للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن
مقدماتها وأسبابها ونتيجتها

كان الشريف حسين ولا يزال يمني نفسه بملك عظيم تؤسسه له الدولة
البريطانية؛ جزاء له على ثورته العربية وموالاته لها في قتال الترك , بأن تجعله
خليفة للمسلمين وملكًا على البلاد العربية المؤلفة من جزيرة العرب كلها والعراق
وسورية وفلسطين , وتمده بالمال والسلاح؛ لتوطيد سلطانه في هذه البلاد تحت
حمايتها وبمساعدة رجالها , وكان يعتقد أن حلفها أقوى من الحلف الألماني، ولذلك لم
يقبل ما عرضته عليه الدولة العثمانية من الاستقلال بضمان ألمانية , وكان يهنئها
بكل فتح في البلاد العربية القدس وبغداد ودمشق , ولذلك سمى نفسه ملك العرب.
وبعد احتلال سورية اعتقد أن أحلامه جاء تأويلها، وكان يشتهي أن يزور البلاد
السورية بعد توطيد سلطانه فيها، وتكرر وعده لأناس من أهلها بذلك، وفي جريدته
(القبلة) حتى إنه صرح بأن سيزور كل بلد وقرية فيها؛ أي: ليراه جميع أفراد
رعيته، ويتمتعوا ببهاء جلاله وعزته.
أفلت ملك سورية من قبضة وهمه:
(أولاً) بقرار المؤتمر السوري العام الذي أعلن فيه استقلال جميع البلاد
السورية دون الحجاز وغيره.
(وثانيًا) بتنفيذ إنكلترة وفرنسة لما كانتا قد اتفقتا عليه من اقتسام بلاد الحضارة
العربية سورية والعراق بينهما، ورأى أن ملكه لم يتجاوز إمارة الحجاز التي كانت
له من قبل الدولة العثمانية , على أنها منقوصة الأطراف غير تامة الحدود على ما
يدعي - فكان المعقول أن يتناسى ذلك الوعد أو الوعود ويتحول عنها.
ولكن الرجل يحيا حياته السياسية بشيئين: (أحدهما) نفسي، وهو الأماني
والأوهام. (وثانيهما) عملي، وهو الدعاية (البوربغندة) التي لم يحذق من شؤون
سياسة هذا العصر غيرها، وهو قد أوتي غريزة الثبات والإصرار , التي هي
أعظم الغرائز مساعدة لصاحبها على النجاح , إذا هو طلب الأمور بأسبابها، وأتاها
من أبوابها.
أصر على تسمية نفسه بملك العرب , وأمكنه بالدعاية أن يحمل بعض
أصحاب الجرائد في سورية وغيرهم أن يتبعوا جريدته (القبلة) في تحليته بهذا
اللقب، وبلقب المنقذ، وإن كان الحق الواقع المشاهد أنه لم ينل بلقب ملك العرب
تصرفًا ولا سيادة على شبر من أرض العرب لم يكن تحت سيادته قبله، وأنه لم
ينقذ بلدًا من بلاد العرب، ولا قرية من سيادة أجنبية ولا مهلكة، فإن كان أحد يسمي
انتقال البلاد السورية والعراقية بمساعدته من سيادة الدولة العثمانية المؤلفة من
الترك والعرب وغيرهم إلى سيادة إنكلترة وفرنسة إنقاذًا , فلا أنقذه الله من الذل في
الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، على أن هذا الإبسال [١] الذي سماه إنقاذًا لم يقع إلا
بترجيح دولة الولايات المتحدة لإحدى كفتي الحرب على الأخرى لا بترجيحه،
ولكن هذه الحقائق لا تمنع الملك حسينًا من التلذذ باللقبين كلما رآهما في جريدته
(القبلة) ، وفي بعض الجرائد المأجورة أو المغرورة.
