعة فيختلف إليه. فقال بعض المشركين: إنه
يتعلم منه فحجَّهم الله تعالى بقوله: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: ١٠٣) ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم شيئًا ما
من اللغات الأعجمية لكانت الرومية؛ لاختلاط بعض قريش بالروم عند اختلافهم إلى
بلاد الشام التي كانت تحت سلطان الروم، ولو عرف الرومية لكان للشبهة المذكورة
وجه ما من جهة اللغة، ولكان ردها من طريق آخر أقوى من طريق اختلاف اللغة
كأنْ يقال: إن الذين يلحدون إليه جاهل بكل علم من علوم القرآن، كعقائد التوحيد
والتنزيه للخالق وأصول الشريعة، وحقائق الآداب، والفصل فيما حرفه وما نسيه
أهل الكتاب من دينهم.. . وأنى لعبد بني الحضرمي أو ذلك القين الرومي أن يعلم
شيئًا من هذا؟ ولكن اختلاف اللغة الذي لا مكابرة فيه أغنى عن هذا البرهان الذي
لا يعقله إلا من عرف القرآن، وكان أكثر المشركين وقت نزول سورة النحل بمكة
لا يعرفون من القرآن شيئًا؛ لأن رؤساء قريش كانوا يصدون الناس عن النبي
صلى الله عليه وسلم كما يصدونه عن التبليغ بقراءة القرآن، فلهذا كان الرد عليهم
باختلاف اللغة المانع من الأخذ والتلقي، أقوى في الإقناع.
هذا وإن بعض العلماء قد ذكروا بحثًا نظريًّا في احتمال تعليم الله خاتم رسله
لجميع خلقه جميع ألسنتهم؛ لقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ
لَهُمْ} (إبراهيم: ٤) وأيدوه بنطقه صلى الله عليه وسلم بكلمات مفردة قيل: إنها
أعجمية، وإننا نورد أصح ما روي في ذلك ونبين غلط الاحتمال فيه وهو ما جاء
في صحيح البخاري قال: (باب من تكلم بالفارسية والرطانة) [١] وقوله تعالى:
{وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (الروم: ٢٢) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم: ٤) ثم ذكر بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قلت: يا
رسول الله ذبحنا بُهَيْمَةً [٢] لنا وطحنت صاعًا من شعير، فتعال أنت ونفر فصاح
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع لكم سورًا فحيهلا
بكم.... الحديث. ثم ذكر بسنده من طريق عبد الله بن المبارك عن أم خالد بنت
خالد بن سعيد قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميص
أصفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سنه سنه) قال عبد الله: وهي
بالحبشية حسنة. الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في كلامه على الآيتين من ترجمة الباب: كأنه أشار إلى
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف الألسنة؛ لأنه أرسل إلى الأمم كلها على
اختلاف ألسنتهم فجميع الأمم قومه بالنسبة إلى عموم رسالته فاقتضى أن يعرف
ألسنتهم؛ ليفهم عنهم ويفهموا عنه، ويحتمل أن يقال: لا يستلزم ذلك نطقه بجميع
الألسنة لإمكان الترجمان الموثوق به عندهم. اهـ.
أقول: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي العلم بجميع اللغات ليفهم
عن جميع الأمم التي أرسل إليها ويفهموا عنه لكان ذلك من أعظم المعجزات الحسية
التي لا يمكن لأحد أن يكابر فيها ولتحققت العلة بخطابه للأعاجم الذين بدأ بدعوتهم
إلى الإسلام كهرقل قيصر الروم وكسرى الفرس والمقوقس عظيم القبط، ولكن
صح أنه كتب إليهم بالعربية، ولم يُنْقَل قطُّ أنه دعا أعجميًّا إلى الإسلام بلغته، ولا
أنه سمع من أعجمي كلامًا بلغته في شأن الإسلام، ولا أمر أصحابه وأتباعه بأن
يبلغوا الإسلام للأعاجم بلغتهم، بل الذي ثبت ثبوتًا قطعيًّا خلاف ذلك، وهو أنه كان
يدعو إلى الإسلام هو وأصحابه باللسان العربي وبالقرآن العربي، وكانوا يعلمون
كل من أسلم من الأعاجم اللسان العربي ولذلك انتشر هذا اللسان بانتشار الإسلام منذ
العصر الأول من غير مدارس أنشئت لذلك ولا إجبار للأمم التي فتح الصحابة
والتابعون وتابعو التابعين بلادهم كما تفعل أمم أوربة في البلاد التي يستعمرونها،
بل كان الذين يدخلون في الإسلام يتعلمون لغته لأجل القيام بما فرض الله عليهم من
التعبد بكتابه المُنَزَّل، والتفقه فيه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله هذا البحث في أول رسالته في أصول
الشريعة فذكر الآيات التي تصف القرآن بأنه عربي مبين، وآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: ٤) وذكر الاحتمالين المُشَار إليهما:
هل النبي صلى الله عليه وسلم أُوتِيَ ألسنة جميع من أُرْسِلَ إليهم أم كُلِّفُوا هم أن
يعرفوا لسانه كما كُلِّفُوا أن يعرفوا دينه؟ وجزم بالثاني وأقام عليه البراهين ووافقه
جميع علماء المسلمين؛ فلم يُنْقَل عن أحد من المجتهدين ولا المقلدين أنه عارضه
فيه أو أنكره عليه، وقد فصَّلنا ذلك في مقالتين ننشرهما في الجزء العاشر الآتي.
