للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أحوال العالم الإسلامي

اليمن وتهامة
نجد والكويت والريحاني
الحجاز
الترك
لا تزال جزيرة العرب على ما يعلم الناس عنها من شقاق وتقاتل - في اليمن
وتهامة - يُغْضِبُ الله والمسلمين وجميع العرب الصادقين، ويُرْضِي الأعداء
الطامعين. ولو آثر الإمام والسيد الإدريسي حقن الدماء على سفكها وانصرف كل
منهما إلى الأخذ بوسائل العمران في بلاده لكان كل منهما في منطقته أضعاف أضعاف
ما يطمع به من توسيع حدوده بالبلاد المتنازَع عليها، وأهم ما يتنازعون عليه
وأعظمه شأنًا عندهما (الحديدة) ويمكن أن يتفقا على جعله ثغرًا حرًّا لكل منهما حق
مساوٍ لحق الآخر في الانتفاع منه بالتجارة وِرْدًا وصدْرًا على أن يحميه كل منهما
بالتعاون مع الآخر ممن يعتدي عليه، وتكون حكومته وطنية مستقلة ينفق عليها من
رسوم المكوس فيها.
وأما نجد فقد ذكرت الجرائد أن سلطانها منح بعض الشركات الإنكليزية امتيازًا
كبير الشأن في منطقة الأحساء بزيت البترول وغيره مما يوجد من المعادن، وما
يستلزم ذلك من مد الخطوط الحديدية.... وأشارت إلى ما في هذا الامتياز من
الضرر على هذه البلاد والخطر على استقلالها. وقد بلغنا عن أمين أفندي الريحاني
الأديب اللبناني المشهور أنه هو الذي أقنع السلطان عبد العزيز بن سعود بمنح هذا
الامتياز للإنكليز وأقنع شيخ الكويت بامتياز مثله، وأنه لم يذهب إلى جزيرة العرب
إلا بنفقة شركة إنكليزية معروفة؛ لأجل إقناع أمرائها بإعطائها أمثال هذه
الامتيازات، فخاب سعيه إلا في نجد والكويت، وكان يظن أن النجاح فيهما أبعد
منه في غيرهما، ولا مندوحة لحكوماتهما إذا لم يتفصيا من إمضائه وإنفاذه أن يُعلِّما
بعض نابتتها لغة القوم وتاريخهم وقوانينهم والقانون الدولي العام والمعاهدات الدولية؛
ليعرفوا كيف يعاملونهم ويتقون بعض مفاسدهم وغوائلهم، فهم بعد تقييد أنفسهم
بإدخال الأجانب في بلادهم لا يستطيعون أن يبقوا بمعزل عن العالم المدني،
والطريق وعر، والمركب صعب، وكان الواجب أن تعد لها عدتها، قبل التقحم في
مهامه مفازتها. وقد كنت نصحت المرحوم الشيخ مبارك الصباح بأن يُعلم صغار
أولاده وأحفاده تعليمًا خاصًّا فأجابني بأنهم لا يحتاجون إلى العلم! ! ! وأنى لذي
الجهل المُرَكَّب المطلق أن يشعر بمنفعة العلم؟
ساعد الريحانَّي على نجاح سياحته في جزيرة العرب ما كان له من حظ
الحظوة بمصر ولا سيما احتفال أحمد زكي باشا به في جوار الأهرام ذلك الاحتفال
الغريب الذي حضره ألوف من الناس، وشغل الصحف المصرية بالنقد
والاستحسان. ذهب بعده الريحاني إلى الحجاز، ويقال: إن ملكه قد أوصى به،
وكان اطلع على ما كُتب في الجرائد بشأنه، فعني به وأكرم مثواه، وعرض عليه
أن يحليه بلقب أمير فاعتذر، فأهداه هدايا منها خنجر ذهبي مما يتقلده شرفاء
الحجاز على بطونهم ويسمى (الجنبية) وزوده بكتب توصية إلى إمام اليمن
والسيد الإدريسي وأرسل معه قسطنطين أفندي يني وهو سوري من موظفي
حكومته بجدة فجعلهما وفدًا له، بلغنا أن الإمام أكرمهما بضيافته ومجالسه ولكن
جعل حديثه معهما في المسائل الأدبية والشعر ولم ينالا منه شيئًا مما زاراه لأجله،
وكذلك السيد الإدريسي رحمه الله تعالى. وقد كان الريحاني طلب مني توصية كتابية
إلى (الحجاز) أمراء الجزيرة، فتنصلت بلطف؛ لأنني كنت مرتابًا في الحامل له
على السفر، ورأيت بعض إخواني جازمًا بأنه يقصد خدمة سياسية للإنكليز.
