للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاعتماد على النفس

] وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: ١٧) يجني على نفسه ويلحق بها
البلاء بسعيه، ويهمل أسباب سعادته، ويتنكب طرق رفاهته ثم يتجرم على الناس أو
يتذقح ويتجنى على الطبيعة زاعمًا أنه ما مني بالنوائب ومنع من الرغائب إلا من
نكد الزمان وتقصير الإخوان، فإن ضاقت به سبل الأعذار أنحى باللوم على
المقدار، وقال: ما تنفع حيلة البشر إذا كان خصيمهم القضاء والقدر!
وغدَا يعتب القضاء ولا عذ ... ر لعاصٍ فيما يسوق القضاء
كل ملي يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق بإرادته واختياره على حسب ما سبق
في علمه، وممن خلق نوع الإنسان الذي يعمل بإرادة واختيار ينشآن عن العلم بوجوه
المصالح والمنافع والمفاسد والمضار، وهذا العلم منه ما يكون له بالضرورة، ومنه ما
يكتسبه اكتسابًا من طرق واضحة تؤدي إلى غاياتها إذا لم ينحرف السالك عن جادتها
فهل الاعتقاد بعلم الله وإرادته يكون عذرًا للإنسان إذا زاغ عن الصراط المستقيم
فوقع في الرجز الأليم؟ ! وهل إذا فرض أن العالم وُجد بالاتفاق من غير خالق أو
أن خالقه - تعالى وتقدس - جاهل أو مكره (سبحانه سبحانه) يزول عذر الإنسان؟
كلا، إن هذا هذيان لا يقول به عاقل.
ولكن ما بال المسلمين يحتجون بالقضاء والقدر حتى صاروا سخرية عند
سائر البشر. واعتقدت الأمم المتمدنة أن هذا الاعتقاد سد بينهم وبين الارتقاء. وإن
ساد به من قبل آباؤهم القدماء. بل وإن كانوا يعتقدون معهم أن الله لم يخلق شيئًا إلا
بإرادته. وأن جميع ما وجد في الكون موافق لما سبق في علمه أو مشيئته. ولا يخرج
معنى القضاء والقدر عند أئمة المسلمين عن هذا الذي قلناه، ولم يقل أحد
منهم بأنه يجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر على تقصير الإنسان في علمه وإخفاقه في سعيه، بل صرحوا بالمنع منه تصريحًا؛ لأن فيه مع إساءة الأدب بنسبة
القبيح إلى الله تعالى - مخالفة هدي الكتاب والسنة ونصوص الأئمة؛ فقد ساق القرآن احتجاج الكفار بالمشيئة مساق التوبيخ والتقريع حيث قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ
أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١٤٨) وقد فسر البيضاوي وغيره (الخرص)
هنا بالكذب ولو لم يكن في المسألة غير هذه الآية لكانت كافية في الزجر والردع
عن الاحتجاج بالقدر، كيف وهناك آيات كثيرة منها ما هو صريح في المعنى كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ
يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: ٤٧) ومنها ما هو غير
صريح. والأحاديث وآثار الصحابة وأكابر السلف من الأئمة المجتهدين وغيرهم في
الأمر بالإمساك عن الكلام في القدر والنهي عن الخوض فيه - لا تكاد تُحصى.
الإسلام دين الفطرة (أي: الطبيعة والخليقة) فليس فيه شيء يخالف الواقع
الذي ثبت وجودًا أو ينابذ العقل الصحيح؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة
فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (كاملة
البدن) هل تحسون فيها من جدعاء؟ !) ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: ٣٠) . والفطرة تدلنا بالوجدان
الذي هو أقوى البراهين أننا نعمل باختيارنا، والاختبار والاستقراء الصحيحان يثبتان
لنا أن سعادة الإنسان في أفراده ومجموعه نتيجة أعماله، وأن شقاءه من آثار كسبه
وأنه متى استوفى الأسباب الطبيعية لأمر من الأمور- بلغه وأدركه، وأنه لا يخيب
أمله ويخفق سعيه إلا لأسباب أخرى تحول بين المبدأ والغاية، وأنه قلما تتعاصى هذه
الأسباب الحائلة عن قدرة الإنسان.
وجاء الإسلام موافقًا للفطرة فصرح كتابه الحكيم بقوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى: ٣٠) وبقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: ٣٩-٤٠) وبقوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: ١٢٣) الآية. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
وأكثرها عام لأعمال الدنيا وأعمال الآخرة.
