للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد القادر المغربي


تزويج المسلم بغير المسلمة [١]

يكاد يكون جواز تزوج المسلم بالكتابية من الأمور المعلومة من الدين
بالضرورة , ولا أظن أن أحدًا من المسلمين يكابر فيه [٢] , وجل ما يقوله فقهاؤنا في
هذا الزواج: إنه مكروه تنزيهًا؛ أي: لا تحريمًا. ومعنى ذلك أن الأفضل للمسلم أن
يتزوج بمسلمة , فإذا تزوج بكتابية وترك المسلمة ارتكب خلاف الأولى. ولكن لا
يكون آثمًا أو مرتكبًا حرامًا , وعللوا الكراهة (بخوف أن يتخلق الولد بخلق
أمه) والأخلاق أثر من آثار الدين , فيخشى على الولد أن يتأثر بمؤثرات دين غير
دين أبيه.
هذا ما يقال في المسألة من طريق التفقه , وأما ما يقال فيها من طريق
الاجتماع ومباحث العمران , فهو: أن الشرع الإسلامي أباح لنا التزوج بالكتابيات
توصلاً إلى نشر الإسلام , وحمل الكافة عليه , فإن الأصول أن يحمل البشر على
الحق ولو بالقوة , ولكن الشرع عذر أهل الكتاب بما أوتوه من روح الدين السماوي
وإن كانوا شوهوا هذه الروح بما بدلوا وغيروا , والشرع إذا أمهل غير المسلمين ولم
يقسرهم على الإسلام فهو لم يهملهم، ولم يغفل أمرهم , بل هو يريد من المسلمين أن
يعملوا على نشر الدين بينهم , وعلى دعوتهم إليه بالتي هي أحسن، والدعوة كما
تكون بلسان المقال تكون بلسان الحال، ولسان الحال أشد تأثرًا , وأقرب منالاً من
لسان المقال، والمراد من الدعوة إلى الإسلام بلسان الحال أن يكون المسلمون على
وضع اجتماعي راقٍ , يحمل معاشريهم من غير أبناء ملتهم على النظر في دينهم ,
وحب التخلق بأخلاقهم، والاهتداء بهديهم، وهذا يكون بشيئين:
(١) العدل في حكومة الإسلام.
(٢) حسن الأخلاق في أهل الإسلام.
وإننا معشر المسلمين لو حافظنا على هذين الأمرين في تاريخنا الماضي , لما
بقي في بلادنا غيرنا بل كانوا أسلموا كلهم. ولقد بسطت هذا الموضوع يوما أمام
بعض عامة المسيحيين , فرسم إشارة الصليب على وجهه وصدره وقال: نشكر الله
ياسيدي، إذ لم تعملوا بأصول دينكم , وإلا لما عبد المسيح في بلادكم.
ومن جملة الطرق التي شرعها الإسلام؛ لتكون دعوة إليه بلسان الحال -
إباحة تزوج المسلم بالكتابية - فإن زواجه بها يوثق علائق المصاهرة والنسب بعدة
عائلات كتابية , فإذا كان الصهر المسلم على ما يزيده الإسلام من كرم الأخلاق
والتحلي بالفضائل، فإن ذلك يستدرج عائلة زوجته إلى الإسلام بلطف , ويستهويهم
من حيث لا يشعرون إلى الإعجاب به، والدخول فيه، عدا إسلام الزوجة نفسها بما
لزوجها المسلم من السلطة , وحسن التلطف , وقوة التأثير عليها.
وأما اليوم فإن أخلاقنا وفشو الطلاق بيننا , حمل الكتابيين على زيادة التمسك
بدينهم، وعلى النفرة منا ومن ديننا، ولقد سألت مرة صديقًا لي من وجهاء
المسيحيين: هل يرضون أن يزوجوا بناتهم من شبان المسلمين المهذبين ما دام هذا
الزواج جائزًا في الشريعة الإسلامية؟ فقال: إننا لا نراه محظورًا من الوجهة
الدينية [٣] , وإنما نراه محظورًا من باب الاحتياط والتدبر، وذلك خشية أن يطلق
الزوج المسلم ابنتنا، أو يتزوج بأخرى سواها فتعيش منغصة.
