للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

حكم المكره على الحلف بالله أو بالطلاق
(س٢٧) وُجِّهَ إلينا الاستفتاء الآتي في جريدة الأهرام من أصحاب
الإمضاءات التي في آخره , وهم من المندوبين لانتخاب أعضاء مجلس النواب
المصري , وقد أشيع أن من رجال الحكومة من يُكْرِهُ أمثالهم على الحلف بانتخاب
فلان دون فلان , وقد استفتى غيرهم بعض العلماء فجمجم بعض , وسكت بعض.
وهذا نص الاستفتاء:
إلى العالم العلامة المصلح الكبير حجة الإسلام ومشكاة الشرع السيد محمد
رشيد رضا منشئ المنار الإسلامي:
ما قولكم دام فضلكم فيمن أكره على الحلف بالطلاق أو بالله أو بالمصحف
ليفعل أمرًا لا يجب عليه شرعًا فعله مع قدرة المُكْرِهِ على تنفيذ ما هَدَّدَ به المُكْرَهَ
(بالفتح) لا زلتم للإسلام حصنًا منيعًا وللدين عمادًا رفيعًا.
... ... ... ... ... ... محمد خطاب مندوب ثلاثيني
... ... ... ... ... سيد أحمد علي مندوب ثلاثيني ... ...
... ... ... ... ... ... مصطفى مصطفى مندوب ثلاثيني
وهذا نص ما أجبنا به ونشر في الأهرام:
نحن إنما نجيب عن أمثال هذه المسائل ببيان دلائل الشرع وحكمة أحكامه لا
بالكتب المخصوصة في مذهب معين , وإن كان هو الذي قيدت به المحاكم الشرعية
والفتاوى الرسمية. فنقول هنا: إذا حلف أحد ليفعلن كذا مما لا يجب عليه شرعًا
ففيه تفصيل فإن غير الواجب يشمل المندوب والمستحب شرعًا , والمباح والمكروه
والحرام، فإن كان المحلوف على فعله مندوبًا أو مباحًا فلا وجه للتفصي من القسم
وعدم البر باليمين بعذر الإكراه , فإن ما سيأتي بيانه من الخلاف والراجح منه في
مسألة الإكراه لا يقتضي أن يحنث في يمينه , فإن الخروج من الخلاف أولى من
الدخول فيه كما قال العلماء , ومن البديهيات أن من لا خلاف في جواز عمله أو
صحته خير من المختلف فيه وإن كان المحلوف على فعله من المحظورات القطعية
أو الظنية فلا يفعله وإن حلف مختارًا , فإن اليمين على فعل المعصية أو ترك
الواجب باطلة لا يجب الوفاء بها , بل يحرم ومثلها النذر , واختلف في كفارتها كما
سيأتي , فكيف إذا أكره على الحلف إكراهًا؟ وكيف لا يحنث في اليمين على ترك
المعصية وقد صح الأمر بالحنث فيمن حلف على شيء فوجد غيره خيرًا منه، وفيه
أحاديث منها ما رواه الشيخان (البخاري ومسلم) وغيرهما من حديث عبد الرحمن
بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا
حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير)
وفي رواية لأبي داود والنسائي (فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير) وفي
معناه أحاديث أخرى في الصحيحين والسنن , وهو دليل على أن من حلف أن
ينتخب فلانًا لمجلس النواب , ثم رأى أن غيره أنفع منه وأقدر على القيام بالمصلحة ,
فعليه أن ينتخب هذا دون من حلف لينتخبه , ويكفر عن يمينه إذا حلف باختياره
وإلا فلا كفارة عليه.
وفي معنى ذلك في النذر قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله
فليطعه , ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن
الأربعة من حديث عائشة رضي الله عنها , بل ورد فيمن نذر أو حلف على عمل
شاق إفتاء النبي صلى الله عليه وسلم إياه بالكفارة دون تعذيب نفسه؛ روى الشيخان
وأصحاب السنن الثلاثة من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا
يهادى بين ابنيه فقال: ما هذا؟ قالوا نذر أن يمشي- زاد النسائي في رواية - إلى
بيت الله - قال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني) وأمره أن يركب , وروى
أحمد والشيخان عن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله
فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال: (لتمش
ولتركب) وفي رواية أصحاب السنن الأربعة أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير
مختمرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله لا يصنع بشقاء أختك
شيئًا مُرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام) وفي بعض الروايات أمرها أن
تهدي بُدنة.