وهنالك دعوى أخرى ظاهرة البطلان كظهور كذب اللقبين الضخمين الفخمين،
ولكنه فاز بتكرار الدعاية , واصطناع بعض الجرائد من غش كثير من الناس فيها
حتى صاروا يصدقونها كما يصدق الغافلون الإعلانات التجارية التي تنشر في
الجرائد زمنًا طويلاً , ولا يبحثون عن مصدرها؛ ليعلموا أنها شهادة من صاحب
الدعوى لنفسه.
تلك دعوى قيامه بأمر الوحدة العربية بجمع كلمة العرب وتوحيد قواهم وترقية
شؤونهم. والأمر بالضد، فهو هو المفرق لكلمة العرب والمحدث للشقاق بينه
وبينهم، فإنه يتوهم بكونه ملكًا للعرب وثبوت هذا الخيال في مخه، تخيل أيضًا
أن الوحدة العربية إنما تكون أو ستكون بقبول أمراء جزيرة العرب وأئمتها
لسيادته السياسية والعسكرية عليهم طوعًا أو كرهًا , وتحكيمه في شكل إدارة البلاد ونزع ما شاء منها من أيدي من شاء؛ ليولي عليه من شاء، حتى حمله الخيال على
مخاطبتهم بذلك كتابة، فضحكوا ساخرين. وطالما بينا هذا في المنار وفي غيره من
الصحف. ولكن بياننا لم يحل دون تأثير دعايته المتصلة الدائمة , حتى إنه صرح في
جريدته (القبلة) تصريحاً رسميًّا بما صدق أقوالنا الماضية؛ لما سأله رئيس
مؤتمر الجزيرة الذي هو من أبواق دعايته عن مراده بالوحدة، ونشرنا تصريحه في
المنار والأهرام، فقرأه الكثيرون في البلاد السورية، كما قرأه آخرون في الجزء
الذي صدر من جريدة القبلة في ٦ ربيع الآخر من هذه السنة، ولم يكن هذا ولا ذاك
بصارف للمخدوعين بالدعاية السابقة من طلاب الوحدة العربية أن يظنوا أنه يسعى
لها، وأن يوجهوا وجوههم إليه فيها.
فهذه الوقائع زادت الملك حسينًا إيمانًا وتسليمًا بأن الدعاية (البوربغندة) تقلب
الحقائق , فتجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا عند الجماهير من الناس، بل هي
كالسحر تخيل إلى المسحور أنه يرى بعينيه ما لا حقيقة له في الخارج.
على أنه خاب مرة في دعايته , ولم يلبث أن تدارك الخيبة وجعلها نسيًا منسيًّا
عند كثير من السوريين وخاصة الفلسطينيين منهم.
ذلك بأن الدولة البريطانية اختارت أن تعقد معه معاهدة تثبت بها اعترافه
بانتدابها على فلسطين وما تريد أن يكون لها من الحقوق في الحجاز , والتصرف في
شؤون الحجاج، وتقطع بها لسانه وألسنة الفلسطينيين دون الاحتجاج عليها بما سبق
لها معه من اتفاق ووعود. وقد طالت المراجعة بينها وبينه في ذلك، حتى إذا ما
أرسل الدكتور ناجي الأصيل الموصلي إلى لندن للبحث معها في صيغة هذه
المعاهدة في العام الماضي , قامت قيامة الدعاية حوله وأمطرت شركة روتر
الإنكليزية على البلاد العربية وغيرها برقيات خادعة فيما ينتظر من الوحدة العربية
واستقلال العرب بسعي الأصيل.
وكانت الجرائد العربية في مصر وسورية والعراق تنشر هذه البرقيات وتعلق
بعضها عليها من الشروح ما يكبر شبح الوهم، وكان بعضها ينشر مقالات مستقلة في
ذلك، ولما عاد الأصيل إلى مكة يحمل نص المعاهدة , كان له من الحفاوة فيها ما
كان، وتلا نص المعاهدة المترجم بالعربية في حفلة رسمية فخمة، وأطلقت المدافع
وصدرت الإرادة الهاشمية بجعل ذلك اليوم عيدًا رسميًّا للأمة العربية بأسرها ... ثم
ماذا كان؟ ظهرت الفضيحة للعيان , ورفض أهل فلسطين ما يتعلق بهم منها،
واضطر الملك إلى عدم الإمضاء النهائي عليها.
