للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


انتقاد المنار لكتاب خلافت وحاكميت ملية

هذا ما لخصه قلم الترجمة لجريدة الأهرام من كتاب (خلافت وحاكميت ملية)
لم نحذف منه إلا بعض الجمل الاستطرادية للمترجم الذي فاته بعض المسائل المهمة
منه، وما ارتآه في تعيين مؤلفيه بإيعاز حكومة أنقرة التي نشرته.
أما كون الكتاب قد نشرته (إدارة الاستخبارات التركية الرسمية) فإننا نعلمه
ولا نشك فيه، وأما كون جامعه ومؤلفه فردًا أو جماعة فلا شأن له عندنا فإننا ننظر
إلى القول لا إلى القائل، وإننا ننتقد أهم ما نراه في هذه الخلاصة منتقَدًا فنقول:
(١) قولهم: (إن الخلافة ليست من مسائل الدين بل هي مسألة دنيوية
وسياسية) إن أرادوا به أنها ليست من المسائل الاعتقادية المحضة؛ لأنها عملية
وليست من العبادات، بل هي من الأحكام الشرعية العملية التي يعبر الفقهاء عنها
بالمعاملات - فقولهم يكون صحيحًا، لكنه لا يفيد ما يظهر أنهم قصدوه به وإن كان هو
اللائق باطلاعهم، وإن أرادوا به أنها من الأمور الدنيوية المباحة التي لم يوجبها
الدين الإسلامي، فقولهم باطل بإجماع المسلمين كما بين ذلك المتكلمون والفقهاء،
ولو تُرجم لنا الكتاب كله لأمكننا منه معرفة مرادهم، قال صاحب جوهرة التوحيد:
وواجب نصب إمام عدل ... بالشرع فاعلم لا بحكم العقل
(٢) تقسيمهم الخلافة إلى حقيقية وصورية، تقسيم مبتدع، وإنما قسمها
علماء العقائد والفقه إلى إمامة حق، وهي ما كانت على الوجه الشرعي من اختيار
أهل الحل والعقد للمستجمع للشروط، وإمامة تغلُّب وهي ما يقابلها، وقد فصلنا ذلك
في كتاب (الخلافة) والخلافة الحقيقية قد تكون كاملة كخلافة الراشدين ومن كان
على هديهم كعمر بن عبد العزيز، وقد تكون ناقصة على تفاوت في النقص؛ إذ
بعضه يقرب من الكمال وبعضه يبعد عنه.
وقد اشترطوا في الخليفة الحقيقي شروطًا لم يقل بها أحد من أهل السنة ككون
شفقته على جميع المسلمين كشفقته على بنيه وعدم انحرافه عن الشرع قيد أنملة،
ويقرب هذا من اشتراط بعض الشيعة فيه العصمة.
(٣) قد فات ملخص الكتاب بالعربية أن يذكر زعم مؤلفي الكتاب أن
الخلافة الحقيقية محصورة في الراشدين واستدلالهم على هذا بحديث (الخلافة بعدي
ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا عضوضًا) وحكمهم بصحته كما في (ص١٣) .
ونقول: قد اشتهر هذا الحديث على الألسنة - على عدم صحته - لسببين:
(أحدهما) أنه يذكر في دلائل النبوة، وما كان كذلك لا يُعنى العلماء عادة
بإعلاله؛ إذ لا يخشى منه إثبات شيء باطل.
(وثانيها) أن أعداء بني أمية كانوا يقصدون به الطعن في خلافتهم
فيروجونه لذلك. وقد ذكر معناه النسفي في كتاب العقائد، واستدل له شارحها
العلامة التفتازاني به باللفظ الذي حاء في كتاب (خلافت وحاكميت ملية) ثم
قال: هذا مشكل؛ لأن أهل الحل والعقد من قد كانوا متفقين على خلافة الخلفاء
العباسية، وبعض المروانية كعمر بن عبد العزيز مثلاً، ولعل المراد أن الخلافة
الكاملة التي لا يشوبها شيء من المخالفة وميل عن المتابعة تكون ثلاثين سنة،
وبعدها قد تكون وقد لا تكون ا. هـ كلام السعد.
وقال ملا أحمد في حاشيته عليه: إن الحديث أخرجه الترمذي في الفتن
والنسائي في المناقب وابن حبان من حديث سفينة بألفاظ متقاربة، وأخرجه أبو داود
بلفظ: (خلافة النبوة ثلاثون ثم يؤتي الله الملك من يشاء) . اهـ.