واختلف في النذر بمعصية هل تجب فيه الكفارة أم لا؟ فقال الجمهور: لا،
وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم؛ ونقل الترمذي
اختلاف الصحابة في ذلك واتفقوا على تحريم النذر في المعصية , واختلافهم إنما هو
في الكفارة قاله في نيل الأوطار.
وأما الحلف بالطلاق اختيارًا فللعلماء فيه ثلاثة أقوال مشهورة: أشدها أنه يقع
به الطلاق وأخفها أنه لا يقع به شيء ألبتة؛ لأنه عبارة عن تأكيد للكلام وصاحبه لم
يعزم الطلاق ولم يُردْهُ , وأوسطها أنه تجب به كفارة يمين , وليس هذا بموضع
بسط أدلة هؤلاء القائلين وترجيح الراجح منها , وإنما ذكرناه تمهيدًا للكلام في
الإكراه عليه هل يقع أم لا؟ .
اتفق جمهور أئمة المسلمين وعلماء الملة المستقلين من السلف والخلف إلى أن
من أُكْرِهَ على شيء من قول أو فعل فأتى به مُكْرهًا غير مريد له فإنه لا يؤاخذ به
في الجملة، واختلفوا في مسائل من ذلك تعارضت فيها النصوص عند بعضهم أو
رأوا أنه لا يتحقق فيها الإكراه , والأصل في هذه المسألة قوله تعالى في سورة
النحل: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل:
١٠٦) الآية؛ فجعل الكفر بالله بالإكراه من مطمئن القلب بالإيمان غير مؤاخذ به ,
والكفر أعظم الآثام وأشدها عقابًا فما دونه أولى بأن لا يؤاخذ المكره عليه، وكذا
قوله تعالى في إكراه الإماء على البغاء {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: ٣٣) أي لا يعاقبهن على الزنا بالإكراه.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه (أحكام القرآن) في تفسير الآية
الأولى: فذكر استثناء من تكلم بالكفر بلسانه عن إكراه , ولم يعقد على ذلك قلبه ,
فإنه خارج عن هذا الحكم معذور في الدنيا مغفور له في الأخرى.
ثم قال في سياق تفسير المكره: وقد اختلف الناس في التهديد , هل هو إكراه
أم لا؟ والصحيح أنه إكراه , فإن القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلا
قتلتك أو ضربتك أو أخذت مالك أو سجنتك , ولم يكن له من يحميه إلا الله , فله أن
يقدم على الفعل ويسقط عنه الإثم في الجملة إلا في القتل , فلا خلاف بين الأمة أنه
إذا أكره عليه بالقتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره , ثم ذكر الخلاف في
الزنا أيضًا , وقول من قال: إنه لا يتحقق فيه الإكراه؛ لأنه شهوة غريزية إلخ.
ثم قال: لما سمح الله تعالى في الكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه , ولم
يؤاخذ به ولا ترتب حكم عليه , وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء (رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه
صحيح باتفاق من العلماء [١] ، ولكنهم اختلفوا في تفاصيل (منها) قول ابن
الماجشون في حد الزنا وقد تقدم , (ومنها) قول أبي حنيفة: إن طلاق المكره يلزم
لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا , وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل , وهذا
قياس باطل فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راضٍ به , والمكره غير راضٍ ولا نية
له في الطلاق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ولكل
امرئ ما نوى) .
ثم قال: من غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث في
اليمين هل يقع به الإكراه أم لا , وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم لا كانت هذه
المسألة ولا كانوا هم، وأي فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها
لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع؟ فاتقوا الله وارجعوا بصائركم، ولا تغتروا
بذكر هذه الرواية، فإنها وصمة في الرواية) اهـ.
أقول: أما حديث: (ثلاث جدُّهن جِدٌّ وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)
الذي استدل به الحنفية في هذه المسألة , فقد رواه أصحاب السنن إلا النسائي وقال
الترمذي: حسن غريب، وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك قال النسائي
فيه: منكر الحديث ووثقه غيره وله شواهد أضعف منه.
