للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الطور الجديد للمسألة العربية

ذكرنا في الجزء السادس الذي قبل هذا أن المسألة العربية دخلت في طور جديد
بخروج سلطان نجد من عزلته السياسية , وتصديه لإنقاذ الحجاز من حسين بن علي
مفرق الجماعات , ومثار الفتن , وموبق الأمة العربية؛ بإدخاله النفوذ بل السلطان
الأجنبي في جزيرة العرب , فقد زحفت الجيوش النجدية بالفعل على الحجاز ,
وسبقتهم العشائر الحجازية التي تدينت بدعوة نجد إلى الطائف , وبعد مقاومة شديدة
من حاميتها الحجازية وهي أكبر قوة للملك حسين , احتلوا الطائف عنوة , وانهزم
القائد العام للجيش الحجازي وهو الأمير علي ولي العهد لوالده فتحصن في موقع
منيع يقال له: الهَدَى بفتح الهاء , فزحف عليه الإخوان , فأخذوه عنوة، وولى الأمير
مدبرًا إلى موقع آخر على طريق عرفات يقال له: (كرى) , فزحفوا عليه
فانهزم إلى مكة، فوقف الإخوان؛ لأن السلطان عبد العزيز آل سعود لم يأذن لهم
بدخول مكة فاتحين. وفي أثناء ذلك طفق الملك حسين يمطر عالم الشرق وعالم
الغرب برقيات من الطعن في الوهابيين؛ ليهيج عليهم مسلمي الأرض ودول
أوربة فرأينا من الواجب علينا , أن نبادر إلى كتابة مقالات في الحقائق المتعلقة
بهذه المسألة , ونشرها في جريدة الأهرام اليومية الواسعة الانتشار , ثم اقترح
علينا أن ننشر هذه المقالات في المنار تباعًا وها هي ذي:
***
الوهابيون والحجاز
(١)
لو حدثت إغارة الوهابيين على الحجاز في عهد الدولة العثمانية؛ لقامت قيامة
العالم الإسلامي , ولرأيت الجرائد العربية في الشرق والغرب , والجرائد التركية
والهندية والفارسية والتتارية والملاوية تشن عليهم غارة التضليل والتكفير , وتجمع
الإعانات المالية؛ لقتالهم بالقناطير , ذلك لما كان لجماهير الشعوب الإسلامية من
حسن الظن وقوة الرجاء بالدولة , ومن سوء الظن بالوهابيين , أما وقد حدثت في
هذا العهد، فإننا نرى ضلع الرأي الإسلامي العام مع الوهابيين؛ لأن ما كان خفيًّا من
قوة دينهم , واعتصامهم بالسنة , ورفضهم للبدع , وكراهتهم للسلطة أو النفوذ
الأجنبي قد ظهر لخواص المسلمين , وبدأ يظهر لعوامهم , ولأن جميع الشعوب
الإسلامية تمقت هذا الرجل الذي تولى أعداء الإسلام في الحرب والسلم , فنصرهم
على المسلمين , واعتمد عليهم في طمعه في خلافة الإسلام , وملك العرب تحت
ظلهم وحمايتهم , فبمساعدته ومساعدة أولاده استولوا على البلاد العربية , التي هي
مهد حضارة الإسلام من حدود مصر إلى خليج فارس , ويحاولون جعل ما بقي
للعرب من عقر دارهم في جزيرتهم المقدسة تحت ظل تلك الدولة , التي جعلته ملكًا
مستبدًّا في الحجاز؛ ليهون على أهله وضعه تحت سيادتهم مباشرة في يوم من الأيام ,
وسمت أحد أولاده ملك العراق , وآخر منهم أمير الشرق العربي أو أمير شرق
الأردن , ويطمع أن تسميه ملك فلسطين ليخضع لها مسلميها، كما أمنها تعدي
الأعراب المجاورين لها.
فقد ظهر لجميع شعوب العالم الإسلامي أن هذا الرجل وأولاده هم شر نكبة
نكب بها الإسلام في هذا العصر , فصارت تتمنى زوال سلطته عن مهد الإسلام ,
وترى أنه لا يرجى لذلك غير هؤلاء النجديين البواسل , الذين صارحهم هو بالعداوة
والأذى بما جدد من دعاية سلفه الطالح من الطعن في دينهم ورميهم بالكفر , وادعائه
أن الإسلام يوجب عليه قتالهم , والمصلحة العربية توجب عليه إخضاعهم لسطانه ,
وجعلهم تابعين لملكه , ومنعهم من أداء فريضة الحج - على ما عرف عنهم من إباء
الضيم , وعدم الصبر على انتهاك حرمات الله - إلى تحكمه ما شاء في إقامة ركن
الدين الاجتماعي العام في بيت الله , وظلم من شاء فيه بالضرائب المختلفة , وظلم
أهله في كل شيء , فهذه أسباب الرجاء في النجديين بالإجمال [١] , لا حب التوسع
في السلطان , والتبسط في الملك الذي يرميهم به هو ودعاته وجرائده من باب
(رمتني بدائها وانسلت) , ونحمد الله تعالى أن هؤلاء الدعاة قلوا , وقلت الجرائد
التي تنشر لهم إفكهم وبهتانهم.
ولكن بقي من الناس من يسيئون الظن بالوهابية , ويظنون أنهم أصحاب
مذهب مبتدع في الإسلام , وذلك بتأثير الدعاية المنتشرة منذ قرن وربع قرن في
الطعن فيهم؛ وبتأثير انتشار البدع واشتهارها حتى صار بها المعروف منكرًا
والمنكر معروفًا , فالآخذون بهذه البدع يعدون كل منكر لها وهابيًّا , ويضيفون إلى
ذلك ما حفظوه من البهتان الذي جدده الملك حسين في جريدته القبلة من رميهم
بتكفير من عداهم من المسلمين , وإنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم , وتحريم
الصلاة عليه , وزيارة قبره كسائر القبور , بل تجرأ المكي وأمثاله على رميهم
بالطعن في شخصه الأكمل , وتفضيل العصا عليه برأه الله تعالى , ولعن كل
مجترئ على مقامه الشريف.