ونعيد القول في الموضوع بشيء من الشرح والإيضاح فنقول: يفهم من
تضاعيف أقوال علمائنا أن التسامح مع أهل الذمة , وتركهم أحرارًا في دينهم , إنما
هو مؤقت ومنتظر فيه سنوح الفرص، حتى إذا سنحت الفرصة حملوا على الإسلام
لا بطريق الإكراه والقسر، بل بطريق الدعوة اللينة، والمجادلة بالتي هي أحسن
والعدل في الحكومة، والأخلاق الحسنة في المعاشرة.
ومن هذه الطرق: التزوج ببناتهم، وهذا التزوج يفيد في نشر الدين
وتكثير سواد أهله , كما يفيد (الاسترقاق) في ذلك؛ إذ ليس الغرض من
الاسترقاق مجرد استغلال الأرقاء , والانتفاع بخدمتهم كما ينتفع بالدابة، وإنما
الغرض نفع الرقيق نفسه، ونفع البشرية بنشر تعاليم الإسلام بين أبنائها , فإننا نأخذ
الأرقاء في الحرب أسرى , ونؤديهم إلى بيوتنا ونمزجهم بعائلاتنا كي يتخلقوا
بأخلاقنا، ويدخلوا أخيرًا في ديننا، ويكثر بهم سواد أمتنا، وربما كان نصف
المسلمين [٤] اليوم هم من سلالة أولئك الآباء الذين دخلوا الإسلام من طريق الرق،
فالرق في نظر العالم المسلم الاجتماعي ضرب من ضروب الاستعمار , أو ما يسميه
سواس هذا العصر (التجنس بالتابعية) .
وقد تنبه بعض ملوك الإسلام الأقدمين إلى وجوب الاستفادة من (الاسترقاق)
بشكل آخر , فاتخذ من أسارى الحرب أو من صغارهم عسكرًا جرارًا , بعد أن كان
يهذبهم ويعلمهم آداب الإسلام، ويخصصهم لفنون القتال، وهكذا فعل الخليفة
(المعتصم) العباسي في أرقاء الترك، والسلطان (أورخان) العثماني في أرقاء
الروم والصقالبة الذين سموا (أنكشارية) .
فإباحة التزوج بالكتابيات هو كإباحة استرقاق أولاد المحاربين , من حيث إن
كلاًّ منهما وسيلة لنشر الدين، وتكثير سواد المسلمين، ولكن قومي كانوا عن هذا
غافلين: غفلوا في أزمنتهم التاريخية الماضية - وقت أن كانت الغلبة لهم والقوة
المادية والمعنوية في جانبهم - عن الانتفاع بهذا التشريع الحكيم - أعني التزوج
بالكتابيات [٥]- ولو تزوجوا بهن وأحسنوا المعاملة، وتمسكوا بآداب الشريعة،
وأطاعوا الله فيما نهى وأمر - لكان المسلمون أكثر سوادًا وعددًا مما هم اليوم أضعافًا
مضاعفة، ولكانوا استفادوا من هذه الشريعة فائدة اجتماعية عمرانية، كما استفادوا من
شريعة الاسترقاق، لكنهم - وا خجلاه - لم يستفيدوا من شريعة (التزوج)
بالكتابيات , لا في الأول ولا في الآخر، وأفسدوا شريعة (الاسترقاق) وغيروها
عن وضعها السماوي، فأصبحت تجارة قاسية، ومعاملة وحشية، يحبذ
الشارع الأعظم عمل الساعين في منعها، والضاربين على أيدي مروجيها.
قلنا: إن شريعة التزوج بالكتابيات كانت تفيدنا في الزمن السابق فائدة عظيمة،
ولكن هل تفيدنا اليوم لو عملنا بها؟!