بعد هذه الفضيحة استأنف الملك دعاية جديدة في المسألة الفلسطينية قدم بين
يديها مساعدة لأهل فلسطين بما جمعه من الإعانة القهرية؛ لعمارة الحرم الأقصى
من أهل الحجاز، والاختيارية من الحجاج، وسمح لوفد منهم بالطعن في وعد بلفور
في الحجاز، فوضعت خطة جديدة؛ لبث الدعاية له في سورية وفلسطين , يقوم بها
نفر ممن كان بمكة من حجاج البلاد مع صنائعه فيها تكون تمهيدًا لزيارته لأطراف
سورية؛ لأجل أن يتقرر في هذه الزيارة مع زعماء البلاد أمر الوحدة العربية وما
يتعلق بها من المسألة الفلسطينية، بل وجد له دعاة من حجاج المصريين يمدحونه
ويدافعون عنه أيضًا.
ولا ندري هل كوشف أحد من الدعاة الذين كانوا في مكة بمسألة المبايعة
بالخلافة أم لا؟ ويجزم بعض أذكياء المصريين أن الإنكليز كانوا قد اتفقوا مع
عصمت باشا على إلغاء الخلاقة التركية، في زمن لا يتأخر عن أول سنة الترك
الجديدة (مارس) , وأحبوا أن تكون زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية قبل ذلك
الوقت، وأن يظل هنالك إلى أن تلغى الخلافة التركية، فيجعل ذلك سببًا لتأسيس
الخلافة العربية - كما إنهم قرروا أن تجتمع جمعية العراق التأسيسية للنظر في
المعاهدة العراقية البريطانية التي أمضاها الملك فيصل والسير برسي كوكس
المندوب البريطاني السامي في العراق , في الوقت الذي يجتمع فيه المؤتمر
البريطاني التركي لحل مشكلة الموصل، ووضع الحدود بين العراق والأناضول؛
ليخوفوا العراقيين بالتفريط بولاية الموصل، إذا هم رفضوا المعاهدة التي تضيع
جميع العراق لا ولاية الموصل وحدها.
مهما يكن من الأمر في هذا وذاك، فالدعاية لتشريف الملك قد بثت قبل مجيئه
وفي أثناء وجوده، حتى وصلت هينمتها في الحالين إلي - وعرضت شبهاتها
وأمانيها علي، واقترح علي أن أكون من الزائرين له، وسئلت عما أشترطه في
ذلك، وقنع أحذق من كلمني في ذلك بأن أسكت عنه، ولو ريثما تظهر نتيجة ما
يرجى منه، وزعموا أنه قد اتعظ واعتبر بأغلاطه السابقة. وقال بعضهم: إن
الإنكليز قد غيروا سياستهم معه، وأنهم سيمنحون البلاد ما يرضيها على يده، إذا
رأوا أن الأمة تؤيده. (قالوا) : فلا تكن من أسباب حرمانها من ذلك. فقلت: إني
سأصبر في هذه المرة كما صبرت فيما قبلها , حين بثت الدعاية لسعي ناجي
الأصيل , وأنا لا أرجو لهذه الأمة خيرًا على يده، ولا آمن عليها من شر عمله،
فتجربة المجرب تحصيل حاصل، بل عبث يتنزه عنه العاقل و (المؤمن لا يلدغ
من جحر مرتين) وإنما أسكت؛ لأقيم الحجة بعد الحجة عليكم، وأعدكم بأن أبذل
جهدي في تأييده إذا كذب ظني وصدق ظنكم، وإن ظل يؤذيني هو وأولاده
وخليفتهم، فأنا أعمل لأمتي لا لهم ...
هكذا كانت الدعاية تنشر، وكان من حسن حظ دعاتها أن وقع تنازع بين
فرنسة والترك حمل من في سورية من الفرنسيس على الإغماض عن هؤلاء الدعاة
لإضعاف ما كان قوي من نفوذهم، فنجحوا وأوهموا أكثر أهل البلاد الغافلين بأن
السعادة للعرب ستتم بتشريف ملكهم إلى ضواحي سورية.