هذه البهائت كان يبهتهم بها أمير مكة وأعوانه في أوائل القرن الثالث عشر
للهجرة عند ظهور أمرهم؛ لتنفير المسلمين منهم , ولما استولوا على مكة المكرمة
سنة ١٢١٨ بقيادة الأمير سعود , جمعوا علماءها وفي مقدمتهم: مفتي الحنفية ,
ومفتي المالكية , وبينوا لهم مذهبهم , وخطتهم في تجديد دعوة الإسلام , فوافقوهم
عليها , وذكروا لهم ما كان أذيع من الطعن الذي أشرنا إليه آنفًا فتعجبوا وتبرؤوا منه.
إننا لم نر أحدًا من البهاتين الذين يطعنون فيهم ينقل شيئًا من كتبهم , ونحن
في بياننا للحقيقة ننقل من كتبهم ومن كتب غيرهم , ولا نقول شيئًا من عندنا بغير
دليل.
بيان الوهابية لمذهبهم:
جاء في رسالة للشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد صاحب
الدعوة , وصف فيها دخول جماعتهم مكة مع الأمير سعود سنة ١٢١٨ , ومناظرتهم
للعلماء فيها , وإعطاءهم رسائل والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب , وكان مع
علماء مكة الذين حضروا مجالسه حسين الأبريقي الحضرمي ثم الحياني , وكان
يسأل عن أصل هذه الدعوة. قال الشيخ عبد الله ما نصه:
(فأجبناه بأن مذهبنا في الأصول مذهب أهل السنة والجماعة , وطريقنا
طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم , خلافاً لمن قال: طريقة
الخلف أعلم. وهي أننا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها , ونكل علمها
إلى الله مع اعتقاد حقائقها , فإن مالكًا وهو من أجل علماء السلف لما سئل عن
الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) قال:
الاستواء معلوم , والكيف مجهول , والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة.
ثم قال: (ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل , ولا
ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم) إلخ (ص ٤٤ من كتاب الهدية
السنية والتحفة النجدية) .
ثم قال: (وأما ما يكذب علينا سترًا للحق , وتلبيسًا على الخلق بأنا نفسر
القرآن برأينا , ونأخذ من الأحاديث ما وافق أهواءنا , من دون مراجعة شرح , ولا
تعويل على شيخ , وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا:
النبي رمة في قبره , وعصا أحدنا أنفع لنا منه , وليس له شفاعة , وأن زيارته غير
مندوبة , وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: ١٩) مع كون الآية مدنية وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف
مؤلفات أهل المذاهب , لكون فيها الحق والباطل، وأنا نكفر الناس على الإطلاق ,
أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه أنه كان مشركًا , وأن أبويه ماتا على الشرك
بالله , وأننا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , ونحرم زيارة القبور
المشروعة مطلقًا؛ وأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى
الديون؛ وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم) إلخ.
ثم قال: (فجميع هذه الخرافات (أي: التقولات) وأشباهها لما استفهمنا عنها
من ذكر أولاً؛ كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: (سبحانك هذا بهتان عظيم) فمن
روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا , فقد كذب علينا وافترى , ومن شاهد حالنا ,
وحضر مجالسنا , وتحقق ما عندنا , علم قطعيًّا أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه
أعداء الدين , وإخوان الشياطين , تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله
تعالى بالعبادة , وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه , بأن الله لا يغفره ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء) إلخ (ص ٤٦ من الهدية) .
ثم قال: (والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب
المخلوقين على الإطلاق , وأنه حي في قبره حياة برزخية , أبلغ من حياة الشهداء
المنصوص عليه في التنزيل؛ إذ هو أفضل منهم بلا ريب , وأنه يسمع سلام المسلم
عليه , وتسن زيارته , إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه. وإذا
قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس , ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه
عليه الصلاة والسلام الواردة عنه - فقد فاز بسعادة الدارين , وكفي همه وغمه كما
جاء في الحديث عنه , ولا ننكر كرامات الأولياء , ونعترف لهم بالحق , وأنهم على
هدى من ربهم متى ساروا على الطريقة الشرعية , والقوانين المرعية , إلا أنهم لا
يستحقون شيئًا من أنواع العبادات لا في الحياة ولا في الممات) إلخ ما فصل به
ذلك الإجمال من إنكار ما بهتوا به , فمن شاء التفصيل فليطالع (الهدية السنية
والتحفة الوهابية النجدية) , وهي توزع في مكتبة المنار بغير ثمن.
