للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المنار بين الروافض والنواصب

ذكرت رصيفتنا مجلة العرفان الشيعية الغرَّاء أن في جزائر جاوه نواصب
تنصرهم وتؤيدهم مجلة المنار- أو ما هذا معناه.
لا أجد سعة في الوقت أبحث فيها عن الجزء الذي ذُكِرَ فيه هذا المعنى ولا
حاجة إلى نقله بحروفه , وكنت نسيته فذكرني به ما كتب إليَّ أخيرًا من تلك البلاد
من الانتقاد والعتاب على ما نشرت في المنار من الثناء على إمام اليمن وتعظيم شأن
اليمانيين في مباحث الخلافة مما عُدَّ دعاية له , وتأييدًا لدعاة النزعة الشيعية في تلك
الجزائر وتقوية لضعفها؛ حتى قال بعضهم: إنا لا نلومكم على التعصب لنسبكم ,
ولا يعنينا من إمام اليمن كونه زيديًّا أو غير زيدي , وإنما نبغي مصلحة المسلمين
والعرب , وأهل اليمن ليسوا أهلاً للقيام بها.
أنا لا أذكر الآن هذا ولا ذاك للرد عليه , فإن الجدال والمراء في المذاهب
ونصر بعض الأحزاب والشيع الدينية - وكذا السياسية - على بعض لم يأت في يوم
من الأيام بإقناع , بل أتى بشرور كثيرة أفسدت على أهلها - ولاسيما المسلمين - منهم
دينهم ودنياهم؛ إذ خرجوا بها عن وحدة الدين العامة , وصدق على مثيري فتنة
التفريق وأتباعهم قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) الآية؛ فظلوا يتعادون
ويشاق بعضهم بعضًا؛ لأجل منافع بعض الزعماء الذين يطلبون الملك أو الجاه بهذه
الوسيلة؛ ولما ضعفت العصبية الدينية والمذهبية بالتبع لأهلهما في بعض البلاد ,
انتقلوا منها إلى العصبية الجنسية والوطنية , فحاربوا بها الدين نفسه , وقد كان هذا
غرضًا مقصودًا بالذات لبعض اليهود ومجوس الفرس الذين أحدثوا بدعة التشيع
والأحزاب العدائية في الإسلام , والذي يساوي بين الأجناس والأوطان والطبقات
والأفراد في جميع الأحكام , وجعل التفاضل بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة؛
لإصلاح الإنسانية العامة وإيجاد التآخي البشري , ورفع مرتبة البشر عن عبادة
بعضهم لبعض بنصوص القرآن المحكمة؛ فنحن نحارب هذا التفرق والعداء ,
وندعو إلى الوحدة والاتفاق , والشواهد على هذا في جميع مجلدات المنار كثيرة لا
يمكن لأحد أن يماري فيها مراءً ظاهرًا , وأما مسألة دعوة التشيع في جزائر جاوه
فهاك نبأها وخطتنا فيها:
كنا ذكرنا في أجزاء من مجلدات المنار السابقة أنه حدث في تلك الجزائر
الشرقية الجنوبية دعوة تشيع بين الحضارمة وغيرهم من العرب , أحدثت شقاقًا
جديدًا , ولم ندر غرض الدعاة منها , فقد كان جميع مسلمي تلك البلاد من عرب
وعجم يجلون السادة العلويين ويوقرونهم , - والفريقان ينسبان إلى مذهب الإمام
الشافعي - رضي الله عنه- فصار لهم بها خصوم ينكرون عليهم؛ لا نواصب
يبغضون عليًّا - كرم الله وجه - وقد جاءتني رسائل كثيرة من الفريقين بعضها
مخطوط وبعضها مطبوع , يطلبون مني نشرها في المنار , وأسئلة يستفتونني بها
فيما شجر بينهم , فكنت أهمل بعضها وأقف موقف المصلح فيما أنشر منها , وما
أكاتب به أهلها , وأحببت أن أقف على قصد الذين أحدثوا هذه الدعوة ماذا يريدون