تحرك الركاب الهاشمي - كما يقولون - متنقلاً في البلاد الحجازية إلى أن
وصل إلى شرق الأردن، وهو يقابل في كل مكان بالحفاوة والتكريم والدعوات
والخطب والقصائد، وجرائد مسلمي سورية تحلق في فضاء الخيال، وتصور فيه
ما تصور من الأماني لا الآمال، وأرسلت المكاتبين إلى شرقي الأردن؛ ليحصوا
لها ما يكون هنالك من عظمة (ملك العرب ومنقذهم) ، وما يقرره المؤتمر العربي
الذي زعموا أن سيعقده من وفود الأحزاب وزعماء البلاد، تنجيزًا للوعود التي
بشرهم بها الدعاة.
وقد أعد الوجهاء ولجان الأحزاب المختلفة عدتهم للقاء الملك , وعرض
مطالبهم القومية على مسامعه، بناءً على ما صدر به الوعد من أنه يريد أن يعمل
في هذه المرة بالشورى (خلافًا لعادته) وكان أحسن ما قرروه - لو صادف محله -
أن يتفقوا على برنامج عام؛ لمصلحة العرب العامة يكتبونه، ويوقعه مندوبون من كل
حزب، ويرفعونه إليه - وأن يكون ما يعرضه بعضهم من الاقتراحات الموضعية
الخاصة غير معارض لهذه المطالب العامة - وقد فعلوا - ومما اتفقوا على أن
يكاشفوه متفقين بما يشكون من سوء سيرة نجله الأمير عبد الله في أقواله وأفعاله
المنافية للمصالح الوطنية العربية، والمؤيدة للسلطة الأجنبية - وقد فعلوا كما أخبرنا
الرواة عنهم - ثم كان ماذا؟
كان أن شغلت جرائد سورية وفلسطين عدة أشهر بأخبار الوفود , ووصف
الاحتفالات والسمط (أو السماطات) ونشر القصائد والوعود , وحكايات الأقوال
والمفاخر الهاشمية، حتى إذا ازدوجت المخيلات بالواهمات، ولقحت بالأماني
المستعذبات، جاءها المخاض بسقوط الخلافة التركية، فأجهضت فوضعت الخلافة
العربية، فالتقطها (ملك العرب الخيالي) سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل،
معتقدًا أن الدعاية (البوربغندة) تُتِمُّ خلقها، وتنفخ الروح فيها، كما فعلت بمنصب
(ملك البلاد العربية) قبلها , ويكفي في هذه الحياة عنده أن يبث لها دعاية جديدة
بين حجاج الآفاق، ويستعين بها في الجزيرة على بث الشقاق، وأن تقول جريدة
القبلة بمكة، وجريدة الشرق العربي الرسمية في عمان، وجرائد الطبل والزمر
ولسان العرب بفلسطين، وجريدة الحقيقة ببيروت، وأمثالهن من جرائد سورية
والعراق: إن صاحب الجلالة الهاشمية، هو خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين،
وملك العرب أجمعين. بل يقدر الملك حسين ودعاته أن يستأجروا في مصر
وغيرها أمثال هذه الجرائد لذلك.
حمل الرجل اللقب وانقلب إلى بلده مسرورًا، وظل الأمير عبد الله حيث كان
بالرغم من أنوف السكان والجيران، وصارت إمارته شرًّا مما كانت، وأبعد عن
الاستقلال، واشتد ضغط الفرنسيس على المسلمين الذين بايعوه، فاعتقل أفراد من
الوجهاء وأخرج آخرون، وفر دعاته أصحاب جريدة الحقيقة هاربين من بيروت،
وازدادت المسألة العربية بعدًا عن الوحدة بفشل مؤتمر الكويت الذي كان سببه
اقتراحات (منقذ العرب ومؤسس وحدتهم) واقتراحات ولده الأمير عبد الله التي
أملاها الغرور بالاتكال على الإنكليز في تمليكهم لنجد وغيرها من الجزيرة، وما كان
لهذا الشقاق من سبب، إلا الغرور بلقب ملك العرب، فكيف وقد ضم لقب الخليفة
الأعظم وأمير المؤمنين إلى لقب ملك العرب أجمعين؟ دع الغرور بلقب الشريف،
الذي يدعي هو ودعاته أنه هو المؤهل للملك والخلافة، ولكن له ولأولاده دون سائر
شرفاء الأمة.