وقد كنت لدى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في أوائل الشهر الماضي ,
فذكرت الوهابية , وسبب الطعن فيهم , وكان من حاضري المجلس الأستاذ الشيخ
عبد المجيد اللبان، والأستاذ الشيخ محمد شاكر، والأستاذ الشيخ أحمد هارون،
والأستاذ الشيخ الظواهري وغيرهم , فبينت لهم تاريخ المسألة , ومن كتب فيها
على بينة من المؤرخين عند استيلاء الأمير سعود على الحجاز , ثم ذهب أحد سعاة
سكرتارية الأزهر إلى مكتبة المنار , فجاء بعشرات النسخ من الهدية السنية ,
ووزعت عليهم , وقرأ الأستاذ الأكبر ما نقلناه هنا , وما فصل فيها مما لم ننقله ,
واعترف بأنه مذهب أهل السنة والجماعة , إلا أنه قال: إن حديث: (لا تُشَدّ
الرِحال إلا إلى ثلاثةِ مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) قد أوّله
العلماء. قلت: وهم قد أخذوا بظاهره تبعًا لبعض المحققين من علمائهم - أعني
الحنابلة - وأزيد أن بعض الشافعية والمالكية حرم شد الرحال؛ لزيارة قبور
الصالحين؛ كالإمام الجويني والد إمام الحرمين , واختاره القاضي عياض في
شرحه لصحيح مسلم , كما نقله عنه النووي، فأخذ الوهابية بذلك لهم سلف فيه ,
وليسوا أول من قال به.
شهادة التاريخ للوهابية:
نكتفي هنا بشهادتين عادلتين لمؤرخين كبيرين نقلا عن العدول المعاصرين
لظهور الوهابية , واستيلاء أمير نجد بقوتهم على الحجاز.
الشهادة الأولى: قال المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري في أول
حوادث سنة ١٢٢٧ من تاريخه نقلاً عن بعض أكابر رجال جيش محمد علي باشا
الذين قاتلوا الوهابية في الحجاز ما نصه:
(ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا
بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة , وفيهم من لا يتدين بدين , ولا ينتحل
مذهبًا , وصحبتنا صناديق المسكرات , ولا يسمع في عرضينا أذان , ولا تقام فيه
فريضة , ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين , والقوم - يعني: الوهابية - إذا دخل الوقت، أذن المؤذنون وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع
وخضوع , وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائم أذن المؤذنون وصلوا صلاة
الخوف , فتتقدم طائفة الحرب , وتتأخر الأخرى للصلاة , وعسكرنا يتعجبون من
ذلك؛ لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته , وينادون في معسكرهم: هلموا إلى
حرب المشركين المحلقين الذقون , والمستبيحين الزنا واللواط , الشاربين الخمور ,
التاركين للصلاة , الآكلين الربا , والقاتلين الأنفس , المستحلين المحرمات , وكشفوا
عن كثير من قتلى العسكر , فوجدوهم غير مختونين) اهـ (ص ١٤٠ ج ٤
من الطبعة الأميرية) وفيه من فظائع العسكر وفواحشه , ما لا حاجة إلى ذكره.
ومن المعلوم أن جيش محمد علي كان أخلاطًا من شعوب وملل شتى , ولم
يكن مؤلفًا باعتبار أنه جيش إسلامي يقيم شعائر الإسلام , ويحافظ على فرائضه ,
ويراعي أحكامه في القتال وغيره , بل لم يكن جيش الدولة العثمانية المنظم كذلك ,
وهي التي كانت توصف بأنها دولة الخلافة , وأما ظن ناقل الخبر للجبرتي أنهم لا
ينصرون , وحالتهم ما ذكر؛ فسببه أنه يعتقد أن الفسق بمنع النصر , وليس كذلك ,
فإن من استوفى أسباب النصر من كثرة العسكر , ونظامه وعدته , ينتصر على من
ليس كذلك.
(الشهادة الثانية) ما جاء في كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب
الأقصى) .
للعلامة الشيخ أحمد الناصري السلاوي. فإنه ذكر في الجزء الرابع منه خبر
وصول كتاب صاحب الحجاز عبد الله بن سعود الوهابي إلى فاس , وخلاصة
وجيزة عن أصل الوهابية , لا تخلو من غلط , ثم ذكر أن سلطان فارس أرسل
جواب ذلك الكتاب مع ولده , الذي سافر مع بعض العلماء إلى الحجاز , وهذا نص
خبره (ص ١٤٥ من الجزء الرابع المطبوع بمصر) قال:
حج المولى أبي إسحق إبراهيم ابن السلطان المولى سليمان رحمه الله.
وفي هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائتين وألف - وجه السلطان
المولى سليمان - رحمه الله - ولده الأستاذ الأفضل المولى أبا إسحق إبراهيم بن
سليمان إلى الحجاز؛ لأداء فريضة الحج مع الركب النبوي الذى جرت العادة
بخروجه من فاس على هيئة بديعة من الاحتفال، وإبراز الأخبية لظاهر البلد , وقرع
الطبول , وإظهار الزينة , وكانت الملوك تعتني بذلك , وتختار له أصناف الناس
من العلماء والأعيان والتجار , والقاضي وشيخ الركب وغير ذلك مما يضاهي ركب
مصر والشام وغيرهما , فوجه السلطان ولده المذكور في جماعة من علماء العرب
وأعيانه , مثل الفقيه العلامة القاضي أبي الفضل العباس بن كيران، والفقيه الشريف
البركة المولى الأمين ابن جعفر الحسني الرتبي , والفقيه العلامة الشهير أبي
عبد الله محمد العربي الساحلي وغيرهم من علماء المغرب وشيوخه , فوصلوا إلى
الحجاز , وقضوا المناسك , وزاروا الروضة المشرفة , على حين تعذر ذلك، وعدم
استيفائه على ما ينبغي؛ لاشتداد شوكة الوهابيين يومئذ , ومضايقتهم لحجاج الآفاق
في أمور حجهم وزيارتهم إلا على مقتضى مذهبهم.