منها؟ أهو ما عهد منذ القرون الأولى من فتنة الإمامة الدنيوية الظاهرة أو الإمامة
الدينية الباطنة معصومتين أو غير معصومتين؟ أم ثَمَّ قصد جديد يناسب هذا
العصر , أم مجرد استعلاء السادة العلويين على غيرهم، وإن كانوا يفوقونهم في
علومهم وفضائلهم؟ بحثت وتساءلت فلم أقف على كنه الحقيقة كلها , وكنت
اقترحت أن نترك هذه الدعاية الجدلية التي أرجح أنها ستنتهي بشر مما ظهر من
إنتاجها ضد ما يريد دعاتها , وأن يستبدل بها دعوة إلى جمع رأس مال كبير؛
لإنشاء معاهد للتربية والتعليم خاصة بأولاد السادة العلويين في جميع الأقطار ,
يعلمون فيها التعليم العالي من ديني ودنيوي مع التربية الفضلى ليكونوا قدوة للناس
بحق , وينهضوا بهذه الأمة النهضة التي تقتضيها حال العصر , فيكون منهم
الأخصائيون في العلوم والفنون المختلفة , والدفاع عن الإسلام وجمع كلمة المسلمين ,
وليستعينوا بها على كسب رزقهم من أشرف الطرق؛ فلم تلق نصيحتي سميعًا
مجيبًا , وإن استحسنها بعضهم بالقول فقط , وقد كنت بهذه الدعوة أَبَرُّ بسلالة
أجدادنا مما دعوا الناس إلى عبادة بعضهم والغلو القريب من العبادة في بعض ,
وإلى جعلهم خلفاء في الأرض؛ إذ كان واضعو تلك الدعوة من زنادقة اليهود
والمجوس أصدق أصدقائهم في الظاهر , وأعدى أعدائهم وأعداء جدهم وقومه ودينه
في الباطن.
فأما اليهود من مبتدعي تلك الدعوة؛ كالسبائيين، فقد حملهم عليها حسدهم
للرسول صلى الله عليه وسلم ولقومه , أن يكون منهم خاتم النبيين الذي بَشَّر به
موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل؛ ثم حقدهم على الرسول لنصر الله إياه على
يهود مدينته وما يقرب منها , وعلى عمر بن الخطاب الخليفة الثاني؛ لإجلاء قومهم
عن جزيرة العرب كلها , على أنهم رأوا بعد ذلك من عدل العرب في سورية ثم في
الأندلس وغيرهما ما أنساهم ذلك الحقد , وجعلهم أنصارًا للمسلمين على النصارى
الظالمين لهم؛ إذ لم يروا بعد ذهاب ملكهم عدلاً وإحسانًا إلا من المسلمين , وما
سبب مكانتهم في بعض دول أوربة الكبرى في القرون الأخيرة إلا انتصارهم
بالدهاء والكيد على الحكومات الدينية فيها وثل عروشها , واستبدال حكومات مدنية
مادية بها , لا يقدر أن يفوق اليهود أحد فيها , وقد أعاد الإنكليز العداوة بينهم وبين
العرب في هذا العصر.
وأما المجوس من الفرس فأصروا على الكيد للعرب والإسلام , حتى غلبهم
الإسلام على أمرهم , ولم يبق للمجوسية شأن قوي في شيء من بلادهم , وظهر أن
تعصبهم الظاهر للعلويين كان نفاقًا ومكرًا منهم , فإنهم حوّلوا عصبيتهم عن
العلويين إلى العباسيين لمَّا وُجِدَ من طلاب الخلافة في هؤلاء مَن يعرف كيف
يسخر تلك العصبية , ثم وجد في إيران ملك مستقل , ولم يكن لأهل البيت فيه
شيء من السلطان والحكم على استقرار تعاليم الشيعة وصيرورتها مذهبًا دينيًّا , بعد
أن كانت لديهم حزبًا خداعًا سياسيًّا , بل فضلوا جعل الملك في سلالة من الأعاجم
الذين عادوا قومهم وقاتلوهم؛ لأجل التشيع على جعله في السلالة العلوية الفاطمية
المحمدية.