وقد رد الجمهور استدلال الحنفية بعمومه على وقوع طلاق المكره من وجوه
غير ضعفه أقواها أنه لو كان صحيحًا لما صلح معارضًا لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} (النحل: ١٠٦) ودلالتها على عدم الاعتداد بطلاق
المكره ويمينه ونذره بالأولى، (ومنها) الأحاديث الواردة في ذلك كحديث (لا
طلاق ولا إعتاق في إغلاق) والإغلاق الإكراه كما نقله الحافظ , وقال: إنه
المشهور رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة , وكذا أبو يعلى
والحاكم وصححه , وفي إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح ضعّفه أبو حاتم وذكره
ابن حبان في الثقات , ولكن رواه البيهقي من غير طريقه , وكحديث (رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم في
المستدرك من حديث ابن عباس وفي إسناده مقال , وقد حسنه النووي , وفي معناه
آثار تُقَوِّيهِ سنذكر بعضها وأقل ما يقال في هذه الروايات: إنها مخصصة للحديث
الذي ذكروه ومنها حديث النية. قال البخاري في كتاب الطلاق من صحيحه:
(باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط
والنسيان في الطلاق والشرك وغيره) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما
الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) .
ثم قال فيه: وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق , وقال: ابن
عباس طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. قال الحافظ ابن حجر في شرحه
لعنوان الباب: اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على
العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث؛ لأن غير العاقل
المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل , وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على
الشيء.
ثم قال الحافظ: وقد اختلف السلف في طلاق المكره فروى ابن أبي شيبة
وغيره عن إبراهيم النخعي أنه يقع قال: لأنه شيء افتدى به نفسه وبه قال أهل
الرأي (يعني الحنفية) , وعن إبراهيم تفصيل آخر إنْ وَرَّى المكره لم يقع وإلا
وقع , وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص وقع وإن أكرهه السلطان فلا؛ أخرجه
ابن أبي شيبة , ووجه بأن اللصوص من شأنهم أن يقتلوا من يخالفهم غالبًا بخلاف
السلطان.
(قال) : وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع فيه , واحتج عطاء بآية
النحل {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل: ١٠٦) قال عطاء:
الشرك أعظم من الطلاق. أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح، وقرره الشافعي
بأن الله تعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه , وأسقط عنه أحكام الكفر ,
فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إذا سقط سقط ما دونه بطريق
الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة
اهـ كلام الحافظ.
وقال الإمام الشوكاني في شرح حديث (لا طلاق في إغلاق) من كتابه (نيل
الأوطار) ما نصه: وقد استدل بهذا الحديث من قال: إنه لا يصح طلاق المكره ,
وبه قال جماعة من أهل العلم حكى ذلك في البحر عن علي وعمر وابن عباس
وابن عمر والزبير والحسن البصري وعطاء ومجاهد وطاوس وشريح
والأوزاعي والحسن ابن صالح والقاسمية والناصر والمؤيد بالله ومالك
والشافعي، وحكي أيضًا وقوع طلاق المكره عن النخعي وابن المسيب والثوري
وعمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وأصحابه، والظاهر ما ذهب إليه الأولون إلخ
يعني أن الصواب قول الجمهور وشَرَعَ في الاستدلال عليه.
وحاصل ما تقدم أن من حلف بالله أو بالطلاق مكرهًا لا تنعقد يمينه , ولا
يجب عليه به شيء سواء كان اليمين بالله تعالى أو بالطلاق , وأن هذا ما كان عليه
جمهور المسلمين من الصحابة والتابعين والعترة النبوية وأئمة الأمصار، وأن أدلتهم
عليه الكتاب والسنة والقياس الصحيح , فالمطلوب من كل ذي دين أن لا يمنعه ذلك
عن النصح لأمته ووطنه , وعلى المستفتين لنا وأمثالهم أن ينصحوا لأمتهم بانتخاب
من يرونه أصلح للقيام بأعباء النيابة عن الأمة , وأقدر عليها وأخلص فيها {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .
***
بدعة الحلف بالطلاق وحكمه
(س٢٨) من سائل كَنَّى عن نفسه بكلمة مستفهم , فأجبت عنه بما يعلم منه
معنى السؤال , وهذا نص الجواب كما نشر في الأهرام إجابة لطلبه.