إننا لنقول والحزن يملأ قلوبنا: إن الترك قد فضحوا العالم الإسلامي بما فعلوا
بخلافتهم شرًّا مما فضح به الملك حسين بمبايعته الأولى والثانية؛ إذ ظهر للإفرنج
أن مبايعة الملايين لرجل بالخلافة ليس إلا كلامًا لغوًا لا يترتب عليه عمل يذكر،
وقد أدرك الإنكليز ذلك قبل غيرهم , فلم يبالوا بمبايعة الجماهير من مسلمي مصر
والهند لخليفة تركي، ولا مبايعة أهل فلسطين لخليفة عربي، وقد عد العقلاء منهم
ومن غيرهم اهتمام فرنسة بمبايعة مسلمي سورية رعونة وخفه من رجالها هنالك،
ولو كانت إنكلترة تعتقد أن هذه البيعات حقيقية، يترتب عليها ما في كتب الشرع
من الأحكام الشرعية؛ لبذلت كل نفوذها في إبطالها، ولما تجرأ الملك حسين حينئذ
على التصدي لها، فإن أول ما يترتب عليها قتاله إياها في فلسطين؛ لإخراجها منها،
وهي الآن ترجو أن تنتفع من الخلافة الحجازية حتى بتوطيد نفوذها فيها، على
أن يكون للخليفة وأولاده شركة في ذلك.
ولما طفقت السلطة الفرنسية في سورية تعارض مسلميها في المبايعة لحسين،
والدعاء له في خطبة الجمعة , احتجوا عليها بأنها تمنعهم من حريتهم الدينية
المحضة، وذلك أنهم عالمون بأنهم لم يكونوا بهذه المبايعة تابعين له في السياسة ولا
الإدارة، ولا الحرب ولا القضاء , ونحن نزيد على ذلك أنهم غير تابعين له في
صلاتهم ولا صيامهم ولا زكاتهم، حتى ما هو من شأن الخليفة من ذلك كتعيين
الأئمة والخطباء للصلاة وأخذ مال الزكاة , وأما الدعاء للخلفاء في خطبة الجمعة
فليس من أركانها ولا من شروط صحتها، فلم يبق لفرنسة عذر في معارضة القوم
في مبايعتهم، ولا في الدعاء له في خطبهم، وما تكرهه من قوة نفوذه الروحي بذلك،
فالمعارضة لهم أشد تأثيرًا في زيادته.
ومما يؤيد قولنا في رأي مسلمي سورية في الخلافة أنها أمر ديني لا علاقة له
بالسياسة - ما يقوله ويكتبه بعض المصريين في ذلك بعد أن كان من مبايعتهم لعبد
المجيد أفندي ما كان، ثم من اقتراح بعضهم دعوته للإقامة بمصر، فأنصاره
يعدون معارضة الحكومة المصرية لهم في الدعوة له اضطهادًا للحرية الدينية، ولو
كانوا يفهمون معناها الشرعي ويريدونه، لعلموا أن عملهم يقتضي إسقاط الحكومة
المصرية , وجعلها تابعة لعبد المجيد أفندي! ! وهل هذا إلا أساس السياسة الذي تبني
عليه جميع أركانها؟
إنني مضطر إلى إظهار الحق عريانًا في هذه المسألة كما فعلت في مسائل
كثيرة، ولم أخف في الله لومة لائم، حتى إن شيخنا الأستاذ الإمام كان أول من
وصفني بهذا وانتقده علي في بعض المسائل , وما أبرزته عريانًا في مسألة إلا بعد
أن عرضته مزينًا بالحلي والحلل، فلم يعرفه ممن عرضته عليهم أحد، فأقول:
إنه لا خوف على سلطة فرنسة في سورية من مبايعة هذا الرجل إلا إذا
استعمله الإنكليز في مقاومتها، وما دام الفرنسيس متكافلين مع الإنكليز فيما اعتدوا
به علينا باسم الانتداب فلا خوف منه، فإن تحرش هو وأولاده بهم، فإنما يفعلون
ذلك لجر مغنم يريدونه منهم، ولا يجهل الفرنسيس أنهم يبيعون العرب والإسلام