حكى صاحب الجيش أن المولى إبراهيم ذهب إلى الحج واستصحب معه
جواب السلطان , فكان سببًا لتسهيل الأمر عليهم , وعلى كل من تعلق بهم من
الحجاج شرقًا وغربًا حتى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الأمن والأمان والبر
والإحسان , قال: حدثنا جماعة وافرة ممن حج مع المولى إبراهيم في تلك السنة
أنهم ما رأوا من ذلك السلطان - يعني ابن سعود - ما يخالف ما عرفوه من ظاهر
الشريعة , وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه ما به الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من
صلاة وطهارة وصيام , ونهي عن المنكر الحرام، وتنقية الحرمين الشريفين من
القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارًا من غير نكير , وذكروا أن حاله
كحال آحاد الناس لا يتميز عن غيره بزي ولا مركوب ولا لباس , وأنه لما
اجتمع بالشريف المولى إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الكريم ,
وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته. وكان الذي تولى الكلام معه هو الفقيه
القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي , فكان من جملة ما قاله ابن سعود لهم:
إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية , فأي شيء رأيتمونا خالفنا
من السنة؟ وأي شيء سمعتموه عنا قبل اجتماعكم بنا؟ فقال له القاضي: بلغنا أنكم
تقولون بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوي. فقال لهم: معاذ الله! إنما
نقول كما قال مالك: الاستواء معلوم , والكيف مجهول , والسؤال عنه بدعة , فهل
في هذا من مخالفة؟ قالوا: لا، وبمثل هذا نقول نحن أيضًا. ثم قال له القاضي:
وبلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي صلى الله عليه وسلم , وحياة إخوانه من
الأنبياء علهم الصلاة والسلام في قبورهم. فلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
ارتعد , ورفع صوته بالصلاة عليه , وقال: معاذ الله! إنما نقول: إنه صلى الله عليه
وسلم حي في قبره , وكذا غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشهداء , ثم قال له
القاضي: وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة سائر الأموات
مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها , فقال: معاذ الله أن ننكر ما ثبت في
شرعنا , وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها؟ وإنما نمنع منها
العامة الذين يشركون العبودية بالألوهية , ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم
أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية.
وإنما سبيل الزيارة الاعتبار بحال الموتى , وتذكر مصير الزائر إلى ما صار
إليه المزور , ثم يدعو له بالمغفرة , ويستشفع به إلى الله تعالى , ويسأل الله المنفرد
بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت , إن كان ممن يليق أن يستشفع به. هذا قول إمامنا
أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - ولما كان العوام في غاية البعد عن إدراك هذا
المعنى منعناهم؛ سدًّا للذريعة , فأي مخالفة في هذا القدر اهـ. ثم قال صاحب
الجيش: هذا ما حدث به أولئك المذكورون سمعنا ذلك من بعضهم جماعة , ثم سألنا
الباقي أفرادًا فاتفق خبرهم على ذلك اهـ.
وذكر المؤلف بعد هذا الخبر بحثًا في زيارة القبور , رجح فيه القول بمنع
زيارة الأولياء؛ سدًّا للذريعة مع بيان العلة وإشهارها بين الناس , وذكر أن سلطان
المغرب المولى سليمان - رحمه الله - كان يرى هذا , وألف فيه رسالته المشهورة ,
وأن الشيخ الفقيه الصوفي أبا العباس التيجاني كان يرى هذا , ونهى أصحابه عن
زيارة الأولياء اهـ ملخصًا.
والشيخ أحمد التيجاني المذكور , قد انتشرت طريقته في جميع بلاد المغرب
الأقصى والأدنى , حتى إن أتباعه يعدون بالملايين إلى هذا العهد.
وما نقله من كلام الأمير الوهابي في مسألة الاستشفاع معزوًّا إلى الإمام أحمد ,
يظهر أنه لم ينقل بحروفه , فإن الإمام أحمد - رضي الله عنه - لا يعرف عنه
ولا عن علماء الوهابية. مثل هذا القول فيما نعلم والله أعلم.
وسنبين في مقال آخر أن المتغلب على الحجاز اليوم هو الذي يكفر المسلمين
الذين يعاديهم ويعادونه , فقد كفر الترك والمصريين كما كفر الوهابية , ونبين أن ما
فعله النجديون من الزحف؛ لإنقاذ الحجاز من بغيه هو من فروض الكفاية على الأمة
الإسلامية , قد قاموا به , فإذا ظفروا ارتفع الإثم عن جميع المسلمين , وإلا وجب
ذلك على غيرهم.
***
المقالة الثانية
في الأسباب العامة لزحف الوهابيين على الحجاز
تمهيد: طريقتنا في الكتابة:
إننا نكتب ما نكتب في هذا الموضوع لبيان الحق وأداء النصح الواجب للأمة
الإسلامية وللشعب العربي , وقد عاهدنا الله تعالى على أن لا نؤثر على الحق
والنصح شيئًا , وأنه إذا ظهر لنا أننا أخطأنا في شيء , فإننا نرجع عنه , ونعلن
ذلك إعلانًا.
فما كان في كلامنا من خبر , فإننا مستعدون لإثباته بالنقل عن المصادر التي
لا نزاع فيها , وأكثرها رسمية حقيقة أو حكمًا , (وهذا ما يسميه كتاب هذا العصر
شبيهًا الرسمي) كأقوال جريدة القبلة التي لا تعزوها إلى الملك حسين ولا إلى
حكومته (التي هي هو) .
وما كان من حكم شرعي، فإننا تذكر بالدليل , ونعرضه على علماء الإسلام في
العالم كله , فإن كتب إلينا أو كلمنا أحد منهم بما يقنعنا بأننا أخطأنا في شيء منه ,
فإننا نرجع إلى الحق , ونعلن ذلك لمن اطلع على كلامنا حيث اطلع عليه , وإلا بينا
له خطأه بالدليل , مع التزام الأدب الذي نطالبه به , ونعرض كلامنا وكلامه على
الجمهور.