سألني سائل (مستفهم) عن بدعة الحلف بيمين الطلاق هل أحدثها الحجاج
بن يوسف الظالم المشهور أم لا؟ وما حكمها؟ وهل قال أحد من الفقهاء: إنه يجب
بها كفارة يمين؟ إلخ وُجِّهَ إليَّ هذا السؤال في جريدة الأهرام أولاً فرأيت أن ما
يتعلق منه بالحكم الشرعي قد سبق لي بيانه في الفتوى التي نشرت في الأهرام ,
جوابًا لمن سألوا عن حكم الإكراه على اليمين بالله وبالطلاق , وإنني لست مكلفًا أن
أضيع وقتي في كتابة المسائل التاريخية التي يسهل على كل قارئ أن يراجعها في
مواضعها , ثم كَتَبَ إليَّ هذا السائل كتابًا خاصًا وصل إليَّ اليوم (١٥ شعبان)
علمت منه أن ما ذكرته في الفتوى الأولى من خلاف العلماء في يمين الطلاق , لم
يفهمه كل أحد حق الفهم لذكره مختصرًا؛ فرأيت أن أجيب عن السؤال بقدر ما أرى
من الفائدة بالبينات التي تطمئن بها القلوب، والنقول التي تستنير بها البصائر، لا
بالدعاوي التقليدية التي اعتاد الكثيرون من الشيوخ أن يحملوا الناس عليها لأنهم
قالوها وعزوها إلى مذاهبهم فأقول:
إن لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - قواعد في العقود واختلاف
المذاهب فيها , ودلائلهم عليها , وبيان الراجح والمرجوح منها، هي غاية التحقيق في
بابها، وقد افتتح القاعدة الخامسة منها وموضوعها (الأيمان والنذور) بالآيات
القرآنية التي تنكر على الناس تحريم ما أحل الله لهم , وجعل الحلف باسمه تعالى
عرضة لمنع البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ والتي تدل على عدم المؤاخذة
باللغو في الأيمان وهو ما لم ينوه الحالف ولم يكسبه قلبه، ثم وضح المقصود من
الباب بمقدمات , وحررها في قواعد مفصلة، وحصر الأيمان في المقدمة الأولى
منها في ست: (١) اليمين بالله (٢) اليمين بالنذر (٣) اليمين بالطلاق (٤)
اليمين بالعتاق (٥) اليمين بالحرام كقوله: عليَّ الحرام لا أفعل كذا (٦) الظهار
الذي هو نوع من تحريم الزوجة بتشبيه الزوج إياها بأمه مثلاً , ثم قال بعد هذا
التقسيم: (وأما أيمان البيعة فقالوا: أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي ,
وكانت السنة أن الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ,
يعقدون البيعة إما كما يعقدون عقد البيع والنكاح ونحوهما , وإما أن يذكروا
الشروط التي يبايعون عليها , ثم يقولوا: بايعناك على ذلك، كما بايعت الأنصار
النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة , فلما أحدث الحجاج حلف الناس على بيعتهم
لعبد الملك بن مروان [٢] بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال؛ فهذه الأيمان
الأربعة كانت أيمان البيعة القديمة المبتدعة , ثم أحدث المستحقون (؟) عن الأمراء
من الخلفاء والملوك وغيرهم أيمانًا كثيرة أكثر من تلك , وقد تختلف فيها عادتهم ,
ومن أحدث ذلك فحسبه إنما ما ترتب على هذه الأيمان من الشر) اهـ.
أقول: ولما جرى العباسيون على بدعة الأمويين في أيمان البيعة , كان ممن
أنكر عليهم من العلماء الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - وقد احتمل الأذى
في سبيل الله تعالى حتى إنه ترك بعد ذلك صلاة الجمعة والجماعة كما ذكره الفقهاء
والمحدثون والمؤرخون.
روى الحافظ أبو نعيم في الحلية أن جعفر بن سليمان ضرب مالكًا في طلاق
المكره. قال ابن وهب وحمل على بعير فقال: (ألا من عرفني فقد عرفني , ومن
لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن عامر , وأنا أقول طلاق المكره ليس بشيء) ,
فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك , فقال: أدركوه وأنزلوه. وفي
تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي: قال: المفضل بن زياد سألت أحمد: من الذي
ضرب مالكًا؟ قال ضربه بعض الولاة في طلاق المكره , وكان لا يجيزه فضربه
لذلك. وروي عن مالك أنه قال: ضربت فيما ضرب فيه سعيد بن المسيب ومحمد
ابن المنكدر وربيعة , ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر وقال الواقدي: حسدوا
مالكًا وسعوا به إلى جعفر بن سليمان وهو على المدينة , وقالوا: إنه لا يرى بيعتكم
هذه شيئًا , ويأخذ بحديث في طلاق المكره أنه لا يجوز فغضب ودعا به , وجرد
ومدت يده حتى انخلع كتفه (قال) : فوالله مازال بعد ذلك الضرب في علو ورفعة ,
وكأنما كانت تلك السياط حليًّا تحلى به. وروى الحافظ أبو الوليد الباجي قال:
حج المنصور فأقاد مالكًا من جعفر بن سليمان فامتنع مالك , وقال: معاذ الله: أي
لم يرضَ بأن يقتص له المنصور من عامله جعفر , وقد نقل خبر عزلته وتركه
للمسجد والجمعة والجماعة غير واحد منهم الشاطبي وابن خلكان في تاريخه.
