للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


من الأمير إلى الملك [*]

بعث الأمير شكيب أرسلان بكتاب سياسي خطير إلى الملك حسين رأينا أن
ننشره لما تضمنه من الحقائق التاريخية قال:
الأمير النبيل سليل العترة الفاطمية، وطراز العصابة الهاشمية، أطال الله
بقاءه، وسدد إلى الصواب آراءه، آمين.
لا يخفى أن من الأحاديث المأثورة المشهورة عن جدك سيد الثقلين صلى الله
عليه وسلم (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) [١] .
فإذا كان الأمر كذلك أيها الأمير، ويطابق على صحته العقل وتظاهر بداهته
الحديث، فما قولك بالمؤمن يُلْدغ ألف مرة؟ وما ظنك بالمؤمن ابن المؤمن والشريف
ابن الشريف ولي نعمة الإيمان، ومشرق نور الإسلام، وأمير بلد الله الحرام، أن
لدغ من جحر قد سبق أنه لدغ منه غيره من المؤمنين لا مرة ولا مرتين، بل مرارًا
يضيع عندها الحساب، ولا يستوفيها كتاب؟
أيها الأمير عندنا في بر الشام مثل سائر: إن أنت لم تمت ألم تر من مات ,
فعلى فرض أن الإنكليز لم يخونوك إلى الآن أيها الأمير، أفلا تنظر إلى من خانوا
قبلك؟ وعلى تقدير أنه لم يأت وقتك , أفلا اعتبرت بمن أمهلوا قبلك ثم أخذوه؟
وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز , فيمكنك
أن تربح فكرك منها منذ الآن [٢] ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا
وضعوا ضباطهم على أبواب حجرة المصطفى علية الصلاة والسلام، تفاديًا من
العجلة التي قد تخالف الحكمة، وتجر الوحشة , على حين لم يسترح بالهم ولا
تحققت آمالهم , أفليس عندك أنت بمكانك من الذكاء , والفضل , ومطالعة التواريخ ,
وقياس الحاضر على الماضي , وقوة الاستنتاج ما يدلك على أنك بعد ركود
العواصف , ومضي الأزمنة , وانقضاء الغرض من مراعاتك , ومدارتلك صائر
إلى ما صار إليه غيرك , ولا حق بمن تقدمك من ملوك الإسلام الذين وقعوا في
حبائل الإنجليز طوعًا وكرهًا، فما زالوا حتى عفوا آثارهم: وأطفئوا منارهم،
وجعلوهم في الغابرين.
أتظن أيها الأمير أن الإنكليز يغدرون بكل هؤلاء الملوك والممالك ويستثنونك
أنت من الجميع , فيتعلمون فيك الوفاء , ويخرقون من أجلك خطة الغدر التي ساروا
عليها إلى يومنا هذا مع كل من ظللته الخضراء، وأقلته الغبراء، حال كون
غرضهم في محو إمارتك وأخذ بلدك أعظم من غرضهم في أخذ غيرك، وحال كون
مصلحتهم في طي سجلك أهم من مصلحتهم في حذف أي أمارة من أمارات الإسلام
لأنهم يرون أنهم إن استولوا على الحرمين الشريفين , فقد استولوا على الرأس ,
فصارت في أيديهم أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعاد المسلمون
لا يملكون معهم عينًا تطرف ولا نفسًا تصعد، وأمنوا جانب انتقاضهم عليهم في
مستقبل الأيام، وكل فتوحاتهم لا يحسبونها شيئًا بالقياس إلى نشر أجنحتهم على
الحجاز وعلى البلد الأمين - والعياذ بالله - وجعله من جملة مستعمرات بريطانيا.
أم غرك كون الإنكليز عقدوا معك عهدًا؟ قُلْ بحرمة جدك أيها الشريف ابن
الشريف: كم عقدًا عقد الإنكليز ولم ينقضوه؟ وكم عهدًا أبرموه ثم لم يجعلوه أنكاثًا؟
وما أخالك تجهل التاريخ , وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود
والمواثيق إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة , التي تتجلى في جميع معاملاتهم
سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم.
ناشدتك الله أيها الأمير هل أنت مصدق في ذات صدرك وذخيرة نفسك أن
للإنكليز عهدًا يرعونه معك أو مع غيرك، أو ذمامًا يحفظونه لك أو لسواك إذا
قضت سياستهم [٣] , أفلم تكن تقرأ , ولم يخبرك أبوك الأمير الكبير أنه قرأ
إعلانات حكومتهم الصريحة الرسمية مرارًا بأنهم يخلون مصر عندما يستتب فيها
الأمن ويعيدونها إلى أهلها؟ فماذا كان بعد ذلك سوى أنهم لبثوا يلتهمونها تدريجًا
حتى انتهوا باستلحاقها بدون أدنى مبالاة بعهود خطية، ولا بمواعيد رسمية،
وضموها إلى سائر مستعمراتهم؟ وإن أحسوا بأدنى مقاومة لأفكارهم في أرض
مصر ينسخون هذه الحكومة القائمة فيها كالشبح الماثل، ويجعلونها ولاية كسائر
الولايات، ولا نطيل عليك بسرد ما صنعوه في الهند وزنجبار وجنوبي اليمن
ومسقط والبحرين والكويت والعجم وبلوخستان وغيرها، وكل مبادئهم مع هذه
البلاد لم تكن إلا كمبادئهم معك، فكان من البديهي أن ينتهي معك الأمر كما انتهى
مع غيرك.
