للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا


استنهاض همم
(٢)
أما زعماء هذه النهضة والعاملون عليها والقائمون على مجاري الإصلاح فيها
فهم ثلاثة: حاكم، وعالم، وذو فضلة من مال.
أي امرئ مسلم يمكنه أن يقتصد شيئًا من نفقاته ويستبقي فضله من ماله فيعده
لخير المسلمين وفائدتهم ودفع الضر عنهم وتعليم نشئهم وأحداثهم ولم يفعل - كان
آثمًا إن لم يكن إثمًا شرعيًّا كان إثمًا عقليًّا سياسيًّا.
كل عالم في طاقته وعظ العامة وإرشادهم لما فيه خيرهم وتعليمهم ما يجب
عليهم وحثهم على الألفة وحسن المعاشرة والتخلق بالأخلاق الفاضلة والسعي وراء
الكسب وترك البطالة أو تأليف الكتب وإيداعها مسائل العلم الحق الذي ينور الأذهان
ويرشد إلى العمل ويبث روح النشاط في الأفراد أو إنشاء صحيفة سيارة يكتب فيها
ما فيه فائدة للأمة؛ كحثها على بذل المال في سبيل نجاحها وإشراع مناهج
الإصلاح، لها وإرشادها إلى ما به قوام وحدتها وحفظ جنسيتها وتحذيرها من مقاصد
الطامعين فيها وتنبيهها إلى الواجب لها وعليها، كل ذلك في طاقته ولم يفعل - كان
مجرمًا بغيضًا ممقوتًا إن لم يكن من جانب الشرع [١] فمن قِبَل العقل والطبع.
كل حاكم يلي عملاً من أمور المسلمين فيسلبهم الأمن ويأخذ عليهم الطريق في
أعمالهم المفيدة ويخزل (يعوق) العاملين منهم عن النهوض لما توخوه من الإصلاح،
ويوصد دون مشروعاتهم النافعة أبواب النجاح، ويتقاعد عن حماية حوزتهم،
ويتغاضى عن مصالحهم العامة أو يكون كنافذة يطل منها الأجنبي على أسرارهم
ومطويات شؤونهم - كان مذؤومًا (مذمومًا) مدحورًا على لسان العقل والشرع
والناس أجمعين.
أي فرد من أفراد الأمة دُعي إلى عمل فتقاعس عنه وهو مقدور له أو اعترض
في سبيل العاملين أو ثبط الهمم عن مشايعتهم ومظاهرتهم، أو طفق يقع في أعراضهم
وتناول منهم لؤمًا وخبثًا - كان مرذولاً مذمَّمًا عند الله والناس وفي الملأ الأعلى إلى
يوم الدين.
هذا ما يحسن بالأمة أن تتجه إليه أفكارها وتلهج به ألسنتها وتخفق لأجله أقدام
رجالها:
العلماء يصلحون كتب العلم وينقحون كتب التعليم، ويضعون في كل فن كتبًا
سهلة المأخذ فصيحة العبارة، ويعقدون اللجان للمذاكرة في إنجاز ذلك، ويلقنون العامة
والدهْماء عقائد الدين وتعاليمه الحقة ويطهرون نفوسهم من لوث الرذائل والخرافات
والأوهام.
والحكام من وراء العلماء يؤيدون أعمالهم ويعضدون أفكارهم ويحملون الكافة
على تلقي ما وضعوه وتقبل ما دونوه.
المتمولون يؤسسون الشركات المالية ويؤلفون الجمعيات الخيرية بغية نشر
الصنائع وأشغالها وتأييد الزراعة وأعمالها وافتتاح المكاتب الابتدائية والإعدادية
لتهذيب الأحداث وتثقيف عقولهم وتخريجهم على حب دينهم ووطنهم والذب عن
حوض جامعتهم. وليكن نشر العلم بين كافة الطلاب على وتيرة واحدة وطريقة فاذة
(واحدة) والحكام من وراء أصحاب الأموال تحافظ على حقوقهم وتحمي مصالحهم
وتمنحهم امتيازات تعضد مصنوعاتهم وتروج محصولات [٢] مزروعاتهم وتخفف
عليهم الضرائب والمكوس والوضائع [٣] بحيث يسهل عليهم العمل والقيام
بالمشروعات المفيدة للوطن والأمة.
هذا هو الدواء لمرض الأمة والعلاج الناجع بمعونة الله في شفائها وإبلالها، وما
عليها إلا أن تُقدِم على تناوله بهمم عالية وتتقحم مخاطره بعزائم صادقة، وعلى الله
قصد السبيل.