وما كان من رأي؛ فإننا لا نأبى مناقشة أهل الرأي فيه على شرطنا فيما قبله ,
ومنه: أن يرسل الرد إلينا , أو إلى الصحيفة التي تنشر فيها كلامنا , ولسنا نكلف أن
نطلع على جميع الجرائد , وما عساه يوجد في بعضها من نقد أو طعن فنرد عليه ,
ولا أن نرد على من يخرج عن شروط المناظرة وآدابها , وإنما نرد على من ينكر
بالدليل صدق خبر من أخبارنا , أو صحة دليل من أدلتنا , أو بطلان رأي من آرائنا؛
لأننا نتحرى الحق والصواب في هذه الثلاثة , وندور معه إن شاء الله تعالى
حيث دار.
إننا أفتينا ببطلان بيعة حسين بن علي بالخلافة , وسردنا الدلائل الشرعية
على ذلك , ونشرت الفتوى في مجلتنا المنار , وفي جريدتي الأهرام والمحروسة ,
وبينا في هذه الفتوى , وفي مقالات أخرى في المنار أن هذه البيعة على بطلانها
تضر الأمة العربية , وتزيد الشقاق بين شعوبها وحكوماتها , فصدقت الحوادث رأينا،
ولم يرد عليه أحد فيما نعلم , وإننا بينا حقيقة حال خصومه النجديين في مذهبهم
بالنقل من كتبهم ومن كتب التاريخ المشهورة , ولم نذكر من عندنا كلمة واحدة ,
ولن يستطيع أحد أن ينكر كلمة من نقلنا.
وقد بينا مواضعه حتى ذكرنا أعداد الصفحات والأجزاء التي نقلنا
عنها؛ لذلك وقع أحسن موقع من أنفس الناس الذين قرؤوا مقالنا الأخير الذي نشرناه
في جريدة الأهرام , واستزادونا من الكتابة في هذا الموضوع , وكثر طلاب (التحفة
السنية والهدية الوهابية) من القاهرة ومن جميع أرجاء القطر المصري ,
ومما جاوره، حتى صار جل عمل مكتبة المنار منذ نشرت المقالة توزيع هذه
الرسالة , فكان هذا سببًا لمعرفة الألوف الكثيرة من الناس, ما كانوا يجهلون من
حقيقة أهل هذا القطر الإسلامي , الذين هم أشد مسلمي هذا العصر حرصًا على السنة السنية , وعناية بالاعتصام بعروتها الوثقى , وكان أمرهم مجهولاً عند
الأكثرين.
بل كانوا يوصفون بضد ما هم عليه بما يذيعه حسين بن علي وأعوانه من
الطعن في دينهم تبعًا لما أذاعه سلفه في إمارة الحجاز , ومقلدوهم من مدة قرن وربع
قرن حين فتحوا الحجاز للمرة الأولى , حتى كتب أخيرًا بعض من لا قيمة للحق
والصدق عندهم مقالات في بعض الجرائد كلها زور وبهتان , هبط الافتراء ببعضهم
فيها إلى رميهم بأنهم يسعون لإبطال دين الإسلام , تميهدًا لنشر دعوة المبشرين
(دعاة النصرانية) , فكانت هذه فرية عجز عن مثلها الشيطان الرجيم , ولم تخطر
(ببال منقذ العرب والمسلمين) .
وإننا في هذا المقال وما بعده نبين للناس كافة , ولأهل الغيرة الإسلامية
والجامعة العربية خاصة , أسباب زحف النجديين لإنقاذ الحجاز من هذا المتغلب
عليه المستبد فيه , الظالم لأهله , ولمن يحجونه من سائر المسلمين. وسيعلمون مما
نورده من الحقائق الجلية , والشواهد الرسمية وشبه الرسمية أن سلطان نجد لم يفعل
هذا طمعًا في توسيع ملكه , ولا لمجرد المحافظة على حقه , بل خدمة للملة
الإسلامية والأمة العربية , وإن كان الأمر الثاني وحده يوجب عليه ذلك شرعًا
وعرفًا. ونبدأ بذكر الأسباب العامة فنذكرها بالإيجاز؛ لأنها صارت مشهورة، إلا أنه
يقل من يحفظها كلها , ويستحضر ذكرها , ثم من يخلص في بيان ذلك للناس , ولهذا
نرى ما يتعجب منه من الخبط والخلط والباطل في مقالات بعض الكتاب , حتى من
تصدى لتمحيص أمثال هذه المسائل خاصة.
***
الأسباب العامة
لزحف النجديين على الحجاز
(السبب الأول) :
ما هو معلوم بالتواتر القطعي وبالوثائق الرسمية , من موالاة شريف مكة
حسين بن علي وأولاده للدولة البريطانية وحلفائها في الحرب الأخيرة , ونصرهم
إياهن على الدولة العثمانية في فتح البلاد العربية , وأنه كان يهنئ الدولة
البريطانية كلما فتحت مدينة من أمصار الإسلام وعواصم الحضارة العربية؛
كالقدس الشريف , وبغداد , ودمشق , ثم اقتسموا هذه البلاد فأعطوه ولاية الحجاز ,
وأخذوا هم ولايات العراق وسورية والقدس الشريف , حتى إنهم اقتسموا سكة
الحديد الحجازية أيضًا التي هي وقف إسلامي أنشئ لتسهيل إقامة ركن إسلامي.