بلقب ملك أو سلطان، وقد جربوا فيصلاً من قبل عبد الله في ذلك ورأوا تجربة
الإنكليز من قبلهم. على أننا نحمد الله تعالى أن بَغَّضَ هذا الأسرة التي رزئت بها
الأمة العربية إلى الفرنسيس , فلم يقبلوا إبقاء فيصل في سورية؛ لإخضاعها لهم
وفاء باتفاقه مع كليمنصو بعد إسقاطهم لحكومتها الاستقلالية، وتوطين نفسه على أن
يبقى ملكًا في ظل الانتداب الذي قبله أولاً وآخرًا، ثم لم يقبلوا استخدام أخيه عبد
الله بمثل ذلك , وقد بذل شرفه وكرامته في السعي له، نحمد الله على ذلك؛ لأن
أكثر مسلمي سورية لا يزالون يخدعون بلقب شريف، ولم يطل خداع الشيعة في
العراق به كما طال خداعهم، ولو كان سائر المسلمين كذلك لوجب على عقلاء
طلاب الإصلاح وإعادة مجد الإسلام أن يقرروا حرمان كل من يحمل هذا اللقب من
كل رياسة في هذه الأمة، ولا سيما إذا كان مفتونًا به كشرفاء مكة، أقول هذا وأنا
شريف مقابل.
أما والله لو كنت أعلم أنه يرجى منهم إخراج فرنسة من سورية على أن تكون
مستقلة دون نفوذ أجنبي آخر , ولو تابعة للحجاز - لبذلت كل ما أستطيع في تأييدهم
ومساعدتهم على ذلك بدلاً من مجاهدتهم على تمكين نفوذ الأجانب فيها وفي غيرها،
فإنني أعلم أن ملك الحجاز لا يستطيع أن يستبد في سورية، ولا أن يحول دون
حريتها.
ووالله لو كنت أعلم أنهم يستطيعون جعل جزيرة العرب وغيرها مملكة واحدة
خاضعة لهم وحدهم بدون نفوذ أجنبي - لتمنيت نجاحهم على ما أعلم من ظلمهم
واستبدادهم؛ لاعتقادي أنهم لا يستطيعون الاستبداد بهذه الأمة بعد جمع كلمتها
وتوحيد حكومتها، وأن المصلحة في ذلك أرجح من المفسدة في كثرة الحكومات
المتعادية.
ثم والله لو كنت أعلم أنه يرجى من حسين جمع كلمة المسلمين كلهم أو أكثرهم
أو عدة شعوب منهم باسم الخلافة على الحق والإصلاح - لوددت تقمصه إياها، ولو
نهض بها كما يجب لبذلت وسعي في تأييده، وإن كنت أعلم أنه فاقد لسائر شروطها،
وحسبي هذا منها لو حصل، ولكنني أعتقد أنه يخشى ضره، ولا يرجى
نفعه، وقد بينت هذا بالبراهين الكثيرة , ولم أره أجاب عن شيء منها في جريدته
جوابًا معقولاً ولا غير معقول، ولا أجاب عنها أحد من أنصاره، وإنما سبوني تبعًا
له وشتموني، وادَّعوا أنني ناقضت نفسي بأن مدحته ثم ذممته، وأيدته ثم خذلته،
وأن لي هوًى في ذلك، وليس هذا من الرد على براهيني بشيء. فإن صح قولهم
الأول فما هو من التناقض المنطقي الذي يبطل به الدليل؛ لأن من شروطه
اتحاد الزمان والموضوع وغير ذلك من (الوحدات الثمان) . وإن صح الثاني
فحسابي فيه على الله تعالى , ويبقى عليهم أن يبطلوا براهيني في الطعن في
سياسته , وبيان ضررها وكثر ما قلت لمن كلمني من أنصار ولا أزال أقول:
أقنعوني ببطلان ما أثبته، ولكم علي أن أرجع عنه وأخطئ نفسي. فلم يقدروا، كما
عاهدتهم بأن أنصرهم إذا هم رجعوا إلى الصواب الذي قام عليه البرهان عندي وعند
جميع من أعرفه من العقلاء حتى ممن يرجون الخير منهم أو يدعونه لهم، ولا
أريد على ذلك جزاءً ولا شكورًا.