هذا , ولما بلغ شيخَ الإسلام مسألةُ الحلف بالطلاق ذكر أنها لم يرد فيها شيء
عن الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنها لم تكن حدثت في زمانهم , وإنما ابتدعها
الناس في زمن التابعين , فاختلفوا فيها هم ومن بعدهم , وقد أطال في بيان هذا
الخلاف ودلائل المختلفين فيه ومفاسد القول بوقوع الطلاق , وخروجه بالملة السمحة
عما وصفها الله تعالى به من اليسر ورفع الحرج، والحيل التي جعلوا بها آيات الله
هزؤًا، ولا يمكن نقل شيء من كلامه في أدلة المسألة لطوله وتعلق بعضه ببعض،
ولكنه ذكر الخلاف في فتوى مختصرة منشورة في أول المجلد الثالث من فتاواه قال
فيها ما نصه:
(وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال: (أحدها) إذا حنث لزمه ما حلف به
(والثاني) لا يلزمه شيء (والثالث) يلزمه كفارة يمين , والقول الثالث أظهر
الأقوال؛ لأن الله قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: ٢) وقال:
{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة: ٨٩) , وثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي موسى
أنه قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتِ الذي هو خير وليكفر
عن يمينه) , وجاء هذا المعنى في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي موسى
وعبد الرحمن بن سمرة، وهذا يعم جميع أيمان المسلمين) .
وقد أطال في إثبات شمول التحلة بالتكفير عن اليمين للحلف بالطلاق في
رسالة قواعد العقود , التي أشرنا إليها بما ينبغي أن يراجعه من شاء ذلك , والعمدة
فيه ما ورد في سبب نزول آية التحريم , ونكتفي بأهم ما ورد فيه وأصحه من
صحيح البخاري وشرحه الفتح فقط: روى البخاري في صحيحه أن ابن عباس قال
في الحرام يكفر , وقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: ٢١) قال الحافظ ابن حجر في شرحه من كتاب التفسير: أي إذا قال
لامرأته: أنت عليّ حرام , لا تطلق وعليه كفارة يمين، وذكر من زيادة رواية
أخرى عنه: إذا حرم امرأته ليس بشيء (قال) : والغرض من حديث ابن عباس
قوله فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: ٢١) فإن فيه
إشارة إلى سبب نزول أول هذه السورة وإلى قوله فيها: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: ٢) وفي بعض حديث ابن عباس عن عمر في القصة الآتية:
فعاقبه الله في ذلك , وجعل له كفارة اليمين , ثم ذكر الحافظ القولين في تحريم
ما أحل الله له وهو شرب العسل عند زينب أم المؤمنين أو تحريم مارية القبطية
على نفسه (قال) : ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال:
(حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة لا يقرب أمَته وقال: وهي علي
حرام) , فنزلت الكفارة ليمينه , وأمره أن لا يحرم ما أحل الله له , وذكر غير هذه
الرواية في المسألة.