فأما تولي المسلم لغير المسلمين في القتال , وفتح بلاد المسلمين فحكمه الديني
معلوم بنص القرآن المجيد وكتب الشريعة , وحسبنا منه قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم
مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: ٥١) , وأما عاقبته في
الأمة العربية؛ فهي استيلاء الأجانب على مهد حضارتها وعمرانها , وأخصب
أقطارها , وأعظم موارد ثروتها , وجعل ما بقي لها من جزيرتها المقدسة محاطًا به
من البر كالبحر , ومهددًا بفقدان استقلاله في كل وقت، والتهديد شامل للحرمين
الشريفين بالتبع لثالثهما , وهو المسجد الأقصى، حتى لا يبقى لهما استقلال في دين
ولا دولة.
(فإن قيل) : إن هذا الرجل وأولاده يدعون بأنهم ما فعلوا هذا إلا لإنقاذ
البلاد العربية واستقلال العرب (قلنا) : إننا نحن نبين الحق الواقع، لا إفك
السياسة ومعالطاتها , وكذبها ومكابرتها , وإلا فإن الإنكليز قالوا ولا يزالون
يقولون مثل هذا القول من احتلالهم لمصر , وفي إكراه وزير من وزرائها على
تسميته إياهم شركاء لمصر في بلاد السودان , وفي زعمهم الآن أن السودان يجب أن
يكون في أيديهم وحدهم؛ لأن لهم مصالح فيه , ولإتمام سعادة السودانيين.
(فإن قيل) : إن ثورة الشريف التي يسميها النهضة إنما بنيت على القصد
الصحيح المذكور , ثم ظهر له أن حلفاء خدعوه , وأخلفوا وعده , ونكثوا عهده ,
ولا عجب فقد خدعوا رئيس أعظم دولة في العالم كما خدعوه , وهو رئيس دولة
الولايات المتحدة في أميركا (قلنا) : إن هذا باطل كالذي قبله، كما يعلم من
الأسباب الآتية , وربما كان من أسباب إرجاء ابن سعود الزحف على الحجاز إلى
الآن؛ لأجل استعراف نتيجة هذه الأقوال.
(السبب الثاني) :
إن الشريف حسينًا وأولاده لا يزالون مصرين على موالاة حلفائهم الأجانب ,
ومودتهم ومساعدتهم على تثبيت أقدامهم في البلاد العربية , مع ادعائه هو دون
أولاده بأنهم خدعوه وغشوه؛ لأنه أشدهم رياءً وخداعًا وإفكًا , ولذلك يناقض نفسه ,
ويبطل بعض كلامه بعضًا , وها نحن أولاء قد قرأنا في عدد جريدة القبلة ٨١٠
الذي صدر في عشرة المحرم فاتحة هذا العام ١٣٤٣ تصريحًا رسميًّا له بالثبات
على مودتهم في منشور باسمه سماه (منشور عيد البيعة الأولى) وما أكثر أعياده
بمصائب العرب والإسلام! !
فقد قال فيه ما نصه:
(وإنا لا نزال ساعين لتأييد المودة وتأكيد الروابط بيننا وبين حلفائنا العظام)
فما هذا التأييد والتأكيد إن كان صادقًا في قوله: إنه مخدوع , منكوث العهد ,
مكذوب الوعد؟
ولماذا يصر على السعي لعقد المعاهدات معهم , والنبي الذي يدعي هو وحكومته
اتباعه له دون المسلمين كافة والوهابيين خاصة يقول: (لا يلدغ المؤمن من جحر
مرتين) رواه البخاري ومسلم , وغيرهما. دع ما ورد في أمثال هذه الموادة
والمعاهدات في سورتي الممتحنة والتوبة , مما ينافي الإسلام نفسه.
(السبب الثالث) :
إن ما يسميه النهضة قد بني على أساس الحماية البريطانية للمملكة العربية ,
التي طلب من الإنكليز أن يؤسسوها له , كما فضحها ولده الشريف فيصل في
دمشق الشام , بنشره نص مقرراتها الرسمي في جريدة المفيد , ثم نقلتها الصحف
الكثيرة في المشرق والغرب , وهذا نص المادة الثانية منها بحروفه , كما كتبها
حسين بن علي بيده الأثيمة الخاطئة.
(٢) تتعهد بريطانية العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي
مداخلة كانت، بأي صورة كانت في داخليتها , وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعد بأي شكل يكون , حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء إلخ.
ولكن الإنكليز لما لم يسمحوا له بغير الحجاز من البلاد العربية التي طلب أن
يكون ملكها تحت حمايتهم , لم يكن من مصلحتهم أن يقبلوا رسميًّا جعل الحجاز
تحت حمايتهم , وهو لا يزال مصرًّا على هذه المقررات , ويعد من أعظم النعم
عليه أن يكون موظفًا بريطانيًّا في الحجاز كبعض النواب والرجوات في بعض
الولايات الهندية , التي تسمى مستقلة في بطن الحِضْجَر الواسع [٢] .
ومن الدلالة على ذلك أنه طلب مرارًا من الدولة البريطانية إقالته من ملك
الحجاز , وتنصيب غيره بدلاً منه , وأرسل مرة إلى مدير جريدة التيمس برقية إليه
رغب إليه فيها أن يتوسل لدى حكومته؛ لقبول استقالته , وهذا نص البرقية منقولاً
عن العدد ٥٥٣ من (جريدة القبلة) :
المدير العمومي لصحفية التيمس
(اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب , والتزامكم أحد
أمرائهم , ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك , وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني , أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير
المذكور أو من تراه ليستلم البلاد) إلخ. والمراد بالأمير المشار إليه: سلطان نجد؛
إذ كانت جريدة التيمس مدحته بمقال لها.