إننا قرأنا ما فيه العبرة من أحداث التاريخ ولا سيما تاريخ الاستعمار للبلاد
الشرقية عامة والإسلامية خاصة , ورأينا كيف ضرب المستعمرون بعض أمرائها
وملوكها ببعض، وهكذا يفعلون اليوم في جزيرة العرب، وأخشى أن تكون هذه
الخلافة الباطلة من شر آلاتهم في ذلك , فيجب علي أن أنكر هذا المنكر العظيم،
ويحرم علي أن أسكت عنه، لكيلا أكون شريكًا لهم في إثمه.
إن الدولة البريطانية لم تستهن بأمر (الملك حسين) في السنين الأخيرة؛ إلا
لأنها رأت أنه لم يبق له شيء من النفوذ يمكن أن تستفيد منه، وهي الدولة العريقة
في التجارة بالسياسة، وكان أول غرض له من زيارة أطراف سورية وما بذله في
سبيلها أن يريها نفوذه فيها، وستستأنف العمل معه وإرضاءه بعد هذه المبايعة، فإن
الخلافة بضاعة ثمينة , قد طفقت تجرب نفوذ اسمها في الشافعية من أهل تهامة
اليمن وحضرموت بعد أن فشلت فيما كانت تسعى إليه منذ هدنة الحرب العظمى
من عقد اتفاق مع الإمام يحيى حميد الدين يجعل لها من الحقوق والامتيازات في
بلاده المستقلة ما يكون بابًا للتدخل في شؤونها، والعبث باستقلالها، فخاب سعيها،
وعاد مندوبها (الكولونيل جاكوب) من روضة صنعاء بخفي حنين، وسنعود إلى
هذه المسألة بعد تمحيص ما جاءنا من أخبارها.
وغرضنا الآن أن نثبت أن إخواننا في فلسطين وسورية قد استعجلوا في أمر
كانت لهم فيه أناة، ولم يصغوا إلى نصيحة الناصح الأمين انخداعًا بالدعاية
الحجازية، فبايعوا حسينًا بالخلافة بدون أن يقيدوه بقيد ما يصلح به ما أفسده من
قبل، كما ذكرناهم في المقال الذي نشرناه في الأهرام.
بل أعطوه سلاحًا يزيده قوة في عداوة جيرانه أئمة الجزيرة العربية المستقلين
المسلحين، وهي الدعوة إلى الشقاق والفتن باسم أمير المؤمنين. فالحكم الشرعي:
أن من صحت إمامته وجبت طاعته في قتال من شذ عن جماعته , المفروض أنهم
أهل الحل والعقد في الأمة وأولو الأمر منها، فإذا أمكنه بالدعاية والدنانير
الإنكليزية أن يجعل هذا الهزل جدًّا، وهذا الباطل حقَّا، وعجز معشر العلماء الذين
لا تأخذهم في الحق لومة لائم أن يظهروا الحق للناس. أفلا يخشى أن يقضي
بخلافته الباطلة على ما للعرب من هذه القوة الباقية، فيتغلغل الأجانب فيما بقي من
الجزيرة المقدسة , التي أحاطوا بها بمساعدته ومساعدة ولديه عبد الله وفيصل من
الشمال والشرق، كما يحيط بها البحر من الجنوب والغرب؟ فما لإخواننا هؤلاء لا
يتفكرون، ويرون العبر بأبصارهم ولا يعتبرون.