أقول: حديث سفينة رواه الإمام أحمد أيضًا ولفظه عند غير أبي داود: (ثم
ملك بعد ذلك) ولم أره في النسائي. وقد انفرد به سعيد بن جهمان عنه عندهم كلهم،
وقال الترمذي: حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جهمان ولا نعرفه
إلا من حديثه اهـ. والصواب أنه ضعيف وإن وَثَّقَ أحمدُ سعيدًا فقد ضعفه غيره،
والجَرْحُ مُقَدَّمٌ على التعديل، وقد بيَّنُوا سببه، قال يحيى بن معين: روى عن سفينة
أحاديث لم يروها غيره، وأرجو أنه لا بأس به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا
يحتج به، وقال البخاري: في حديثه عجائب. وقال الساجي لا يُتَابَعُ على حديثه
وتصحيح ابن حبان وحده له لا يعتد به لتساهله في التصحيح. قال رواة الحديث: قال
سعيد: ثم قال سفينة أمسك خلافة أبي بكر ثم قال: وخلافة عمر وخلافة عثمان،
ثم قال أمسك خلافة علي فوجدناها ثلاثين، قال سعيد: فقلت له أن بني أمية
يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: (كذبوا بنو الزرقاء هم ملوك من شر الملوك)
وليس في شيء من ألفاظ هذا الحديث: (ثم تكون ملكًا عضوضًا) ولكن ورد هذا
اللفظ في سياق حديث آخر غير حديث: (الخلافة ثلاثون سنة..) .
ثم إن هذا الحديث على لفظه معارض بأحاديث صحيحة، منها حديث: (لا
يزال هذا الدين عزيزًا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش) إلخ رواه مسلم وأبو
داود وغيرهما، وهو في البخاري بلفظ: (يكون اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش)
وحديث مسلم: (وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول
فالأول) وحديثه: (يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيًا لا يعده عدًّا) فما
فسر السعد به حديث أسامة لا مندوحة عنه، وقال بعضهم: إن المراد بالخلافة فيه
خلافة النبوة وهو لفظ رواية أبي داود، والمراد بها الكاملة بزهد الخلفاء وإعراضهم
عن زينة الدنيا وعظمة الرياسة، وهذا الكمال ليس بشرط لصحة الخلافة؛ بل هو
مزيد كمال فيها، ولكن لا يقتضي ذلك أن تكون الخلافة بدونه صورية، فإن معنى
الخلافة رياسة الحكومة الإسلامية المستجمعة للشروط التي ذكرنا المجمع عليه منها
عند أهل السنة ومنها كونه من قريش، وما زاده مؤلف أو مؤلفو كتاب (خلافت ...)
باطل أريد به باطل.
(٣) أنهم أرادوا من ادعاء انتهاء أجل خلافة النبوة وصيرورة رياسة
الحكومة الإسلامية ملكًا، ومن اشتراط كون الخليفة الحق كالنبي الذي يخلفه بغير
فرق، ومن اشتراط النسب القرشي فيه - أن وجوده متعذر، وأن تعذره يجعل
المسلمين في حل من نسخ الإمامة الإسلامية العظمى واستبدال حكومة أخرى بها لا
يكون رئيسها إمامًا للمسلمين ولا خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم في سياسة الدنيا
وإقامة الدين، وهو ما صرحوا به في الصفحة الثانية والعشرين.
ونقول: إن الخوف من مثل هذه الجرأة على العبث بالشرع والتلاعب بالدين
هو الذي جعل بعض علمائنا العقلاء يشايعون أهل الجمود التقليدي على القول بإقفال
باب الاجتهاد ‍‍!! فقد كنت أتكلم مع أستاذنا الشيخ حسين الجسر في هذه المسألة فقال:
إننا نخاف من فتح هذا الباب أن يَدَّعِي أهل الجرأة والجهل الاجتهاد، ويروج ذلك
لهم الحكام الظالمون ليُفتُوا لهم بما يوافق أهواءهم، وذكر لي مثلاً على ذلك الشيوخ
المقربين من السلطان عبد الحميد كالشيخ أبي الهدى الصيادي، وقال: إن السلطان
كان يرغب في جعله منهم، وأن يظل لديه في (المابين) وأنهم عرضوا عليه أن
يفتي في بعض المسائل التي يعتقد بطلانها فاعتذر وتنصل بلطف وألح في الاستئذان
بالعودة إلى بلده معتذرًا بأن الإقامة في الآستانة تزيد في مرضه الصدري المزمن
فلما صدرت الإرادة السنية له بالإذن كان كأنه خرج من السجن، وقد كانت شرًّا من
السجن على محب الحق.