وكان قد أرسل إلى نائب ملك الإنجليز بمصر كتابًا في ٢٠ذي القعدة سنة
١٣٣٦ , نشره في جريدته القبلة مرارًا؛ لاعتقاده أنه من معجزات السياسة أو
الكياسة والبلاغة , استغاث فيه الدولة البريطانية أن لا تعدل مقررات نهضته المبنية
على الحماية , ولا تعرض الانفاق معه على مؤتمر الصلح , قال فيه ما نصه السقيم:
(فإن كان ولا بد من التعديل فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب , ولا أشتبه
في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا , إلا أنه أمر يتعلق بالحياة لا لقصد عرضي ,
ولا لفكر غرضي , وأنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها الذين لا تغيرهم
الطوارئ والأيام , ثم تعينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا فيها بالسفر إليها في أول
فرصة) .
ثم أجاب عن تعليق أمر مطالبه بالمؤتمر وختم كلامه بقوله:
(ولو قرر المؤتمر المذكور أضعاف مقرراتنا , وكان ذلك من غير وساطتكم
وقبلناها , فنكن (؟) مطرودين من رحمة الباري - جل شأنه - الرقيب على قولي
هذا) اهـ بحروفه من العدد ٣٩١ من جريدته القبلة , الذي صدر في ٢٣
رمضان سنة ١٣٣٨ , ومنه يعلم أن الدولة البريطانية عنده كالمعبود , فلا يعاملها
معاملة مبنية على المصلحة فقط.
(السبب الرابع) :
رضاه باستخدام الدولة البريطانية لأولاده في العراق وشرق الأردن؛ لتخدير
أعصاب بدو البلاد وحضرها , وحملهم على الرضاء بما يؤسس فيها من حظائر
الطيارات الحربية , وتعبيد الطرق في قلب الجزيرة للسيارات والدبابات , ومد
سكك الحديد العسكرية والتجارية؛ لتمكين سلطانها فيها , فإن العرب إذ قاوموها
قبل ذلك فالراجح أنها تضطر إلى ترك بلادهم لهم؛ لئلا تضطرها المقاومة العملية
إلى بذل ألوف الملايين من المال ومئات الألوف من الرجال , وذلك ما لا يأذن لها
به برلمانها , ولا تسكت عليه أمتها في هذا الوقت التي أرهقتها فيه الضرائب وإذا
هي تم لها بنفوذ هؤلاء الحجازيين ما شرعت فيه من ذلك , فرسخت أقدامها ,
واستقرت قوتها , فلن تخرج من البلاد ولن ترضى إلا الاستيلاء على سائر جزيرة
العرب؛ للمحافظة على ما تسميه مصالحها وطرق تجارتها , وعلى ما تدعيه من
إسعاد البلاد وأهلها , كما تقول في مسألة السودان. وهي عبرة للمخدوعين بهؤلاء
الحجازيين , إن كانوا غير خائنين لأمتهم وبلادهم ولا جاهلين لمصلحتها ككثير من
البدو.
(السبب الخامس) :
جعل حرم الله تعالى الأمين مركز ملك حربي , يحالف ملكه بعض الملوك
الأجانب غير المسلمين , ويجعل لهم حقوقًا في الحرمين الشريفين غير مسألة
الحماية التي تقدم ذكرها , ويعادي آخرين، ولا يجوز أن يجعل الحجاز مركزًا حربيًّا؛
أي عرضة للحرب؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى منع الحج الذي هو ركن الإسلام
الاجتماعي العام الجامع للشعوب الإسلامية كلها , وإنما مصلحة المسلمين عامة ,
وأهل الحجاز وجيرانهم خاصة - جعل الحجاز قطر حياد وسلام، والسعي لاعتراف
جميع الدول بذلك , ولو فعل السيد حسين المكي ذلك، لاستغنى به عن معاداة جيرانه
من العرب , والاستعداد لقتالهم، ولاستغنى عما هو شر من ذلك , وهو إهانة نفسه
وبيته وأمته وملته , وحرم الله وحرم رسوله بالالتجاء إلى حماية دولة غير مسلمة له
ولهما.
(السبب السادس) :
أنه سمى نفسه ملك العرب وملك البلاد العربية , وحمله غروره بنفسه على
السعي لإقناع أمراء جزيرة العرب المستقلين بالاعتراف له بذلك، فسخروا من سعيه؛
لسوء سياسته , وبناء ملكه على الحماية الأجنبية , وضعفه , وفساد إدارته ,
واعتقاد كل منهم واعتقاد رعيته وسائر العارفين بحالهم أنهم أحق بالملك منه , ولكنه
لم يرجع عن دعواه , بل أصر على ذلك , وحاول التوصل إليه بقوة الأجانب الذين
جعلوا أحد أولاده ملكًا والآخر أميرًا مرشحًا للملك في دائرة إمبراطوريتهم المرنة ,
فهو قد اتخذ جميع أمراء الجزيرة المحيطين بالحجاز أعداءً له , وحسبنا شاهدين
على هذا: ما صرح به لرئيس مؤتمر الجزيرة الذي أسسه؛ لبث دعايته وتمهيد
السبيل له؛ وما جرى في مؤتمر الكويت من الامتناع من الاتفاق الودي مع حكومة
نجد , وإننا ننقل بعض كلامه في الشاهد الأول , ونرجئ الثاني إلى بيان الأسباب
الخاصة لزحف النجديين على الحجاز:
نشرت جريدة القبلة في العدد ٧٣٧ الذي صدر بمكة في ٦ ربيع الآخر سنة
١٣٤٢ بيانًا عامًّا من اللجنة التنفيذية لمؤتمر الجزيرة بإمضاء رئيسها محمد بن
علوي , ذكر فيه ما صرح له به الملك حسين من تفسير الوحدة العربية التي يطلبها ,
وهو أنه رسمها على الأساس الآتي:
(وهو وحدة البلاد العربية واستقلالها , بحيث تكون خارجيتها وعسكريتها
وسياستها العامة واحدة , أما داخليتها فالإمارات العربية المعروفة بجزيرة العرب
تكون على ما كانت عليه قبل الحرب , وأن كل أمير في أي إمارة من هذه الإمارات
الموروثة لهم من آبائهم وأجدادهم يستقل بداخليته صمن الحدود التي كانت عليها
إمارته قبل الحرب , بشرط أن يرتبط مع المجموع الذي كل من خرج عنه منهم ,
أو شذ بالخروج عن الجامعة العربية يحكم عليه المجموع بمقتضى قوله تعالى:
{فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه} (الحجرات: ٩)
(وأما ما كان خارجًا عن حدود تلك الإمارات سواء كانت تلك الإمارات
قائمة بذاتها ضمن حدودها , أو طرأ عليها الاغتصاب؛ كعسير قبل الحرب وابن
رشيد بعد الهدنة , فلا بد من عودتهم إلى ما كانوا عله؛ كعودة الإمام يحيى إلى
صنعاء) .