أرى أن الفائدة غير مرجوة اليوم كما كانت مرجوة في السابق، وذلك
لانعكاس الحال في هذا العصر: فبعد أن كانت الغلبة لنا والقوة في جانبنا في العهد
الماضي , وكان يمكننا ونحن غالبون أن نؤثر في نفوس زوجاتنا الكتابيات , وفي
نفوس أهليهن , فنجذبهم إلينا ونطويهم في هيئة اجتماعنا - أصبحنا اليوم مغلوبين
مقلدين للكتابيين , سواء كانوا حربيين أو معاهدين أو ذميين؛ إذ إن الناموس
الاجتماعي الأعظم هو أن يقلد المغلوب الغالب في أطواره ومختلف عاداته , وكذا
في تقاليده أحيانًا , وإنما جعلت الكتابيين غالبين مع أن الكثرة لنا , والحكومة [٦]
متدينة بديننا - ذلك بما تيسر لهم من أسباب الرقي العلمي والاقتصادي والعائلي ,
وبما توفر فيهم من تقليد الأوربيين في دينهم ومناحي عمرانهم , وأساليب حياتهم
والأوربيون هم الغالبون , فمن يسبق إلى تحديهم يكون هو الغالب بالطبع , وإن
زوجة أوربية أو ذمية إذا دخلت عائلة إسلامية , تصرفت في أخلاقها , وبدلت من
طباعها، وأفرغتها على طول الزمان في القالب الذي تريد , وذلك لما عليه معظم
الكتابيات من العلم والتربية والتحيل والدراسة , وما عليه معظم عائلاتنا ونساء
بيوتنا من الجهل والغباوة , وضعف الملكة والانصراف عن فهم معنى الحياة السعيدة
خذ أية بلدة من بلادنا , فلا تكاد ترى فتاة مسلمة تحذق القراءة والكتابة كما لا تكاد
ترى فتاة كتابية تجهلها [٧] .
لا ريب أن وجود الزوجات الكتابيات المتعلمات في العائلة المسلمة مفيد
كوجود المعلم في المدرسة , لكن تؤدي كثرته بالتدريج إلى صبغ الأمة الإسلامية
بصبغة لا تتفق مع مصلحتها , من حيث هي أمة مستقلة تريد أن تنشئ أبناءها على
دينها وآدابها وتقاليدها.
فالتزوج اليوم بالكتابيات موضع نظر، ومناط حذر، كوضع أبنائنا في
مدارس الفرير والجزويت والأميركان، فإنهم يتعلمون، ولكنهم عن التربية
الإسلامية يبتعدون، وفي المهاوي الأخرى قد يتدهورون.
هذا ما نقوله: لو كان لنا من أمر النواميس الاجتماعية , والسنن الكونية شيء؛
أما والأمر ليس بيدنا، وتحويل مجرى السنن غير داخل تحت قدرتنا، فإن هذه
النواميس حاكمة على الأمم متحكمة في أبنائها شاؤوا أو أبوا، رضوا أو سخطوا،
والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المغربي
(المنار)
إن مسألة تزوج المسلم بالكتابية , وتزوج الكتابي بالمسلمة قد طال بحث الكتاب
فيها بمصر في هذه الأثناء , وقد أتى الكاتب فيها ببحث جديد مفيد , أوجز فيه وهو
منتقد من وجوه , أشرنا إلى بعضها في حواشي الصحائف , ولا سعة عندنا في
الوقت لتحقيق المسألة من جميع وجوهها، وقد فتحت له زميلتنا (الهلال) بابًا
واسعًا , نشرت فيه آراء كثيرين من أشهر كتاب العصر البحاثين , بعد أن استفتتهم
في مسائل معينة فيه , وكنا ممن استفتتهم وحالت كثرة أعمالنا دون كتابة شيء
لها , وإنما نقول بالإجمال: إن كان في تزوج بعض المصريين بالإفرنجيات
فائدة ما في نظام المعيشة , فإن فيه من الغوائل المنزلية والاجتماعية ما يفسد نظام
الأمة المصرية برمتها , إذا كثر، ويحول دون تجديد تكوينها تكوينًا مستقلاًّ , لا ذبذبة
فيه ولا اضطراب، وما أنكره على صديقنا المغربي إنما هو المبالغة في المسألة ,
وإلا فقد قلنا في تعليل منع التزاوج بين المؤمنين والمشركين من سورة البقرة: إن
هذا الأمر يختلف باختلاف الأشخاص، فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة ,
فتفسد عليه تقاليده (ص٣٦١ ج ٢ تفسير) وسنشرح المسألة في أول فرصة إن
شاء الله تعالى.