أما كان يجب عليهم أن يترووا في درس هذه المسألة، وأن يقترحوا على
الرجل اقتراحات يجعلون تنفيذها شرطًا مقدمًا على عقد البيعة، إن قنعوا بعد
التروي بترجيح مبايعته؟ بلى وأهم ما كان يجب عليهم أخذ الميثاق عليه فيه
وانتظار تنفيذه - الأمور الآتية:
(١) نبذ الحماية البريطانية التي تقيد بها فيما يسميه مقررات النهضة،
وعدم تقييد البلاد بمعاهدة أخرى تجعل للأجانب نفوذًا في البلاد.
(٢) الاعتراف بالحالة الحاضرة في إمارات بلاد العرب , وإلغاء ما صرح
به لرئيس مؤتمر الجزيرة، من عقده العزم على جعل جميع إمارات الجزيرة من نجد
واليمن وتهامة تابعة لحكومة ملك العرب في السياسة الخارجية والعسكرية والإدارة
العامة.. إلخ.
(٣) السعي لعقد محالفة بين هذه الإمارات كلها , يتقرر فيها اتفاق الجميع
على الدفاع عن جزيرة العرب , والتعاون فيما بينهم على عمرانها، وعقد مجلس
تحكيم للفصل في كل نزاع يقع بينهم، وتفصيل ذلك باتفاق يوقعه الجميع , وقد
سبق لنا تفصيله.
(٤) السعي لجعل بلاد الحجاز قطر سلام وحياد لا يعادي ولا يعادى، ولا
يقاتل ولا يقاتل، وأن تعترف بذلك الدول الإسلامية وغيرها.
(٥) وضع نظام للخلافة يعلم كل مطلع عليه أن الخليفة لا يمكنه أن يستبد
في عمل من الأعمال , وأنه يرجى أن ينفذ لعقلاء الأمة وحكمائها ما يطلبون لها من
الإصلاح، وغير ذلك مما ذكرناه، بعضه في كتاب (الخلافة) ولا محل للخوض فيه
هنا.
وإنهم سيقرؤون في باب الفتوى من (ج٤) أن مبايعة هذا الرجل بالإمامة
العظمى باطلة شرعًا من بضعة وجوه، وأنها على بطلانها شرعًا، ضارة قطعًا،
وإن أكبر عار وخزي على أمتنا أن توجد فيها كل هذه المهلكات , ولا يتصدى أحد
لإنكارها والتحذير منها.
ولا يحسبن أحد أننا علمنا الأجانب بما كتبنا ما لم يكونوا يعلمون، ويا ليت
الذين يظنون ذلك يعلمون ما يعلمه الأجانب من أحكام الخلافة وأحوال المسلمين فيها،
إننا نعلم أن الإنكليز قد استكتبوا في سنة ١٩١٤ كثيرًا من علماء الأقطار
الإسلامية هذه الأحكام , وألفوا لجنة أو لجانًا لدرسها، وقد اطلعت مرة على نصوص
فيها , كتبها لهم بعض كبار علماء الأزهر. ولا أدري من طلب لهم ذلك.
هذا وإننا نطالب من يزعم أن ما كتبناه خطأ من الجهة الشرعية أو الجهة
السياسية الدائرة على مصلحة العرب والمسلمين , أن يبين لنا ذلك بإبطال أدلتنا
وإقامة أدلة أخرى على صحة خلافة الرجل , وعلى فائدتها وكونها غير معارضة
بمفسدة تقدم عليها , فإن فيمن بايعوه أفرادًا من أصدقائنا وغيرهم نجلهم ونحترمهم،
إما لعلمهم وأخلاقهم، وإما لوطنيتهم، ولكننا نقول: إنهم قد أخطؤوا في مبايعة
حسين كما أخطأ أمثالهم من علماء مصر في مبايعة عبد المجيد، أو في القول
بصحة خلافته ووجوب طاعته على أهل مصر وغيرهم، ونحن مستعدون لمناظرة
الفريقين، في موضوع الفتوى التي بينا فيها بطلان البيعتين، (والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل)