للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ سالم أبو حاجب

سبحان الحي الذي لا يموت، إننا قبل أن نفرغ من ترجمة عالم العراق وإمام
الشرق في تلك الآفاق السيد محمود شكري الألوسي، إلا ونعى بريد المغرب الإسلامي
علامة الديار التونسية , وإمام البلاد المغربية شيخ الشيوخ مفتي المالكية , العلامة
المستقل الأديب العاقل الشيخ سالم أبو حاجب - تغمده الله برحمته - وقد كان بين
عالم الشرق والغرب تشابهًا عظيمًا , وكان من حسن حظنا أن وجدنا صديقًا لنا من
تلاميذ كلاًّ منهما , يكتب لنا ترجمتهما , وقد شاء الله تعالى أن يتأخر صدور هذا
الجزء من المنار حتى ننشر فيه ترجمة علامة جامع الزيتونة الأكبر بقلم الأستاذ
الفاضل الشيخ محمد الخضر نزيل القاهرة، وقد ألقاها في حفلة جامعة في الجامع
الأزهر وهذا نصها:
***
تأبين رئيس العلماء في الديار التونسية
أقام طلاب العلم من جاليات شمال أفريقيا حفلة بالجامع الأزهر مساء يوم
الإثنين الحادي عشر من الشهر الجاري حفلة؛ لتأبين المأسوف عليه الأستاذ الكبير
الشيخ سالم أبي حاجب مفتي الديار التونسية.
افتتحت الحفلة بقراءة آيات من الذكر الحكيم , ثم قام محرر هذا المقال وألقى
خطبة في نشأة الفقيد ومواهبه السامية , وعلمه الغزير وهذه خلاصتها:
نعت إلينا (هافس) والصحف التونسية فضيلة أستاذنا الشيخ سالم أبى حاجب
واسطة عقد العلماء ورئيس المحكمة الشرعية المالكية بالديار التونسية , فكان نعيه
لدى العارفين بمقامه الأسنى كقبس من نار تذوب له القلوب لوعة , وتتساقط له
العبرات أسفًا.
كان الفقيد - رحمه الله - آية من آيات العبقرية , وأحد العلماء الذين لا تجود
بهم يد الأيام إلا في أوقات معدودة , فلا جرم أن أنثر على بساط هذا الاحتفال
الجامع شذرًا من آثار حياته الزاهرة؛ خدمة للعلم والأدب والتاريخ , وإن في سيرة
العظماء من الرجال لعبرة لأولي الألباب.
ولد الفقيد حوالي سنة ١٢٤٤ بقرية من قرى الساحل تسمى (بنبله) , ثم
ارتحل منها عندما بلغ سن التعليم إلى حاضرة تونس؛ لتلقي العلم بجامع الزيتونة
الأعظم , ولم يلبث أن سطع بين جدران ذلك المعهد شعاع ألمعيته ونبوغه،
وصلاحيته في أندية العلم والأدب , ولا سيما إذ كانت له في صناعة القريض براعة
فائقة , وفي نقده الشعر ذوق لا يقل عن ذوق العربي الصميم.
ترقى الفقيد في مدارج العلم حتى تقلد وظيفة التدريس بالمعهد الزيتوني ,
درس من علوم الشريعة والعربية كتبًا عالية مثل: شرح العضد على مختصر ابن
الحاجب، وشرح القسطلاني على صحيح الإمام البخاري، والشرح المطول للسعد
التفتازاني , وكان يجلس لدرس هذه الكتب وغيرها على منصة التحقيق، ويخوض
عبابها بنظر مستقل , وينطق فيها بلهجة مجتهد نحرير , فلا ينتهي من تقرير
موضوع إلا بعد أن يعقد لما يجري فيه من الخلاف محاكمة يدخل إلى القول الفصل
فيها من باب الحرية والإنصاف.
ولما وضع في فطرته من حب البحث والغوص في أغوار المسائل , كان
يتلقى أسئلة التلاميذ في الدرس بصدر رحب , وكثيرًا ما يغمر الباحث النجيب
بعبارات الثناء؛ تشجيعًا له على البحث , وأخذًا بيده إلى أن يسير مع أصحاب
الآراء المؤلفين على مقتضى حكمة من يقول: (هم رجال ونحن رجال) .