وكانت عاقبة ذلك الغلوّ في التعظيم لآل البيت صرفهم في الأكثر عن تحصيل
الفضائل الذاتية من التفوق في العلم والعرفان , والأعمال الناهضة بالإسلام ,
وصارت الألوف الكثيرة منهم كَلاًّ عن الناس في رزقهم , وأغرب من ذلك كله في
سيرتهم أن تناط إمارة الحجاز ببطن من بطونهم , فتمر القرون ولا يظهر أحد من
أفرادهم يصح أن يسمى مصلحًا في علم ولا عمل ولا حكم؛ بل غلب عليهم الجهل
والظلم في أفضل بقاع الأرض - دع الفسق وأخباره - حتى انتهى الأمر في هذا ,
وكان لهم أسوأ الأثر العصر إلى هذا الرجل الظلاّم (حسين بن علي) الذي اعتمد
على أعدى أعداء الإسلام والعرب في تسمية نفسه ملكًا للعرب وخليفة للمسلمين ,
وكان هو وأولاده مساعدين لهم على فتح بلاد العرب , وتمكين سلطانهم فيها ,
دع شدة ظلمه لأهل الحرمين وحجاج الآفاق كلها.
مع هذا كله يقوم فينا هؤلاء الدعاة؛ للاهتداء بحملة أوراق هذه الأنساب ,
وأنهم كسلفهم الأول قرناء الكتاب , ثم يفتحوا علينا باب الطعن في أهل الصدر
الأول حتى الخلفاء الراشدين منهم، كأبي بكر وعمر الذي يفتخر بعدلهما وفضائلهما
جميع المنصفين من البشر , فقد كان من الرسائل التي لم ننشرها رسالة طبعت في
ذي الحجة الحرام سنة ١٣٣٩ , حاول كاتبها العلوي العامي إيجاب أخذ الدين عن
العلويين وحدهم , وأن من أخذه عن غيرهم فهو (ضال منافق كائنًا من كان) ,
فيا ضيعة دين يؤخذ عن مثل هذا العامي الجاهل الذي لا يحسن كتابة عبارة
عربية صحيحة؛ بل يا ضيعة دين وأمة يسمى فيها حسين بن علي المكي ملكًا
للعرب وخليفة للمسلمين , وما جعله هو وأولاده ملوكًا إلا الإنجليز!
ومنها رسالة أخرى يهذي مرسلها الجاهل في مسألة غضب السيدة فاطمة
عليها السلام , من أصدق البشر وأخلصهم في حبها وحب أبيها عليه أفضل الصلاة
والسلام صاحبه الأول الثابتة صحبته بنص القرآن , وصديقه الأكبر في إقامة
الإسلام والإيمان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
الجواب عن هذه المسألة ليس بالممتنع الذي تنبو عنه أسنة الألسنة وتكبو في
ميدان بيانه جياد الأقلام , لو كان السائل عنه مُشْتَبَهًا عليه , وكان ينشد الحق فيه
ليعتصم به , فإذا كنا نأخذ بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من مناقب السيدة
ومناقب الصديق معًا , فلا يعز علينا أن نرفع التعارض بين كلامه عليه الصلاة
والسلام فيهما بما يصدق به بعضه بعضًا , ونعذر كلاً منهما بما كان منه باعتقاده
واجتهاده , وأما إذا كنا نقبل بعضه ونرد بعضًا بأهوائنا , كما فعل أعداء الإسلام
المفرقون من قبلنا , فالنتيجة اليوم تكون غير النتيجة بالأمس , غلو يقابل بغلو ,
وردّ يقابل برد , وتجديد شقاق قاتل لجميع المسلمين في إبان هذا الضعف , وإحاطة
الأجانب بهم وبمهد دينهم من البر والبحر.