فالمسألة إجماعية وقد عجبت لسهو الحافظ ابن حجر عنها في هذا المقام على سعة
اطلاعه وذكره لخلاصة أقوال المحققين في شرح كل حديث في الباب اللائق به،
وقد ذكر أن الغرض من حديث جابر هنا أن كلمة (سور) بضم السين وسكون
الواو غير مهموز فارسية، وقيل حبشية وأن معناها الطعام الذي يُدْعَى إليه، وقيل
مطلقًا. كما أن كلمة (سنه) حبشية، وقال: إنها في رواية الكشميهني (سناه)
بزيادة ألف، وإن الهاء فيهما للسكت (قال) قال ابن قرقول: بفتح النون الخفيفة
عند أبي ذر وشددها الباقون، وهي بفتح أوله للجميع إلا القابسي فكسره اهـ.
وروى البخاري في هذا الباب حديثًا ثالثًا عن أبي هريرة وهو أن الحسن بن
علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم له:
(كَخٍ كَخٍ، أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة) .
وقد قال الحافظ بعد إيراد الثلاثة: وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة
أعجمية؛ لأن الأول (وهو سور) يجوز أن يكون من توافق اللغتين. والثاني
(وهو سنه) يجوز أن أصله حسنة فحذف أوله إيجازًا، والثالث من أسماء
الأصوات.
وقد أجاب عن الأخير ابن المُنَيِّر فقال: وجه مناسبته أنه صلى الله عليه وسلم
خاطبه (أي الحسن) بما يفهم مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل فهو كمخاطبة
العجمي بما يفهم من لغته. قلت: وبهذا يجاب عن الباقي ويزاد بأن تجويزه حذف
أول حرف من الكلمة لا يُعْرَف، وتشبيهه بقوله: (كفى بالسيف شا) لا يتجه لأن
حذف الأخير معهود في الترخيم، والله أعلم اهـ. كلام الحافظ في كتاب الجهاد،
وقال في الكلام على حديث جابر في غزوة الخندق: إن كلمة (سور) معناها الصنع
بالحبشية، وقيل: العرس بالفارسية، ويطلق أيضًا على البناء الذي يحيط بالمدينة
اهـ.
ونقول: الصواب أن معنى الكلمة بالفارسية الوليمة أي طعام العرس، ولا
يطلق على طعام جابر إلا بِتَجَوُّزٍ؛ فإذا لم يكن هذا اللفظ معربًا من قبل فيكفي أن
يكون صلى الله عليه وسلم هو الذي عربه، وكذا لفظ سنه أو سناه. وهل تعد
معرفة الكلمة المفردة من اللغة معرفة باللغة؟ قلما يوجد في عوام مصر من لا
يعرف عدة كلمات تركية أو إنكليزية فهل يقال: إنهم علماء بهاتين اللغتين علمًا
يفهمون به كلام أهلها ويُفْهِمُونَهُم مرادهم؟ كلا إنما تساهل بعض العلماء في إطلاق
احتمال أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم المئات من لغات الأمم؛ لأنهم يرونه
من باب التعظيم الذي يكاد بعضهم أن يقبل فيه كل شيء، وإن كان مخالفًا لبعض
القطعيات أو مُفْضِيًا لبعض المطاعن من جهة أخرى لم يفطنوا لها، فإن كون النبي
صلى الله عليه وسلم أميًّا ركن من أركان إثبات نبوته ومقدمة من مقدمات البرهان
على إعجاز كتابه.