ولعلمه الراسخ وعبقريته البارزة كان بعض أقرانه مثل الأستاذ الشيخ مصطفى
رضوان يقرر في درسه عازيًا شيئًا من الأفهام التي انفرد بتحقيقها , وكثيرًا ما يورد
الفقيد في مجالسه أو دروسه في صدد الاستشهاد على بعض المعاني اللغوية عبارة
القاموس بنصها , حتى ظن كثير من أهل العلم أنه يحفظه على ظهر قلب , وأغلب
مسائل الشرح المطول، والمغني لابن هشام، وشرح السيد علي مفتاح، وشرح
الدماميني على التسهيل تجري على طرف لسانه مهما تدعو الحاجة إلى الاستشهاد
بشيء منها.
ولم يكن الأستاذ ممن يسارع إلى الاعتقاد بصدق من يخرج في زي المجذوبين ,
أو يدعي أنه من أرباب الولاية والكرامة , وظهر منه هذا الخلق في مجلس بعض
رجال الدولة، فقال له: اعتقد ولا تنتقد. فقال الأستاذ: ليس الاعتقاد مما تعتنقه
النفس بمجرد الاختيار , وإنما هو من قبيل العلم الذي لا يرتسم فيها إلا بمؤثر من
حجة وبرهان , وكان يحارب الخرافات والآراء السخيفة والأقوال المسندة إلى
الشريعة بمجرد الدعوى أو بأحاديث غير ثابتة , وكان يبدي رأيه بكل صراحة، وإن
صادم المعروف بين شيوخ عصره؛ كإنكاره لوجود جبل قاف، ومشاهدة
الجن بعين الباصرة , ويرى أن ما يزعم من ذلك إنما هو من قبيل تأثير
الخيال.
أحرز الفقيد بين رجال الدولة مكانة إكبار وإجلال , وانتظم له هذا الإقبال؛ إذ
كان من أولي النظر الواسع في شؤون الاجتماع , وما تقتضيه المدنية الراقية وكذلك
كانت دروسه في علوم الشريعة مملوءة بالبحث عن أسرارها من حيث المطابقة لما
تستدعيه مصالح الشعوب , ومن هذا الوجه كان للأستاذ حياتان: علمية، وسياسية،
فاتخذه الوزير خير الدين باشا من مساعديه في تنظيم التعليم وإصلاح الإدارة قبل
الاحتلال , وتقلد وظيفة العمل بإدارة المال مضافة إلى وظيفة التدريس بجامع
الزيتونة.
سافر الأستاذ إلى إيطاليا مبعوثًا من طرف الحكومة التونسية قبل الاحتلال؛
لينوب عنها في قضية أقامتها على ورثة أحد قابضي أموالها المدعو (نسيم) , وأقام
هنالك زمنًا واسعًا التقى في خلاله بكثير من علمائها , ودارت بينه وبينهم محاورات
علمية , وكانوا يلقون عليه أسئلة فيما يشكل عليهم من بعض الأحكام الإسلامية ,
فيذهب في الجواب عنها إلى طريق النظر الفسلفي حتى تقع أجوبته لديهم موقع
القبول والتسليم , وكان الأستاذ يقول: إن هذه الرحلة مجموعة عنده في كتاب ,
وقص علينا أنه دخل إلى بعض المكاتب الحاوية لكتب عربية , فتناول كتابًا منها ,
فكان أول جملة وقع عليها بصره: (كان العرب إذا خطبهم لاعب الشطرنج منعوه ,
وقالوا: إنه ضرة ثانية) وفي هذه الرحلة بعث الأستاذ بصورة فتوغرافية إلى
الوزير محمد البكوش وكتب عليها من نظمه.
لما شكت شحط النوى روحي التي ... أبقيتها عند الأحبة بالوطن
أرسلت تمثالي لها بوًّا عسى ... تسلو فلا تبغي التحاقًا بالبدن
وسافر الفقيد رفيقًا للوزير خير الدين باشا إلى الآستانة وامتدح السلطان
العثماني بقصيدة , فأمر بمكافأته عليها بوسام فأبى وقال للمرسل من جانب
السلطان: إن حمل الوسام مما لا يرغب فيه أهل العلم ببلدنا , بل يرونه بحكم العادة
مزريًا بمقامهم. وكان يلقي في شهر رمضان من كل سنة درسًا من صحيح البخاري
(بجامع سبحان الله) ودرسًا من كتاب الموطأ في المدرسة المنتصرية , ويشهدهما
صاحب المملكة التونسية سمو الباي وكبير الوزراء في مجمع حافل من أعيان
العلماء , وتجري فيهما مباحثات من أقران الأستاذ أو نجباء تلاميذه , وقد يورد
بعض الأبحاث الأمير نفسه متى كان من رجال العلم , مثل المغفور له الناصر باي ,
وهذه الدروس التي كان يلقيها الفقيد بعناية لا تزال محفوظة؛ إذ كان يحررها
كتابة قبل يومها المشهود.