وقد استتبع الطعن في الصحابة الطعن في حَفَظَةِ السنة ورواتها , ونقادها
وحملتها , وهذا يستتبع الطعن في القرآن الذي تجرأ بعض غلاة الراوفض على
القول بتحريف كلمه عن مواضعه , وبكتمان الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة -
بَرَّأهم الله تعالى - لبعض كلمه وآياته وسوره , التي زعموا أنها نزلت في أهل
البيت - عليهم السلام - وفي ولاية علي - كرم الله وجهه - وإمامته , وقد ألفوا في
ذلك كتابًا طبعوه في طهران , وفيه من الأكاذيب على أئمة أهل البيت - برأهم الله
تعالى وطهرهم - ما يقتضي لو ثبت أنهم أشد الكفار طعنًا بدين جدهم وهدمًا له
(وحاش لله) , ولقد كان زنادقة المجوس واليهود الواضعون لهذه الزندقة يقصدون
بما افتروه عليهم , أن ينسب هدم الإسلام إليهم؛ بل إلى جعل خنقه بأيديهم ,
بإضلالهم لمن أضلوا منهم , ولا سيما إن صح نسب العبيديين وغيرهم من أئمة
الإسماعيلية , ولايزال بعض المخلصين من الشيعة غافلين عن ذلك , ولا غَرْوَ فقد
اغتر مثل الشريف الرضي - رحمه الله تعالى - بالعبيديين ومدح خليفتهم.
نحن واقفون على هذا كله , ولم نفتح بابًا للخوض فيه؛ لأننا نود رتق الفتوق
التي أحدثها في الإسلام أعداؤه من زنادقة الفرس الباطنية وغيرهم لا توسيعها , فقد
آن لنا أن نطهر أمتنا من جراثيم الوباء الذي أفسد به مزاجها من قبلنا , أو لم يكفنا
شبهات ملاحدة هذا العصر , التي كان من تأثيرها دعوة بعض كبراء الترك إلى
ترك الإسلام , ولو إلى عبادة الذئب الأبيض , ودعوة بعض نابتة الفرس إلى
المجوسية الأولى؟ أوليس أولو العلم والبصيرة في الدين مَن بقية أهل البيت
النبوي الكريم أولى من غيرهم بالتجافي عن الغرور بأنفسهم , والتلافي لما أفسد
المحب الغالي والمبغض القالي من أمرهم , وبإصلاح ما أفسد التشيع الديني , ثم
التعصب الجنسي من أمة جدهم؟ مهما تكن المذاهب والتشيع التي نشؤوا فيها؟ بلى
والله، هذا ما نعتقده ولا نقول ولا نكتب ولا نعمل إلا ما نعتقد أنه الحق وفيه الصلاح
والإصلاح , من غير تحامل إلى طائفة , ولا تحيز إلى فئة , ولا تحرف لمذهب.
ونحن نصرح بالاجتهاد والاستقلال المطلق فيما وقع فيه الخلاف بين
المسلمين باختلاف الفهم وتعارض الأدلة , وإن ما كان عليه جماعة المسلمين في
الصدر الأول من أمر الدين هو الحق , وإنَّ إجماعهم فيه حجة , وإن شذوذ بعض
الأفراد لا يُعْتَدّ به , وإن الخطأ في الاجتهاد جائز على كل مجتهد وواقع في كل
مذهب , فلا يعذر أحد بقطع أخوة الإسلام بنصر مذهب على آخر , وندعو الجميع
إلى التحاب والتآخي الديني , الذي تجمعهم فيه العقائد القطعية؛ كوحدانية الله تعالى
ورسالة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم , وكون جميع ما جاء به من القرآن،
وما تواتر عنه من الأحكام حق؛ كالأركان الخمسة , وتحريم الفواحش ما ظهر منها
وما بطن , وإلى أن يعذر بعضهم بعضًا فيما لا قَطْعَ فيه ولا إجماع عليه مما صح
من النقل عند بعضهم دون بعض , وما اختلف فيه الاجتهاد والرأي , فلا يجعلوه
سببًا للاختلاف والتفرق الذي يبغضه الله تعالى وتوعد عليه بأشد الوعيد , بل يتحتم
أن يجعلوه كسائر المسائل العلمية من كونية ولغوية , فذلك أحرى أن تجتمع عليه
كلمتهم , وتتحقق به وحدتهم , وذلك خير لهم في دنياهم وآخرتهم , وكذلك كان
الصالحون من سلفهم.
