للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حركة الأرض وجريان الشمس لمستقر لها

(س ٢٦) من صاحب الإمضاء المدرس في مدينة تطوان - في المغرب
الأقصى.
الحمد لله وحده - من تطوان في ٢٧ شوال سنة ١٣٤١
فضيلة أستاذي الوحيد، وملاذي الفريد، أستاذ العالم ومفتيه ومرشده السيد
محمد رشيد رضا.
سلام على تلك الذات، وتلك الروح الطاهرة من قلب يتأجج بنار الأشواق
ويضطرم في سعير البعاد، غير أن ثلج ماء عين (مناركم) قد يطفئ شيئًا من
ذاك اللهيب، ويُخْمِد سعيرها عنه ما يهيم الفكر في استحسان تلك الدرر اليتيمة،
والتمتع بتلك المعاني الوحيدة الفريدة.
سيدي وسندي، أرجو من فضيلتكم الجواب على صفحات (المنار) الأغر
عما يأتي:
من المقرَّر عند علماء الجغرافية أن الأرض لها دورتان يومية وسنوية، وأن
الليل والنهار والفصول ينشآن عن هاتين الدورتين للأرض ويقتضي هذا أن الشمس
ثابتة والله تعالى يقول {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: ٣٨) فأرجو من
فضيلتكم جوابًا كافيًا شافيًا كما هو شأن فضيلتكم بحيث لا يبقى في النفس ولو كانت
جاحدة أدنى مخالفة. حفظكم الله وأطال حياتكم، وبارك في عمركم وعمر أنجالكم
الكرام، مدى الليالي والأيام، من الداعي لفضيلتكم بذلك تلميذكم وصديقكم.
... ... ... ... ... ... ... محمد العربي بن أحمد الخطيب
(ج) إذا كان ما ذكره السائل من المقرَّر عند علماء الجغرافية فإن من
المقرر عندهم، وعند علماء الفلك أن الشمس تدور على محورها كغيرها من
الأجرام السماوية، وأنها تدور هي والكواكب السيارة التي حولها حول نجم آخر
مجهول يعدونه المركز لها، وبلغنا عن أحد المعاصرين من هؤلاء العلماء أنه حقق
حديثًا أن مجاميع الشموس كلها - أو العالم كله - يجري في الفضاء لغاية مجهولة.
وتجدون هذا البحث ما عدا القول الأخير في مقالة طويلة للدكتور محمد توفيق
صدقي رحمه الله في المجلد الرابع عشر من المنار. وتجدون فيها رأيًا عزاه إلينا؛
إذ تلقاه عنا، وهو أن لجميع العالم المؤلف من هذه الشموس والكواكب مركزًا واحدًا
هو مصدر التدبير والنظام لها وهو عرش الرحمن تبارك وتعالى (راجع ص ٥٩٠
و٥٩١ ج ٨ منه) ونحن قد استنبطناه من عرض مذهب الفلكيين على قوله تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ
الأَمْرَ} (يونس: ٣) فجريان الشمس ثابت بالاتفاق فإن دورانها على محورها
يسمى جريانًا، ودورانها مع مجموعها المعلوم حول نجم مجهول - على قولهم -
كدوران المجاميع الشمالية حول نجم القطب الشمالي - يسمى جريانًا أيضًا. وأولى
منه وأظهر سيرها مع بقية العالم الذي قال به بعض المتأخرين كما ذكر في تقويم
لفلامريون المشهور. على أن الجريان يستعمل استعمالاً مجازيًّا في السير المعنوي
كما يقال جرى القضاء بكذا، ولك أن تقول الآن: إن أوربة تجري في تنازع دولها
لحرب أخرى شر من الحرب الأخيرة.
وأما المستقر الذي تجري الشمس إليه أو له ففيه وجهان (أحدهما) أنه ما
ينتهي إليه أمرها بخراب عالمنا هذا التي هي ركن نظامه فيكون جريانها كجريان
غيرها بمعنى قوله تعالى في أول سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى
يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: ٢) وهو بمعنى ما
روي عن قتادة قال: تجري لمستقرها: لوقتها ولأجل لا تعدوه (ثانيهما) أنه مستقر
نظامها لا أجلها وهو النجم المجهول عند علماء الفلك والعرش على رأينا. ويؤيده
حديث أبي ذر في كون مستقرها تحت العرش، والحديث قد روي بألفاظ مختلفة
أظهرها أخصرها وهو ما رواه الجماعة إلا ابن ماجه وغيرهم عنه قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس:
٣٨) قال: (مستقرها تحت العرش) وبعض ألفاظه مشكل في ظاهره جدًّا،
ورواته أقل، وهو ما ذكر فيه سجودها لله تحت العرش واستئذانها، وإن فسر بمعنى
خضوعها لإرادته كقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: ٦) والراجح
عندنا أنه روي بالمعنى فأخطأ بعض الرواة في فهمه فعبَّر عنه بما فهمه والله أعلم.
وسنعود إلى هذا البحث في وقت أوسع ومجال أوسع، إن شاء الله تعالى.