***
نحمد الله تعالى أن خابت (المعاهدة العربية البريطانية) التي أمر الملك
حسين بجعل يوم إعلانها عيدًا للأمة العربية التي يدَّعِي افتياتًا عليها أنه مِلكُها، وأن
جعلنا من المجاهدين في سبيل خيبتها، ودفع ما فيها من الخزي والخطر على بلاد
الحرمين الشريفين وعلي ثالثهما وهو المسجد الأقصى، وقد ظهر للعالم كله بطلان
دعوى الملك حسين أن المادة الثانية من المعاهدة نص صريح في استقلال فلسطين
وسائر البلاد العربية ماعدا (عدنًا) وحدها.... وما كررته جريدته (القبلة) من
الكذب والإفك في ذلك، ولا ندري ما يقول أنصاره اليوم؟! فإذا كان قد تعمد خداع
العرب عامة والفلسطينيين خاصة ليكفوا عن جهادهم، ويفوضوا إليه وإلى حليفته
إنكلترة أمر بلادهم، فكيف يدَّعُون بعد هذا أنه يخدم العرب ويسعى لاستقلالهم؟
(وإن قالوا) : إنه هو قد خُدِعَ بهذه المعاهدة إذ لم يفهم موادها كما خدع قبلها
بمقررات النهضة الناطقة بحماية الإنكليز لبلاد العرب كلها، وإن كان هو الواضع
لها (قلنا) : أولاً: إذا كان يعقد معاهدات مع أدهى الدول المرة بعد المرة، وهو لا
يفهم معناها، فكيف تتخذونه زعيمًا لأمتكم؟ وثانيًا: إذا كان لم يفهم ترجمة
المعاهدات بالعربية، فكيف لم يفسرها له بالعامية وكيل خارجيته (فؤاد أفندي
الخطيب) ومندوبه لدى الدولة البريطانية (الدكتور ناجي الأصيل) اللذين ترجماها
له، بل وافقاه على ما فهمه منها خطأ بزعمكم؟ وثالثًا: إن كانا هما اللذان خدعاه
بالترجمة أو بموافقته على سوء فهمه، فلماذا لم يعاقبهما على هذه الخيانة، ولو
بطردهما من خدمته؟ بل لماذا أعاد الدكتور إلى لندن لإتمام المساومة في شأنها،
وهو لا يزال يرجو إبرامها؟
هذا، وإنه بعد هذا يريد عقد مؤتمر عربي في (معان) بدسيسة بريطانية قد
بثت الدعاية لها في البلاد السورية كلها، وبذل من المال ما بذل في سبيلها،
وسنشرح ذلك وما يجب من تلافي ضرره في مقال آخر.
وقد كان من سوء سياسة الرجل ومقت العالم الإسلامي له أن أبطأ مسلمو الهند
فيما قرروه من مساعدة جزيرة العرب على الاستقلال، فهو العقبة في طريقها، وإن
بثت الدعوة في الهند وأفريقية الواقعة تحت السيطرة الفرنسية إلى مقاطعة الحجاز
بترك أداء فريضة الحج ما دام هذا الرجل مسيطرًا عليه. ولا شك في أن هذا يسر
حليفتيه البريطانية والفرنسية، وإن لم يشعر أولئك المسلمون في الشرق والغرب
بذلك، فنحن ننكر عليهم ترك الحج الذي هو ركن الإسلام الاجتماعي العام، ونجزم
بأنه نكبة وجريمة دينية سياسية اجتماعية، وأن لديهم أسهل الطرق لإنقاذ الحجاز
مما جناه عليه هذا الرجل، وهو تعضيد الجمعية التي وضعت لحياده واستقلاله
وحفظه من كل نفوذ غير إسلامي، وسنعلن ذلك إن شاء الله تعالى في الشهر الآتي.
