للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية

إن كل ما قرر في الجمعية الوطنية للجمهورية التركية من إلغاء الخلافة
والمحاكم الشرعية والتعليم الديني والأوقاف قد حف في أثناء المناقشة بتأويلات
وتمويهات , مما لفقه سيد بك وأمثاله لإقناع المتدينين من أعضائها , أو إلزامهم
الحجة بأنه لا ينقض شيئًا من عرى الإسلام ولا يهدم شيئًا من أركانه , وإنما هو
إصلاح لحال الأمة التركية , إذا لم يوافق نصوص الشرع فإنه يوافق مقاصده.
والظاهر أنهم تحروا في انتخاب الأعضاء أن لا يكون فيهم أحد من علماء الشرع
الأعلام، الجامعين بين قوة الإيمان وطلاقة اللسان وجراءة الجنان؛ إذ لم ينقل إلينا
عن أحد منهم دفاع يدل على ذلك.
ولما كانت هذه التأويلات الخادعة مضلة للمسلم الجاهل، وشبهة للمنافق
الضال، ومزلة للمحب الغال، وجب علينا أن نفندها، ونبين الحق الصراح فيها،
كما فندنا بدعة الخلافة الروحانية التي بدأوا خطتهم بها، ونحن لا نكفر شخصًا
معينًا إلا بكفر بواح بإجماع أهل الحق، وإنما نبين الأحكام، ونترك تطبيقها إلى
القارئ.
ورأينا أنه يجب على العالم الإسلامي أن يزداد عطفًا على الشعب التركي
وعناية بأمره ودفاعاته، وأن لا يقصر في الدفاع عن حكومته أيضًا فيما تختلف فيه
مع الأجانب، ولكن من أكبر الجنايات عليه وعلى الإسلام أن يتأولوا لهذه الحكومة
ويواتوها في أي عمل من الأعمال , التي تضعف الدين أو الشرع في هذه الأمة ,
بل من أكبر المحرمات أن يسكتوا لها عن شيء من ذلك , كما كان يفعل أكثرهم من
قبل في الدفاع عن السلطان عبد الحميد ثم عن الاتحاديين الذين تغلبوا عليه وخلعوه ,
فكانوا شرًّا منه، وقد خلفهم الكماليون , فكان الافتتان بهم أشد منه بمن قبلهم، ولم
يلبثوا أن هتكوا الستر فانقلب العالم الإسلامي كله عليهم، وبعد أن أشبعوهم طعنًا
ولعنًا وتكفيرًا عاد بعضهم إلى نوط الآمال بهم، والتأول لهم والرضى منهم بأسماء
يسمونها ما أنزل الله بها من سلطان.
هذا النوع من المحبة والعطف الذي جرى عليه الكثيرون من مسلمي الهند
ومصر وتونس قد أضر الترك ولم ينفعهم. وهو هو الذي أنطق عصمت باشا بأن
العالم الإسلامي لم يكن يعطف على الدولة التركية ويظاهرها؛ لأنها دولة الخلافة بل
لأنها قوية، وقد أنكر الكثيرون هذه الكلمة وعدوها من الغرور، وهو فيها معذور أي
معذور، فإن العالم الإسلامي لم يكن يشعر بخلافة العثمانيين في وقت من الأوقات كما
يشعر بها في عهد السلطان عبد الحميد، ولم يلقب أحد بالخليفة في الجرائد والقصائد
غيره أو مثله، ثم أسقطته جمعية ماسونية إلحادية , ونصبت بعده آخر لم تجعل له
أمرًا ولا نهيًا، فلم تر من العالم الإسلامي إلا مدحًا وإعجابًا، ثم جاءت شيعة الكمالية
فجعلت الحكومة جمهورية، وأزالت سلطة الخلافة من الدولة، ولكنها سخرت من هذا
العالم الإسلامي بتسمية خليفة أخذت عليه العهود والمواثيق بأن لا يكون خليفة،
فرضي، فصفق لها الجماهير، وقالوا: إن هذه خلافة الراشدين! !
ومن العجيب أن بعض المتحككين بالسياسة من المسلمين لا يزالون يحمدون
كل ما تفعله , بشرط أن تحافظ على بعض الألفاظ الإسلامية محافظة رسمية , كأن
تسمي الحكومة الجمهورية التي تعطي جمعيتها الوطنية حق التشريع والتنفيذ بلا
شرط ولا قيد (حكومة الخلافة) - وتسمي إلغاء المحاكم الشرعية توحيدًا للقضاء،
وإبطال المدارس الدينية تنظيمًا للمعارف ... ولا يعقل لهذا سبب إلا الاعتزاز بالقوة
ولو وهميًّا، ومن هؤلاء السياسيين من يفهم الحقائق ولكنهم كانوا قد ألقوا أنفسهم في
ورطة , ثم رأوا أنفسهم عاجزين عن الخروج منها بغير التأويل لمصطفى كمال
وشيعته كل ما يفعل إلا إلغاء كلمة (خلافة) ! ! !