وأما قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن
نَّفْسِكَ} (النساء: ٧٩) وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: ٧٨)
فلا ينافيان ما تقدم؛ لأن الثاني بيان لأن الله تعالى خالق كل شيء، وقد جاء ردًّا على
الذين {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِندِك} (النساء: ٧٨) وهم اليهود، وكانوا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم، ومعنى: {مِنْ عِندِك} (النساء: ٧٨) بشؤمك علينا، فنفى القرآن
اعتقاد الشؤم، وأثبت أن الأشياء إذا أضيفت إلى غير أسبابها الظاهرة فلا تضاف إلا
إلى خالق الأكوان الذي يرجع إليه الأمر كله، وأما الأولى فمعناها أن جميع ما خلقه
الله تعالى للإنسان من الحسنات والنعم فهو فضل منه وإحسان لا في مقابلة عبادتهم
له؛ لأن العبادة لا تنفعه وعدمها لا يضره، ومهما بلغ العبد من العبادة فلا يكافئ
نعمة الوجود فكيف يقتضي غيره؟ وأن جميع ما يصيبه من السيئات فهو من
نفسه؛ لأن الله تعالى بيّن له أسبابها بما هداه إليه من سنن الكون وأحكام الشرع التي تؤدب النفس وتقف بها عند حدود الاعتدال في الأعمال والمعاملات كلها، فمن
استرشد بسنن الكون ووقف عند حدود الشرع لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن
ذكر الله المبين لها فإن له معيشة ضنكًا في هذه الحياة الدنيا ولَعذابُ الآخرة أشد
وأبقى. فهذه الآية كالتي صدرنا بها المقالة في بيان أن شقاء الإنسان إنما هو من نفسه
بسوء أعماله وقبيح كسبه، وإعراضه عن هداية الله تعالى في الاعتبار بكتابه
وبخليقته. وأما الآية: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: ٧٨) فهي مبينة
للاعتقاد بالله تعالى لا للأسباب والمسببات، والكل حق لا يرتاب فيه عاقل وإن لم
يكن مسلمًا.
إذا علمنا هذا، فعلينا أن نرجع على أنفسنا بالتعنيف، وننحّي عليها بالعذل
والتوبيخ. ونطالبها بجميع ما نزل بنا من البلاء. وحل في أمتنا من الأرزاء، لا
أن نعتب الأقدار. ونحيل على الأغيار؛ فإن الله تعالى ما ظلمنا ولكن ظلمنا أنفسنا،
أليس قد هدانا النجدين وبيَّن لنا السبيلين، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة لعلنا
نشكره باستعمالها فيما خُلقت له. ألم يخبرنا بل لهذا الكون سننًا لا تتبدل ولا تتحول
فَلِمَ نُعرض عن مراعاتها؟ ! ألم نقرأ في كتابه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: ٤٦) فعلامَ لا نعتمد على أنفسنا
ونتكل - بعد الثقة بالله - على أعمالنا؟ ألم يأمرنا بالسير في الأرض والاعتبار
بأحوال الأمم وها نحن أولاء نشاهد الأمم النشيطة في الكسب العظيمة الهمة
المعتمدة أفرادها على أنفسهم مع مراعاة نواميس الخليقة قد سادوا على العالم
واستخدموا الأمم واستأثروا بالسلطان، وأصبح أضعف أفرادهم أكبر همة وأعز نفسًا
من أعظم الأمراء والملوك. أنكتفي في مصائبنا الشخصية بمعاداة إخواننا والعدوان
على أبناء أوطاننا وفي مصائبنا القومية ينبز الذين سلبوا استقلالنا بالألقاب ونسبتهم
للظلم والغشمرة؟ ونحن نعلم أن من سنن الكون استيلاء القوي على الضعيف
وامتصاص الغني ثروة الفقير. والاعتراض على نواميس الخلق اعتراض على
الحكيم العادل. وانتظار خرقها أو تغييرها لا يصدر إلا من أخرق أو جاهل.
سبحان الله، كلنا يحب أن يكون غنيًّا غير فقير، وعزيزًا غير ذليل وسعيدًا
غير شقي. كل مصري يتألم من احتلال الأجانب لبلاده واستيلائهم على ينابيع
الثروة والسيادة فيها حكامًا وتجارًا، حتى من يقول: إن الاحتلال نفع ولا يزال نافعًا
من بعض الوجوه. كل شرقي يتململ من استعمار الغربيين لجزء كبير من الشرق
وطموحهم لاستعمار باقيه، فإذا كان غير المسلمين من الشرقيين يعذر لتقاليده الدينية
بالجهل وعداوة العقل والتشاؤم من علم الاجتماع البشري ومن الفنون الطبيعية التي
تبين له طرق السيادة والسعادة، فهل يصح للمسلمين ذلك والقرآن بين أيديهم
يحذرهم وينذرهم ويستصرخ عقولهم ويستنجد هممهم ويرشدهم إلى سنن الخليقة
ويبين لهم الطريقة ويلحق بهم عار التقصير ويقول لهم: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: ٣٠) .