عظمة الأعمال وجلالة المشروعات يعوزها تخوّض [٤] مشاق تَعذُب لديها
سكرات المنون، وتشرف بالقائم بها على مهاوي من الأخطار ينعكس من أعماقها
صدى أنين أرواح الشهداء من أنصار الحق ممزوجًا بخرير دمائهم وخشخشة
عظامهم. ما أجدر القائمين بتلك الأعمال المتعرضين لهاته العظائم والأهوال بأن
يكونوا ذوي سجايا جليلة ومزايا سماوية ومواهب قدسية ونفوس كبيرة، تقوى
وتقاوم وتصبر وتصادم وتستقبل الموت الزؤام بفرح وابتسام!
ما ظنكم يا قوم؟ ! أليس في الأمم الإسلامية رجال من هذا القبيل في الفتوة
والإقدام وعلى هذا النمط في الغيرة والشهامة؟ ألا يوجد فتيان من سلالة أولئك
الغطارفة الأمجاد يبذلون مهجهم في خدمة بلادهم وإنقاذ أمتهم؟ ألا يوجد بيننا من
يشري ثناء الدهر وعز الأبد ببذل فضلات أمواله - وهي حطام نافد وعرض زائل-
في افتتاح المدارس وإنشاء أندية العلم لتدريب أبناء أمته وأطفال قومه وترشيح
أنسالهم وأعقابهم في أنواع العلوم وضروب العرفان علّهم يقوون بذلك على مساورة
الأمم الطامحة ويدفعون عنهم غارات الشعوب الطامعة؟ ألا يوجد في سلائل أولئك
الأبطال العظام ذو نجدة يغلي في عروقه دم النخوة والحمية فيلوي عن زهرة الدنيا
وزبرجها (زينتها) يواصل العمل ويدأب في السعي وراء جمع شتات المسلمين
وإزاحة عللهم وتوحيد المتعدد من آرائهم وضم المتفرق من أهوائهم؟ ألا يوجد بقية
من سلالة أبطال بدر واليرموك ومغاوير القادسية ونهاوند تجيش نفوسهم وتضطرب
أرواحهم؛ حذرًا وإشفاقًا مِن فَقْدِ تراثِ أجدادهم، وثمن دماء آبائهم؛ حذراً وإشفاقاً من
أن ترى المعاهد الشريفة والمشاهد المكرمة والحضرات المباركة موطئاً لنعال
الأجنبي أو تكون في كلاءته وتحت حمايته. ألا يستحي مستحٍ ممن استودعنا كتابه المنزل واستحفظنا شريعته المطهرة واستوثق منا في العمل بهما والقيام
بالدعوة إليهما أن يرانا مفرطين في العمل عاكفين على الشقاق متفقين على
عدم الوفاق؟ أهذا ما أوصانا به نبينا من الاستمساك بأسباب الوحدة وتوثيق وشائج [٥]
الأخوة بيننا؟ أهذا ما عهد إلينا به أن نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضنا
بعضاً أو كالجسد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد؟ أهذا ما أمرنا به من
إعداد وسائل القوة وتوفير ذرائع المنعة للدفاع عن حمى الإسلام والذود عن حقيقة
الدين والذب من وراء حوزة الأمة؟ أيطيب لنا عيش ونحن نرى نسور المطامع
الأجنبية تحوّم حول جزيرة العرب وتحلق في أجوائها؟ أينعم لنا بال ونحن نسمع
أن الأجنبي يحلم باستعمار تلك الجزيرة المقدسة ومد رواق سلطته فوق الحرمين
الشريفين؟ !
ألا نفوس أبِيَّات لها همم ... أما على الخير أنصار وأعوان
الله الله يا قوم في مستقبلكم، احموا حقائقكم، اجمعوا أمركم، كونوا في ذات
الله إخواناً وأصلحوا إن الله يحب المصلحين.
الإصلاح المطلوب هو اتحاد الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها،
بحيث تبقى كل حكومة منها مطلقة اليد في إدارة شؤونها الداخلية مرتبطة مع باقي
أخواتها بالمصلحة العامة والوجهة السياسية الخارجية ومداره دفع غارات الناهبين
وقطع أطماع الطامعين. ولا يتم هذا إلا باتفاق الحكومات الأربع وارتباط كل منها
بالأخرى ارتباطًا دينيًّا سياسيًّا، وأن تتفق تلك الحكومات الأربع على توحيد التعاليم
الدينية فتنتشر بين كافة المسلمين عقائد دينية سمحة وتعاليم أدبية بسيطة، وتحمل
أولئك الشعوب على تقبلها وممارسة العمل بها.
إذا نجح ذلك المشروع وصدقت تلك الأمنية يوشك أن لا يأتي على الشعوب
الإسلامية حين الدهر حتى ينقلب خوفها أمناً وبؤسها رخاءً وشغفها عزةً وقوةً وتصل
بمشيئة الله من رفعة الشأن ونفوذ السلطان إلى مكانة عليا لا تسموها مكانة الاتحاد
الألماني ولا الاتفاق الأمريكي.
((يتبع بمقال تالٍ))