ثم عاد إلى ذلك في شرح حديث ابن عباس من كتاب الطلاق من البخاري،
ومما جاء فيه قوله: قال زيد بن أسلم فقول الرجل لامرأته: أنت علي حرام - لغو
وإنما تلزمه كفارة يمين , وحقق أن قوله: ليس بشيء - معناه ليس بطلاق. أقول:
وأيًّا ما كان سبب نزول الآية , فليس المراد بالأيمان فيها الحلف بالله بل تحريم
الحلال سماه يمينًا , وجرى على هذا عرف الناس قديمًا وحديثًا وإن اختلفوا في
وقوع اليمين بالطلاق وعدمه , وإذ كانت الآية عامة فهي حجة للقائلين بالكفارة
وعدم وقوع الطلاق , وهذا ما أطال شيخ الإسلام في بيانه , وله أدلة أخرى إذا
كانت اليمين على تأكيد فعل , أو ترك منها أمر النية فإن الحالف لا يريد به طلاق
زوجته وخراب بيته قطعًا , وإنما يريد التأكيد كما لو حلف بالله تعالى سواء , ولفظ
عليَّ الحرام أو امرأتي عليَّ حرام بدون قوله: إن فعلت كذا أقرب إلى عزم الطلاق ,
ومع ذلك وقع الخلاف فيه على أقوال كثيرة لخصها الحافظ ابن حجر في شرح
ترجمة الباب الذي ذكرنا حديث ابن عباس فيه بقوله:
قوله: (باب من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام وقال الحسن نيته) أي
يحمل على نيته، وهذا التعليق وصله البيهقي , ووقع لنا عاليًا في جزء محمد بن
عبد الله الأنصاري شيخ البخاري قال: حدثنا الأشعث عن الحسن في الحرام: إن
نوى يمينًا فيمين , وإن طلاقًا فطلاق، وأخرجه عبد الرازق من وجه آخر عن
الحسن، وبهذا قال النخعي والشافعي وإسحاق وروي نحوه عن ابن مسعود وابن
عمر وطاوس وبه قال النووي , ولكن قال: إن نوى واحدة فهي بائن , وقالت
الحنفية مثله , لكن قالوا: إن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة , وإن لم ينوِ طلاقًا فهي
يمين ويصير موليًّا. وهو عجيب والأول أعجب.
(وقال الأوزاعي وأبو ثور يمين الحرام يُكَفِّرُ: (أي بكفارة اليمين بالله) ,
وروي نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس،
واحتج أبو ثور بظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم: ١)
وسيأتي بيانه في الباب الذي بعده.
(وقال أبو قلابة وسعيد بن جبير: من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، لزمته
كفارة الظهار، ومثله عن أحمد ... وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يكون مظاهرًا
ولو أراده , وروي عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر والحكم وابن أبي ليلى:
في الحرام ثلاث تطليقات ولا يُسأل عن نيته. وبه قال مالك. وعن مسروق
والشعبي وربيعة لا شيء فيه، وبه قال أصبغ من المالكية.
(وفي المسألة اختلاف كثير عن السلف , بلغه القرطبي المفسر إلى ثمانية
عشر قولاً وزاد غيره عليها , وفي مذهب مالك فيها تفاصيل يطول استيعابها) اهـ
تلخيص الحافظ , ثم ذكر مدارك ما تقدم من الأقوال، وحسبنا هذا في الجواب،
وسنفصله في المنار إن شاء الله تعالى وهو الموفق للصواب.
هذا ما أجبت به , ونشر في جريدة الأهرام , وأزيد هنا مما نقله الحافظ عن
القرطبي ما نصه: قال بعض علمائنا: سبب الاختلاف أنه لم يقع في القرآن
صريحًا ولا في السنة نص ظاهر صحيح يعتمد عليه في حكم هذه المسألة , فتجاذبها
العلماء فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال: لا يلزمه شيء , ومن قال: إنها يمين أخذ
بظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: ٢) بعد قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم: ١) , ومن قال:
تجب الكفارة , وليست بيمين بناه على أن معنى اليمين التحريم , فوقعت الكفارة
على المعنى , ومن قال: تقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على أقل وجوهه الظاهرة
وأقل ما تحرم به المرأة طلقة تحرم الوطء ما لم يرتجعها , ومن قال: بائنة
فلاستمرار التحريم بها ما لم يجدد العقد , ومن قال ثلاثًا حمل اللفظ على منتهى
وجوهه , ومن قال: ظهار نظر إلى معنى التحريم , وقطع النظر عن الطلاق
فانحصر الأمر عنده في الظهار والله أعلم اهـ.
أقول: وقد ظهر ببيان مدارك هذه المذاهب وأدلتها أن أقواها الثاني الذي هو
الأخذ بظاهر القرآن , وهو أن من حرّم امرأته بقوله: هي عليه حرام مطلقًا أو
مقيدًا بقوله: إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا - فالواجب عليه كفارة يمين وهو الذي
فرضه الله في تحلة جميع الأيمان - وهو لا يعارض هذا الظاهر من كتاب الله
بشيء من تلك التعليلات وأقواها البراءة الأصلية , وهي أنه لا يقع عليه شيء ولا
يجب عليه شيء، والتزام كفارة اليمين أقوى وأحوط , فعسى أن تقرر الحكومة
المصرية العمل بهذا , وكذا سائر الحكومات الإسلامية ذلك , والله الموفق.