ولكن إقفال باب الاجتهاد لم يَحُلْ دون المفسدة التي كان يخشاها شيخنا رحمه
الله تعالى فقد كان مشايخ الإسلام في الآستانة كمشايخ مصر وغيرها يفتون الحكام
بكل ما يطلبون منهم الفتوى فيه بإيراد نصوص مبهمة يتركون لهم الحرية في
تطبيقها على النوازل بما يخالف الشريعة، وأحدث هذه الفتاوى في عصرنا فتوى
شيخ الأزهر ومفتى الديار المصرية لوزارة مصر بما جعلته حجة لإرجاع ركب
محمل الحج من جدة ومنعهم من إتمام النُّسُك بعد الإحرام به، والشيخان لا يبيحان
هذا لو سئلوا عنه بخصوصه. وشر من هذه الفتوى وأضر فتوى شيخ الإسلام
عبد الله دري أفندي لحكومة السلطان محمد وحيد الدين بأن جيش الأناضول المُدَافِع
عن استقلال الدولة عاصٍ على الخليفة خارج عليه فيجب قتالهم، ومن قتل في ذلك
فهو شهيد، وهو لم يذكر جيش الأناضول وإنما ذكر عبارة مجملة عامة طبقتها
الحكومة عليهم، والتقليد أعون على هذه المفسدة من الاجتهاد، فإن الاجتهاد يبيح لكل
عالم أن يُفَنِّدَ خطأ المخطئين بالدليل كما نفعل بالرد على مؤلفي كتاب (خلافت
وحاكميت ملية) .
أما قولكم: (إنه يجب على المسلمين إقامة خليفة) فهو صحيح، وعليه
أجمع أهل السنة ومن وافقهم من سائر الفرق المعتدلة كالزيدية. وقولكم: (إن الخليفة
لا بد أن يكون من قريش) صحيح أيضًا ومجمَع عليه عند أهل السنة كما نقلتموه عن
كتب العقائد الشهيرة التي لا تزال تدرس في مدارس السلاطين في الآستانة، وفي
سائر بلاد الترك وغيرها.
وأما قولكم: (إن وجود خليفة جامع للشروط والصفات متعذر) فهو باطل؛
فإن الشروط المذكورة في كتب العقائد والفقه كلها متوفرة في كثير من رجال قريش،
ولا سيما إذا جرينا على عدم اشتراط بعض الحنفية - الذين يقلدهم الترك- العلم
الاجتهادي، فحينئذ نقول لهؤلاء: بِمَ تطعنون في صديقكم السيد أحمد شريف
السنوسي؟ ألستم تشهدون بأنه قرشي حسني تقي صالح عادل؟ على أنه يوجد في
علوية قريش من هم أهل للاجتهاد سواء ادعوه كصديقكم إمام اليمن أم لم يدعوه
تواضعًا كالسيد محمود شكري الآلوسي البغدادي.
وقد بيَّنا لكم في كتاب الخلافة الطريقة المُثْلَى لإيجاد كثير من المستجمعين
لشروط الخلافة، وهو تأسيس مدرسة لتخريج المجتهدين في الشرع الإسلامي،
يختار لها بعض الطلاب من أذكياء العلويين؛ لأنه قلما توجد أنساب ثابتة لغيرهم من
بطون قريش، وهم أولى من غيرهم بهذا الأمر إذا ساووا غيرهم في العلم والعدالة؛
لأن في المسلمين ملايين كثيرة تشترط النسب العلوي الفاطمي في الإمامة العظمى،
فتجتمع بذلك كلمتهم مع أهل السنة الذين يكتفون بالنسب القرشي والأخص يستلزم
الأعم ولا عكس. فإن تعذر استجماع الشروط قبل تَخَرُّجِ مَن يتربون ويتعلمون في
هذه المدرسة كما تقولون يكون نصب الخليفة الفاقد لشرط واحد أو شرطين للضرورة
أولى من تعطيل هذا الفرض وإزالة شكل الحكومة الإسلامية واستبدال شكل آخر به،
يتقيد فيه بشيء من الشروط، بل هو الحتم اللازم.