ثم قال: (ولذلك فهذه هي الخطة التي عليها نحيا , وعليها نموت , وعليها
نبعث إن شاء الله من الآمنين؛ لذا فلا بد من إعادة آل رشيد وآل عايض إلى
إماراتهم وحدودهم وقبائلهم التي كانوا عليها وإعادة كل أمير من أمراء الجزيرة إلى
ما كان عليه قبل الحرب) إلى أن قال: (هذا الذي أدين الله عليه , ولو لم تبق
إلا ذاتي وحياتي لأنفقتها في هذا السبيل) .
فهذا نص صريح من الملك حسين الذي سمى نفسه (ملك العرب وجميع
البلاد العربية) بمعاداة جميع أمراء جزيرة العرب , وجعلهم معه في حالة حرب؛
لأنه يدين الله تعالى بسلب كل واحد منهم بعض البلاد التي في يده , ويجعلهم تابعين
في السياسة الخارجية والحربية والإدارة العامة لملك العرب؛ أي: له.
أذاع عنه هذا في جريدة القبلة رئيس مؤتمر الجزيرة المستخدم عنده لهذا ,
وهو الذي يرسل البرقيات إلى العالم الآن في الافتراء على النجديين؛ لينفر العالم
منهم.
(السبب السابع) :
إلحاده بظلم أهل الحرم , وإرهاقهم العسر من أمرهم بضرب المكوس الباهظة
على كل ما يرد إلى البلاد من الأقوات وغيرها , وباحتكاره القوت الضروري وهو
الخبز بإبطاله جميع الأفران العامة الخاصة , وإنشائه أفرانًا يكره الناس على الشراء
منها بالثمن الذي لا يمكن أن يزاحمه فيه أحد مع عدم المبالاة بقول النبي صلى الله
عليه وسلم: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) رواه البخاري في تاريخه ,
وأبو داود في سننه , وأكثر رواة التفسير المأثور من حديث يعلى بن أمية (رضي
الله عنه) , وفي معناه روايات أخرى عن عمر وابن عمر (رضي الله عنهما)
مرفوعة وموقوفة , وبغير ذلك من اغتصاب أوقاف الأشراف والأوقاف الأهلية في
المدينة المنورة وبالحبس والتنكيل والتعذيب وقطع الأطراف والقتل بغير حق يجيزه
الشرع , ولا نطيل هنا في هذا , وقد بيناه بالتفصيل في مجلة المنار , ولدينا مزيد
وهو معروف عند أهل نجد.
(السبب الثامن) :
تحكمه بهواه في أمر فريضة الحج , فهو يمنع منها من اتخذهم أعداءً له؛
كأهل نجد , ويضرب على سائر الحجاج المكوس غير المشروعة باسم جوازات
السفر، ورسوم الصحة , وغير ذلك مما أذاعه حجاج الآفاق في جميع الأقطار ,
وشرحناه بالتفصيل في مجلة المنار.
(السبب التاسع) :
نشره في جريدة القبلة أنه لا يوجد في العالم حكومة إسلامية تقيم الحدود
وتلتزم أحكام الشرع غير حكومته , وتكفيره للترك والمصريين والنجديين , وسنذكر
بعض الشواهد على هذا في المقال التالي.
(العاشر) :
ادعاؤه مع كل ذلك الخلافة الإسلامية الذي يقتضي أن كل من يخالفه , ولا
يخضع لحكومته من الشعوب والحكومات الإسلامية من الخوارج البغاة الذين يجب
عليه وعلى سائر المسلمين قتالهم , وقد ذكرنا آنفًا رأيه في إمارات جزيرة العرب
المجاورة للحجاز , وتصريحه قبل إظهار دعوى الخلافة , والدعوة العامة إلى
مبايعته بها بأنه يدين الله تعالى بجعلها تابعة لملك واحد , وبعزمه الثابت على تنفيذ
ذلك بالقوة. فكيف يكون شأنه بعد هذه الدعوى؟ ومقتضاها عنده أنه يجب على أهل
هذه البلاد كسائر المسلمين أن يكونوا تابعين له خاضعين لحكمه.
فهذه الأسباب العامة توجب على من قدر من أمراء المسلمين أن ينقذوا الحجاز
من سلطة هذا المدعي المغرور كما فصلناه من قبل في المنار , وسنجمل القول فيه
في المقال التالي الذي نبين فيه الأسباب الخاصة التي حملت أهل نجد على القيام
بهذا الفرض الكفائي , وسبب تأنيهم في ذلك وهو الاحترام للحرم الشريف.