واشتهر بالفلسفة في العلوم الإسلامية , فكان مورد المستشرقين ومن تشتد
عنايتهم للاطلاع على حقائق الإسلام من فرنسيين وغيرهم , فيجاذبهم أطراف
المحاورة بنفس مطمئنة وأدب جميل.
وكان يقوم بالخطابة والإمامة بالجامع المعروف بجامع سبحان الله , ويلقي
خطبًا يراعي في إنشائها ما تستدعيه حال الزمان والمكان , ومما ابتكره في الخطابة
أنه كان يعتمد إلى ما يرد في الخطبة من حديث أو آية يسبق إلى ظنه أنه بعيد
المأخذ من أفهام السامعين , فيشرحه بعبارات يصوغها على طريقة بيانه في
التدريس , وقد ظهر قسم من هذه الخطب مطبوعًا في تونس منذ ثلاث عشرة سنة.
وكان يشد أزر القائمين على بعض الأعمال الإصلاحية , وكان النشء
الناهض يلتف حوله؛ ولهذا انتخبوه للخطابة في حفلة افتتاح المدرسة الخلدونية التي
تعد شعبة من جامع الزيتونة لدراسة العلوم الرياضية والطبيعية والتاريخ , وأذكر
أني كنت أنشأت مجلة علمية أدبية تسمى (السعادة) فتحركت بعض النفوس الخاملة
لكتم أنفاسها , فقال لي الأستاذ حال انصرافنا من درس صحيح البخاري: لا تعبأ
بما يلقيه هؤلاء في سبيل عملك وتأس بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال له ورقة
بن نوفل: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.
وكان للفقيد عاطفة أدبية تسمو به إلى الاحتفاء بالعلماء الوافدين على الحضارة
وبذل المستطاع في مجاملتهم. زار فيلسوف الإسلام الأستاذ الشيخ محمد عبده البلاد
التونسية سنة ١٣٢١ , ونزل ضيفًًًا مكرمًا في بيت حضرة السيد خليل أبي حاجب
نجل الفقيد، وهو اليوم وكيل وزير الداخلية بتونس , فعرف الفقيد فضل الأستاذ
الشيخ محمد عبده , وكان يقضي جل أوقاته في مؤانسته ومذاكرته العلمية أو الأدبية
أو الإصلاحية.
وورد عالم الجريد الشيخ إبراهيم أبو علاق الحاضرة وأتى درس الفقيد بجامع
الزيتونة , ولم تنعقد صلة التعارف بينهم بعد , فأخذ يناقش الأستاذ في المبحث الذي
كان بصدد تقريره , ولما طال أمد المناقشة ووقع في ظن الفقيد أن ليس الغرض
منها طلب الحقيقة , بدرت منه كلمة كبرت على مسمع الشيخ أبي علاق فانصرف
عن الدرس وقال:
تقاصرت مذ أبدى التطاول سالم ... وسالمت والقاصي المكان يسالم
ولما وصل نبأ هذا البيت إلى مجلس الفقيد نهض في الحال للقاء الشيخ أبي
علاق فاسترضاه , وخطب مودته ودامت بينهما الصداقة المحكمة.
وتحلّى الفقيد بآداب راقية مثل: التواضع والحلم والصراحة فازداد شرفًا على
شرف العبقرية , وانجذبت له القلوب بعاطفة المحبة بعد امتلائها بمهابته وإجلاله
حتى إذا حضر مجتمعًا خاصًّا أو عامًّا أمسك بعنان المجلس , وأخذ ينشر على أسماع
الحاضرين من غرائب المسائل ولطائف الأدب ما يخيل إليهم أنهم في جنة عالية لا
تسمع فيها لاغية , وكنا نرى أهل العلم والأدب يقصدون في الاحتفالات الجامعة إلى
أن تكون مجالسهم بمقربة من مجلس الفقيد , حرصًا على اقتباس أدب مؤنس، أو
اقتناص علم غريب.