وإلى كم أيها الأمير تمر بنا المثلات ولا نعتبر، وتعظنا الحوادث ولا ندّكر؟
ونكون أشبه بالغنم يأخذها الجزار للذبح واحدًا بعد واحد وهي لا تعقل ماذا يصنع
بها حتى يصير السكين في أعناقها؟
فإذا كان من المقرر عند أهل الشرق والغرب أن الإنكليز ينكثون عهودهم لما
هو أقل شأنًا من الحجاز وتلك البقاع المقدسة التي تهوي إليها أفئدة المسلمين من كل
حدب , فهل هناك في يدك من قوة مادية تمنعهم من دخول قلب بلادك , ويكونون
مضطرين أن يحترموك من أجلها؟ أو تردعهم فيما لو قضت عليهم سياستهم عن
سلب إمارتك، لا بل والإيقاع بك واستئصال جرثومتك؟
لا جرم أنك تقدر أن تدعى بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة التي
تكفل دفع إنكلترا بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من الخلق يرتاح
إلى هذه الدعوة، فأنت إذًا باتفاق كلمة جميع العقلاء وأهلك وقومك باقون تحت
رحمة إنكلترا ورهن إرادتها، وقيد إشارتها، موكول أمركم إلى أمانتها وكرم
أخلاقها [٤] .
لا قوة معنوية تتكلون عليها من حفظ العهود، وتأكيد الوعود، بعد ما رأينا
سياسة إنكلترة مع غيرك. ولا قوة مادية من جيوش منظمة , ومدافع وذخائر وأعتاد
وطيارات وبوارج وغواصات وما أشبه ذلك مما تلتزم إنكلترة معه جانب الأدب
والكياسة، فبماذا أنت آمن شر تلك الدولة على جزيرة العرب ولا سيما على الحجاز
منذ أحقاب [٥] ؟ وأي ضمان عندك على كونها لا تقلب لك ظهر المجن، فتندم حين
لا ينفعك الندم؟ وبعد أن يكون تسلط غير المسلمين على أقدس تراب عند المسلمين
منذ ١٣ قرنًا.
ليس من باباوية في الإسلام أيها الأمير، ولا مزية للمسلم على المسلم إلا
بالتقوى , وأقرب الناس إلى الرسول أطوعهم لوصاياه، وأنت لا تجهل ما في كلام
الله وأحاديث جدك المصطفى صلى الله عليه وسلم مما يثبت لك أن مزيتك هذه
المتعلقة بسلالة الرسالة وبنور النبوة إنما تبدأ عند حفظ حدود الله لا غير.
أم تظن (أن الغاية تبرر الواسطة) كما يقولون؟ وإنك إنما تريد لتضع
أساس دولة عربية تبدأ في أول أمرها بالنشوء تحت حماية إنكلترة , حتى إذا بلغت
أشدها استقلت تمامًا، وأن تلك هي سنة النشوء والارتقاء؟ فاعلم أيها الأمير أن
الذين يزينون لك هذه الأوهام هم قوم قد عرفناهم ونعرفهم لا خلاق لهم، ابتلى الله
بهم هذه الأمة كما ابتلى كل الأمم بأمثالهم، وما هم في واقع الحال سوى سماسرة
الإنكليز يسعون أن يتمموا لإنكلترة صفقة البلاد العربية , وأسماؤهم مقيدة في دفتر
المبالغ السرية التي تنقدها إنكلترة سماسرتها السياسيين كلاً على قدر خدمته يدخل
هؤلاء عليك وعلى غيرك بمثل هذه الأعاليل , التي هي أسخف من أن يتنزل عاقل
مثلك لاستماعها فضلاً عن أن يتلقاها بالقبول.
هل الإنكليز الذين حلموا في المنام بطائر حلق فوق الهند , فهبوا مذعورين
وأرسلوا ببزاة طياراتهم لاصطياده في لوح الجو , يرضون أن هذا العرق العربي
النجيب الذي سبق له ما سبق في التاريخ العام يتمكن من تأسيس دولة عربية مستقلة
على ضفاف البحر الأحمر دهليز الهند , تسد على الإنكليز طريق حياتهم ومجاري
أنفاسهم أي وقت شاءت؟ أيظن أولئك المخدوعون بالإنكليز أنهم صاروا أدهى من
رجال بريطانيا , وأعلى كعبًا في السياسة , وأبعد نظرًا في عواقب الأمور , حتى
انتبهوا إلى ما غفلت هي عنه , وفكروا في مستقبل الأمة البريطانية.
أم هذه الأمة البريطانية التي هي أربعون مليونًا خَامَرَ عقولها الجنونُ ,
فصارت تسعى بإرادتها في تأسيس استقلال للعرب على طريق الهند , أو في مقابلة
مصر والسودان وتبحث عن حتفها بظلفها؟
قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية , الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ ثاراتها
ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟ .
ليقولوا لنا ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم , ونقر بفضلهم؟ لأننا
عرب نحب كل من أحب العرب , ونبغض كل من أبغض العرب , ولا نبالي بالقال
والقيل أمام الحقائق.
أترانا اكتفينا بأن يتلقبوا بألقاب الحكام ذوي السلطان؟ فهل الملك بالألقاب
والألفاظ الضخمة؟
ليتلقب واحدهم بملك الملوك أو سلطان السلاطين وهو ذو قوة نعرفها كما هي
فما يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها [٦] .
إن قلت: إنك مستقل في الحجاز وأنها أول بلاد عربية استقلت أجبناك: إن
الحجاز وحده لا يمكن أن يستقل عن بريطانيا طرفة عين مادام الحجاز عيالاً على
الخارج وعلى ما وراء البحر , وما دام ليس هناك استقلال اقتصادي ممكن , وإن
قلت: إنه يقدر أن يستغني عن البحر , وأن يعيش من الداخل , فأي داخل دخل
عليك لهذه المملكة الجديدة؟
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ)) ...