(٤) قولكم في هذا المقام: (ولذلك لم ينكر العلماء المعاصرون للسلطان
سليم عليه حمل الخليفة المتوكل على الله العباسي على التخلي له عن الخلافة) لم نَرَ
له وجهًا شرعيًّا ولا عقليًّا! فعلماء الآستانة لم يكونوا أحرارًا قادرين على معارضة
السلطان سليم السفاك، وهم غير معصومين من الخطأ عمدًا، وليسوا ممن يُحْتَجُّ
بقولهم فضلاً عن سكوتهم ولو بغير عذر. ومثل هذا التعليل استدلال مصطفى كمال
باشا بسكوت علماء مصر لحكومتها على نصب التماثيل - على كون صنعها ونصبها
غير مخالف للشرع - فهو استدلال باطل سواء كانوا معذورين في السكوت أو غير
معذورين، فإن منهم مَن يرى رجاء قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرطًا
لوجوبه، وهم متفقون على أن الخوف على النفس يسقط الوجوب عملاً بحديث (من
رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك
أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبى سعيد مرفوعًا.
على أنه يجوز أن يكون من هؤلاء وأولئك من أنكر سرًّا أو جهرًا ولم ينقل إنكاره.
(٥) قولكم: (ولذلك لم يعبأ أحد في العالم الإسلامي ولا في جزيرة العرب
لادعاء الشريف حسين الخلافة وإعلانه ذلك إلخ) نقول فيه - أولاً -: إننا لم نر
للشريف حسين دعوى صريحة للخلافة أعلنها وطلب المبايعة عليها، وإنما قدم له
بعض السورين المسترزقين منشورًا مصنوعًا بالمبايعة من بعض أهل الشام فَسُرَّ به
بل بايعه بعضهم فعلاً؛ تقربًا لفيصل في عهده ثم آخرون تقربًا إلى عبد الله من خدم
حكومته ... - وثانيا - وخاطبه بعضهم بلقب أمير المؤمنين فسُرَّ به ورغب في
تعميمه بقدر طاقته، ولو ادعى الخلافة جهرًا وصراحة لكلف أهل الحجاز بمبايعته
بها وأعلنها كما يعلنها ولده عبد الله في شرق الأردن - وثالثًا - أن العالم إذا لم يعبأ
بدعوة الشريف الخلافة على فرض وقوعها فلا يعقل أن يكون لعدم اعتداده بإجماع
أهل السنة باشتراط النسب الفرشي لها ولا لعدم احترامه للحرمين الشريفين ومن
يتولى خدمتهما، كيف وأنتم تلقبون خليفتكم الصوري أو الاسمي بخادم الحرمين
الشريفين؛ لأنكم ترون هذا من لوازم الخلافة، وإن كانت دعوى خدمتهما باطلة؟
ولكن العالم الإسلامي يعتقد في جملته أن هذا الرجل آلة في يد أعداء الإسلام وخطر
عليه وعلى الحجاز وأنه غير مستجمع لشروط الخلافة الكسبية التي يمتاز بها قرشي
على قرشي - ورابعًا - أن ارتفاع أصوات الإجابة لبيعة عبد المجيد أفندي (ولو
بالقول على الأقل) كما قلتم، لا يدل على ما تريدون، وهو أن يشايعكم العالم
الإسلامي على إقامة خلافة صورية مبتدعة لا يكون ممثلها رئيسًا لحكومة إسلامية
تقيم الشرع، وسنبين وجهة نظر العالم الإسلامي في هذه المسألة في مقال آخر؛ إذ
لا يحتمله هذا التعليق.
(٦) قولكم: (إن الخلافة غير مقصودة لنفسها بل وسيلة لشيء آخر هو
الحكومة التي تقيم العدل وتصون الملة) الصواب فيه أن يقال: إنها رياسة الحكومة
الإسلامية التي تقيم العدل وتصون الدين وتحفظ استقلال الأمة الإسلامية، لا أنها
شيء آخر فإذًا لا يجوز إسقاطها واستبدل شكل آخر من أشكال الحكومات بها.
ويقال مثل هذا في قولكم: (إن الغاية التي ذكرتموها هي المرادة من الشرع
نفسه أيضًا) أعني أنه لا يجوز للمسلمين إهمال الشرع الإسلامي والاستغناء عنه
بشرع آخر بدعوى أنه وسيلة للعدل وحفظ الأمة مثله، ولو جاز هذا للمسلمين لجاز أن
يقولوا: إن المقصد من الدين نفسه تزكية النفس بعبادة الله تعالى وفعل المعروف وترك
المنكر - فلا بأس يطلب هذا المقصد باتباع دين آخر يقصد به الغاية! ! إن أقْيستكم
التي اتخذتموها أدلة لإسقاط حكومة الخلافة ونسخها بحكومة ما تسمونه الحاكمية
القومية، باطلة شيطانية تؤدي إلى إباحة ترك الإسلام برمته وأنتم لا تشعرون بذلك.