على هذه الطريقة استقمنا , ولذلك ندعو منذ أسسنا المنار , جرينا في التفسير
والفتاوى الشرعية على الاستقلال المحض , واجتناب التزام شيء من المذاهب
الكلامية والفقهية , وفي المقالات والآراء الاجتماعية والسياسية على النصح
الخالص لجميع الفرق الإسلامية , وهو ما حمده لنا المنصفون من أئمتها وزعمائها
في الأمور الدينية والدنيوية , حتى الذين بينهم أشد الخلاف، كالشيعة , والأباضية
أو أدناه وأهونه، كالسلفيين , والخلفيين من السنية , ولدينا مكتوبات من كبرائهم في
هذا لا يحسن نشرها الآن , وفي تفسير هذا الجزء وما قبله نموذج لمشربنا هذا في
مسألة من أهم المسائل الاعتقادية التي لا يزال الخلاف فيها شديدًا بين المذاهب
الباقية من الطوائف الإسلامية الكبرى إلى الآن وهي ثلاث:
(الأولى السنية) :
ولها في الأصول ثلاثة فروع؛ السلفيون وهم أهل الحديث وهم ثلة في الهند
وقليل في غيرها , والحنابلة ومنهم أهل نجد وأتباعهم في جزيرة العرب ,
والخلفيون وهم الأشاعرة ومنهم المالكية , والشافعية , والماتردية , وهم الحنفية
والخلاف بين هذه الفروع لولا جمود بعض أفرادهم , وتعصبهم لأقوال بعض
الشيوخ , لم يكن بالذي يبقى فأكثره لفظي محض , وباقيه ضرورة لا عقيدة؛
كالتأويل لدفع بعض الشبهات، وما زالت مساجدهم واحدة يقتدي فيها بعضهم ببعض ,
وما أحدث الحكام والأمراء المتأخرون من إقامة عدة جماعات في بعض المساجد ,
حتى المسجد الحرام في وقت واحد لمذاهب الفروع فهو جهل سببه المنافع الدنيوية ,
وهو بدعة مفرقة ظن الجاهلون أن منع الوهابية إياها من المسجد الحرام في هذه الأيام
من شذوذهم.
(الثانية الشيعة) :
وله فرعان كبيران معروفان وبما لهما من دولة وحكومة وهما: الزيدية
والإمامية , وفروع صغيرة ليس لها تأثير كبير في معارضة ما نهتم به وندعو
إليه من جمع الكلمة , وإزالة ما بقي من ضرر الخلاف والتفرقة.
(الثالثة الأباضية) :
وهم المعتدلون من فرق الخوارج , بل رأيت بعض علمائهم يبرئهم منهم ,
ولهم حكومتان سلطانيتان اعتدت الدولة البريطانية على استقلالهما , وانتحلت لنفسها
حمايتهما بالرغم منهما؛ أعني حكومة عمان في أقصى الشرق من جزيرة العرب ,
وحكومة زنجبار في الشرق من أفريقية , وفي شمالها عدد كبير منهم له شأن في
طرابلس والجزائر.
أما المسيحية القاديانية فهي فرقة إسلامية مارقة؛ إذ هي تدّعي وقوع الوحي
لمؤسسها المسيح الدجال ولغيره من خلفائه المضلين , وأما البهائية فقد خرجت عن
كونها من فرق المسلمين , وصارت تصرح بدينها في بلاد الحرية.