***
(الترك) ثم نحمد الله تعالى أن تم للترك الاستقلال المطلق بمعاهدة الصلح
الأخيرة، وقد جرّأهم ذلك على التصريح بما كانوا يكتمونه من جعل حكومتهم
جمهورية، وهو ما سبقنا إلى التصريح به في العام الماضي عقب اطلاعنا على
التشكيلات الأساسية للجمعية الوطنية، وقد ألغيت الأحكام العسكرية فظهرت
المعارضة للحكومة الكمالية في مسألة الخلافة الاسمية، ومسألة أسرة السلاطين
العثمانية، التي هضمت حقوقها بحرمانها من مساواة الأمة في المناصب والوظائف،
وفي النيابة عن الأمة، ومسألة جعل الغازي مصطفى كمال باشا رئيسًا للجمهورية
ورئيسًا للجمعية الوطنية ورئيسًا للحكومة التنفيذية ورئيسًا لحزب الشعب الذي ألفه
لأجل حصر السلطة كلها فيه، فنزل عن بعض هذه الرياسات في الظاهر الرسمي
وجعلها لأقرب أعضاء حزبه منه، ولو أنه أنجز ما كان وعد به من اعتزال الحكومة
بعد نيل الاستقلال كما فعل واشنطون محرر مملكة الولايات المتحدة في أمريكة -
لأجمعت الأمم على تمجيده مع الشعب التركي ولكانت رياسته أتم، ونفعه لقومه
أعظم، ولكنه قد استهدف الآن لمقاومات كثيرة، فاتُّهِمَ بأنه يسعى لجعل نفسه حاكمًا
عسكريًّا مطلق التصرف من وراء ستار الجمهورية كما جرى في البلاد الأسبانية، أو
ما هو قريب منه كما جرى في الدولة الإيطالية، واكتشفت مكيدة لاغتياله، وانطلقت
الألسنة والأقلام بالخوض في شخصه وعمله.
وظهرت في البلاد التركية - ولا سيما أنقرة - دعوة الغلو في التفرنج بجعل
الحكومة غير دينية كالجمهورية الفرنسية، وبإطلاقها للنساء والرجال حرية الإباحة
كغِشْيَان التركيات للمراقص، ورقصهن متهتكات مع الأجانب والأقارب، وتمثيلهن
أنواع القصص في المسارح، والدعوة إلى تعديل قانون المسكرات وغير ذلك. وقد
نشر في الجرائد أن الحكومة الجمهورية ألغت المحاكم الشرعية ألبتة، ويقال: إنها
منعت تعليم الدين في مدارس الحكومة أيضًا، وعادت دعوة العصبية الجنسية،
والغلو في التفرنج المنافي للإسلام إلى ما كانت عليه بالصراحة التامة. وظهر أن
الحكومة الكمالية كالحكومة الاتحادية التي كانت قبلها، وأنها لا تخالفها إلا في شكلها،
على أن أكثر الكماليين من الاتحاديين، وقد ظهر أن من لم ينتظم في السلك
الكمالي من بقايا رجالاتهم أحرص على المحافظة على منصب الخلافة فيهم. ونسأل
الله تعالى أن يقي هذا الشعب الإسلامي شر الغرور بالمدنية المادية وشر الشقاق،
فالذي يهمنا أن يبقى حصنًا من حصون الإسلام في المشرق، وإنما يكون ذلك
بنجاح حزب الإصلاح الإسلامي.