فإن قلتم: إننا نريد تقييد حاكميتنا الملية بالشرع الإسلامي، ولكن لما كان
الخليفة مشترَط فيه أن يكون قرشيًّا فنحن لا نرضى أن نجعل رئيسًا لحكومتنا من
ليس من نسبنا، ولا أن نسمي رئيس حكومتنا التركي خلفية؛ لأن هذا تزوير على
ديننا، وقد قلنا: إن كتب العقائد التي تقرأ في جميع مدارسنا الدينية مصرِّحَة
بالإجماع على اشتراط النسب القرشي في الخليفة (قلنا) : إذا كان هذا رأي مجلس
حكومتكم فليصرح به وليترك إقامة خليفة صوري ليس له في حكومته أمر ولا نهي؛
فإن هذا أبعد عن الشرع وأبعث على العبث به من جعله رئيسًا لحكومة؛ إذ رئيس
الحكومة إذا ادعى الخلافة مع فقد بعض شروطها تصح تسميته خليفة متغلبًا ويجب
طاعته على من يبايعونه إلا في معصية الله تعالى، بل على جميع من يتغلب عليهم،
وإن لم يبايعوه، فأما الإمام الحق المستجمع للشروط فيجب اتباعه على جميع
المسلمين، ويُعَدُّ المتغلبون الذين يرفضون اتباعه بغاة يجب قتالهم عند الإمكان،
وأما الخليفة الاسمي الصوري فإن هذا اللقب لا يجعل له أدني حق في طاعة أحد.
(٧) ما ذكرنا في المسألة السادسة يغنينا عن إطالة القول في تفنيد كلامكم
الذي زعمتم فيه أن ما ذكره العلماء من الواجبات على الخليفة من إقامة الحدود
وفصل الخصومات، وإقامة الشعائر، وتجهيز الجيوش، وغير ذلك يمكن أن تقوم
به حكومة مهما يكن شكلها إذا كانت ذات أنظمة صالحة، فنكتفي بأن نقول فيه: إن
هذه الأنظمة لا بد أن تكون موافقة للشرع، وأن تراعي أحكامه في رئيسها.
(٨) إن ما عللتم به عدم قبول الإمام أبي حنيفة لتولي القضاء وهو الخروج
على الخلافة العباسية، باطل لا يمكن إثباته بل كان خاضعًا لحكمهم وإمامتهم في
صلاة الجمعة وسائر أحكامهم، وقد علَّلَه غيركم بأنه كان مُبَايعًا في السر لأستاذه
الإمام زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام ولم يثبت. وأما ما فرقتم به بينه وبين
الأمام أبي يوسف فهو من الترجيح بين المتساويين بغير مُرَجِّح.
(٩) استدلالكم على جواز تجريد الخليفة من السلطة وجعل الخلافة صورية
بما سبق له من المثل في التاريخ، وسكت عنه العلماء - من أظهر الأباطيل كما تقدم
مثله في الكلام على سكوت علماء الآستانة للسلطان سليم، ففي التاريخ ضلالات
وظلم وكفر كثير ...
فخلاصة القول في هذا الكتاب: أنه يحرّف أحكام الشرع في الحكومة
الإسلامية ويزيد فيها وينقص، يثبت جواز جعل خليفة الرسول في أمته مرءوسًا
لحكومة لا أمر له فيها ولا نهي. ويشترط فيه أن يكون من بيت خاص من الشعب
التركي بدلاً مما أجمع عليه المسلمون من جعل الخليفة الحق من عشيرة الرسول صلى
الله عليه وسلم أو قبيله، ولا يشترط فيه العلم بالشرع؛ لأنه لا دخل له في التشريع
ولا في تنفيذ الشرع، وجواز جعل الحكومة الإسلامية شعبية أو قومية يكون التشريع
فيها في كل شعب لجماعة منتخبة منه لا يشترط فيهم العلم بالشرع الإسلامي اجتهادًا
ولا تقليدًا. والعجب لمن يريد هذا كيف يجرؤ على جعله إسلاميًّا؟