نحن نسعى للتأليف بين جميع الطوائف الإسلامية , ونتقي في سعينا كل ما
يخشى أن يحبطه من جدل أو مناقشة في مسائل الخلاف المذهبي بينها وبين
الأخرى , أو في شؤون حكومتها أو أحزابها السياسية , وإنما حملنا تلك الحملة
الشديدة على جمعية الاتحاد والترقي؛ لأنها تصدت لإضعاف الدين الإسلامي نفسه
أو هدمه , ولجعل السيادة في الدولة العثمانية للجنس التركي أو التوراني وحده ,
وكانت الدولة دولتنا , وسياسة هذه الجمعية فيها خطر على ديننا وعلى قومنا
(العرب) وعلى الدولة في جملتها , وقد صرحنا بأنها ستقضي على هذه الدولة
وصح قولنا.
وذلك الباعث الذي دعانا إلى تلك الحملة هو الذي دعانا في هذا العهد إلى
حملة على سياسة الملك حسين وأولاده , فهي أشد خطرًا على ديننا وقومنا العرب
كما بيّنا ذلك بالبراهين في مقالاتنا المثيرة في المنار وغيره , وهم أفراد لا
يتجاوزون عدد أنامل اليد , لا شعب ولا دولة ولا عشيرة ولا أئمة مذهب ولا
زعماء حزب , وقد انفض من حولهم الحزب السياسي الذي كان يؤيدهم , ولولا ما
بقي لهم من الجاه والسلطة الممنوحة لهم من وليتهم (العظمة البريطانية) , ومن
المال المأخوذ منها أو المسلوب من الحجاج , لما بقي أحد يذكرهم بكلمة ثناء ,
ونسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم قبل أن يتم ما نتوقع من خطرهم , وقد نصحنا لهم
وسعينا لإصلاح شأنهم حتى يئسنا منهم.
وكذلك نصحنا لإمام اليمن ولسلطان نجد , ولم نبال بعذل من عذلنا في الأول
لأنه زيدي , ولا في الثاني لأجل لقب وهابي , ونصحنا أيضًا لسلطان مسقط السابق
وهو إباضي , وننصح لخلفه السلطان تيمور إذا سنحت لنا الفرصة , وليقل من شاء
ما شاء ولينبزني المتعصبون بما شاءوا من هذه الألقاب , وسأكون بهذا الجمع ملقبًا
بها كلها ومجردًا منها كلها , (وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ,
وإنما يدهن العلماء والكتاب للجماعات التي ينسبون إليها أو لغيرها من الأحزاب
والشيع والمذاهب , إذا كانوا يعملون ابتغاء الجاه عندها أو المال منها , وأحمد الله
تعالى أنني أعمل ابتغاء مرضاته , وإن سخط من شاء من الجاهلين والجامدين
والمتعصبين قلّوا أو كثروا.
أعيد القول كما بدأته: بأنني مسلم سلفي لا أقلد عالمًا معينًا , ولا أتعصب
لمجتهد معين ولا أعيبه ولا أعيب أتباعه , ولا أدعي تأسيس مذهب جديد , وإنما
أتكلم في المسائل الخلافية بالدليل والأدب مع الجميع اتباعًا لعلماء السلف , كما يرى
القراء في مسألة رؤية الرب تعالى في التفسير , وأرى من أكبر المفاسد الطعن في
طائفة من الطوائف , أو مذهب من المذاهب , أو شعب من الشعوب، وانتقاده ولو
بما فيه من المساوي والعيوب؛ لأن ذلك يغريه بشدة الاستمساك بما عيب به ,
والتعصب لما انتقد عليه , وعداوة العائب , وكل من ينسب إليهم من قومه أو أهل
مذهبه , ففي كل قوم خير وشر , وحق وباطل , وخطأ وصواب , وإذا كنا لا نقول
بعصمة فرد من أهل هذا الزمان , فهل يمكن أن نقول بعصمة طائفة كبيرة؟ وإنما
المصلحة في النصح اتباع قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: ١٢٥) .