وانفرد بين علماء جامع الزيتونة بأنه كان يتزيى في لباسه بزي علماء الشرق؛
أي: يلبس القفطان والجبة المفتوحة من أمام , ويضع عليهم البرنس , ولم يكن يلتزم
تقاليد أهل العلم وذوي المناصب الشرعية في بلاده , حتى إنه كان يلبس الجزمة
أيام لبس أهل العلم لها شيئًا نكرًا , ويتجول في بعض المتنزهات العامة راجلاً،
وغيره من ذوي المناصب العالية لا يغشونها إلا مرورًا في عرباتهم.
وكانت له عند افتتاح الكلام عقدة خفيفة لذيذة على السمع , حتى إذا انطلق
لسانه في التقرير، سمعت العربية الفصحى ولهجة تتسوغها الأسماع بارتياح
وإعجاب.
ومن المعروف عن الأستاذ أنه كان يطمح إلى طول الحياة , ويمثل حركة
الساعة الميقاتية بحسيس الأرضة في أكلها من عمر الإنسان , وينقل عنه في تعليل
عدم حمله للساعة , أنه يكره أن يسمع أو يرى آلة تذكره كيف تنقضي حياته
العزيزة شيئًا فشيئًا.
هذا ما أجده في الذاكرة من مآثر حياة الأستاذ الذي فارقته - وبودي لا أفارقه -
برحلتي إلى بلاد الشرق سنة ١٣٣١ - وقد ناهز التسعين من عمره اهـ.
***
علاوة
حكى الأستاذ أن أحد الباشاوات من قواد الجند بالآستانة دعاه إلى منزله في
طائفة من أهل العلم , ومما دار بينهم في المذاكرة أن صاحب المنزل سأله عن حكم
تعلم الجغرافية فقال له: إن تعلمها من فروض الكفاية. قال الأستاذ: فالتفت ذلك
الباشا إلى أحد الفقهاء بالمجلس وقال له: لماذا كنت تقول لي أن تعلمها حرام؟
فأقبل ذلك الفقيه على الأستاذ وقال له: ما دليلك على ما تقول من أن تعلم الجغرافية
من الواجبات؟ قال: فلم أرد أن أطيل الحديث في الاستدلال بمثل قوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: ٦٠) واخترت أن أورد كلمة أقرب
إلى فهم السائل فقلت موجهًا الخطاب لصاحب المنزل: إذا صدرت إرادة السلطان
يأمرك أن تسير بقسم من الجيش إلى بعض بلاد العدو , وكنت تجهل المسألة التي بينك وبين ذلك البلد، ثم لم تكن على خبرة مما يوجد في تلك النواحي
من ضروريات حياة الجند وما لا يوجد , فإنك بلا ريب تذهب على غير هدى ولا
تأمن أن يقع الجيش في تهلكة , فوقع الجواب من نفس الباشا موقع الارتياح
والقبول.
وفيما حكى الأستاذ من هذه المحاورات أن أحد المستشرقين سأله عن الوجه
في إباحة الإسلام تزوج المسلم بالكتابية من مسيحية أو إسرائيلية , ومنعه المسلمة
من أن تتزوج مسيحيًّا أو إسرائيليًّا , وقال السائل: ما هذا الحكم إلا ضرب من
التعصب في الدين , فأجابه الأستاذ: بأنه حكم قائم على حكمة عمرانية بالغة , وهي
أن النكاح يقصد به التعاون على مرافق الحياة , وهذا الغرض لا يتحقق إلا مع
التآلف وانتظام حلة للمعاشرة , ومن المعروف أن المسلم يؤمن بالرسول الذي تؤمن
به الكتابية , ويعتقد بصحة دينها في الجملة , فلا يتوقع أن يصدر منه ما يجرح
إحساسها , ويكدر صفو المعاشرة بينهما ووأما الكتابي غير المسلم فإنه لعدم إيمانه
بصحة الإسلام وصدق الرسول الذي جاء بشريعته قد يؤذي المسلمة بما يقذفه من
كلمات , يطعن بها في أصل دينها أو ينال بها من كرامة الرسول الذي تعتنق
شريعته.
وحكى لنا الفقيد أن الأستاذ الشيخ محمد عبده تكلم عن ضرورة الاجتهاد فقلت
حكام الشرعية حتى قال: ينبغي إهمال كتب الفقهاء وإتلافها بالإحراق , قال في
الآلة: لا بأس بإبقائها والاستعانة بها؛ لأنها لا تخلو من فوائد، فقال لي: فلتبق.