للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ملك الحجاز في أطراف سورية
كثر تساؤل الناس عن سبب زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية في هذا
الشتاء الشديد العواصف , والبَرْد والثلج والبَرَد، والذي نراه استنتاجًا مما تقدمه ,
وواطأنا عليه كل من ذكرناه له من الباحثين في سياسة البلاد العربية وغيرهم , هو
ما نجمله بالجمل الآتية:
(١) إن مقتضى ما سماه السيد حسين بن علي (مقررات النهضة) التي
هي أساس ثورته وحربه للدولة العثمانية مع الحلفاء , هي أن تؤسس له الدولة
البريطانية بقوتها وتحت حمايتها مملكة عربية تشمل جزيرة العرب وسورية كلها
والعراق إلا ما استثنى، ولكنه قضت وطرها منه ولم يقض وطره منها , فظل يلح
عليها بذلك من جهته , والفلسطينيون يؤلفون الوفود ويرسلونها إلى لندن للسعي
لإلغاء وعد بلفور وتأليف حكومة عربية في فلسطين , ويحتج كل منهما بمقررات
النهضة المذكورة.
(٢) حاولت الحكومة البريطانية إسكات السيد حسين والفلسطينيين بشيء
يرضيهما مظهره , إلى أن يزول هذا الاضطراب السياسي والمالي , وتستقر
سلطتها العسكرية في البلاد العربية التي جعلتها تحت انتدابها , من حدود مصر إلى
شط العرب وخليج فارس، فلم توفق لذلك , فإن المعاهدة الأخيرة التي حملها إليها
ناجي الأصيل فطار بها فرحًا , وجعل يوم إعلانها عيدًا للأمة العربية بأسرها، قد
رفضها الفلسطينيون وأنكروها , ولم يقدر على إقناعهم بها , ولولا ما له من اليد
البيضاء عند بعض زعمائهم , وما يعلمه من حرص الإنكليز على إرضائهم بشكل
من أشكال الإدارة , مع بقاء الانتداب وعهد بلفور، لانقطعت الصلة بينه وبينهم
بأيديهم أو بيده هو، ولكن ما ذكر ألجأه إلى الإمساك عن التوقيع النهائي على
المعاهدة , أو يرضى أهل فلسطين بها , فأعرضت عنه الحكومة البريطانية , ففهم
أنها تعتقد أنه لم يبق له من النفوذ في البلاد العربية ما يمكنه من أداء أي خدمة لها
تكافئه عليها فيما يأتي.
(٣) علمت هذه الحكومة أن سلطان نجد قد وقف على دخائل سياستها
العربية وتمهيدها السبل؛ للتغلغل في أحشاء جزيرة العرب , مع الإحاطة بها من
أطرافها فأنشأ يقاومها في ذلك ويفاوض فيه سائر زعماء العرب , ما عدا خدمها
المتبجحين بالإخلاص لها وهم السيد حسين وأولاده , حتى اشتهر أنه سمح لنوري
باشا الشعلان بالتمتع بمقاطعة الجوف التابعة لنجد بشرط منع الإنكليز من جعلها
طريقًا لمواصلاتها العسكرية , وغيرها بين سورية العراق , فاغتنم السيد حسين هذه
الفرصة للاتفاق مع الإنكليز على تمكينه من الاتفاق مع ولديه السيد عبد الله والسيد
فيصل على جمع قوات البلاد , التي يرأسون حكوماتها؛ لمناوأة ابن سعود وإضعافه
باسم الوحدة العربية , في مقابلة بذل نفوذه هو لدى بعض رجال اللجنة التنفيذية
لمؤتمر فلسطين , بالرضا بالانتداب البريطاني، والإمساك عن معارضته , بشكل
ألطف من الشكل المبهم الذي رفضوه بالنص الأول للمعاهدة، وذلك بأن تسمى
حكومة فلسطين وطنية , ينتظم في سلكها بعض الزعماء وتعطى حق الانتظام في
الوحدة العربية المبهمة في ضمن دائرة الانتداب البريطاني ويلطف تنفيذ عهد بلفور
بألفاظ مرضية، وتقييد مؤقت للهجرة الصهيونية، لأجل هذا أنفق السيد حسين بن
علي ألوف الجنيهات في التمهيد لهذه الزيارة , يبث الدعاية لها وسينفق أضعافها في
أثناء مكثه في البلاد، ولأجله أكره أهل الحجاز على بذل ألوف الجنيهات؛ لعمارة
المسجد الأقصى , على حين يتضور كثير من فقراء السادة الأشراف بمكة جوعًا ,
وقد حرموا حقوقهم في وقف جدهم أبي نمي، حتى إننا علمنا من الثقات أن بعض
نسائهم يتكففن الناس في حنادس الظلمات وهن متنقبات.
ولأجل هذا تجرأ السيد حسين على التصريح بما كان يكتمه عن الجمهور من
رأيه في الوحدة العربية , وهو جعل جميع أمراء الجزيرة تابعين له في السياسة
الخارجية والعسكرية والإدارة العامة، ومن المعلوم المشهور أن كل واحد من أئمة
الجزيرة الثلاثة: يحيى وابن سعود والإدريسي أقوى منه منفردًا , فكيف صرح
بعداوتهم كلهم في وقت واحد؟ كنا نقول منذ بضع سنين: إن مراده من الوحدة أن
تكره الدولة البريطانية جميع قوى العرب له تحت حمايتها , وكان الأغبياء في
السياسة والمأجورون ينكرون ذلك علينا فماذا يقولون اليوم؟
ومن الجلي أن ثروة السيد حسين الشخصية من ملك ووقف , وما يبتزه من
الحجاج , لا يفي بمعشار هذه النفقات التي يبذلها في عداوة سلطان نجد وحده
والاستعداد لقتاله، وكل ذي إلمام بشؤون السياسة البريطانية الحجازية , يعلم من أين
تجيء هذه الأموال، وسينجلي كل خفي للأغبياء الجاهلين , ويظهر منتهى شوط
الخادعين والمخدوعين، الذين يعلقون آمال أهل سورية وفلسطين بما يدعيه السيد
حسين بن علي من العمل للوحدة العربية، ويرجو نيلها من وراء مفاوضته لدهاة
الدولة البريطانية والسياسة الصهيونية , والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على
الظالمين.