للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوهابيون والحجاز
عود على بدء

المقالة الثانية [*]
بينا حقيقة الحال التي كان عليها صاحب نجد عند عقد المعاهدة , التي نشرها
في هذه الأيام الملك فيصل؛ ليثبت بها أنه قد سبقه وسبق أباه وأخاه عبد الله في
جعل بلاده تحت حماية الإنكليز , وقام أنصارهم يقولون في دعايتهم لهم: إنهم إذا
لم يكونوا خيرًا منه في هذا فهم مثله , فما وجه تفضيله عليهم؟ ولماذا ينتصر له
العالم الإسلامي , ويود جعل الحجاز تابعًا له من دونهم؟ فعلم بذلك بعض الفَرْق
الجلي بين عملهم في إضاعة أكثر البلاد العربية , وعمله في وقاية ملكه من السقوط
بغزو الإنكليز له من الخارج , وغزو ابن الرشيد له من الدخل , في مقابلة
الاعتراف لهم بأمور سلبية , يذهب بأثرها الزمان , وسنبين هذا الفرق من سائر
وجوهه بعد إنجاز ما وعدنا به من بيان مضمون مواد هذه المعاهدة , ومن الكلام
عليها من الجهة العامة , فيعلم من لم يدرس هذه المسائل أن هذا البيت الحجازي لم
يعتبر بشيء من التجارب والرزايا التي نزلت بالأمة التي تصدى لزعامتها , والتي
نزلت بجميع زعمائه هو أيضًا , وأنه لا يزال يطمع في إضلال الأمة العربية
وجميع الشعوب الإسلامية , وإيهامهما بالدعاية الكاذبة أن الذين سلّوا سيوفهم مع
الأجانب وقاتلوا معهم حتى مَلّوكهم بلاد العرب من حدود مصر إلى خليج فارس
خير للإسلام وللعرب , ممن أسس لهما ملكًا جديدًا ليس لأجنبي ما أدنى نفوذ فيه ,
ثم أنقذ الحجاز من السيطرة الأجنبية , والمظالم الطاغوتية؛ ليجعل الأمر فيه لأهله
وللمسلمين دون غيرهم , وهاك مضمون مواد المعاهدة كما نشرتها جميع الجرائد
المشهورة.
١- مضمون المادة الأولى اعتراف الحكومة البريطانية بأن نجدًا والحسا
والقطيف والجبيل وملحقاتها وثغورها (موانيها ومرافقها) على سواحل خليج العجم
كلها تابعة للأمير عبد العزيز بن السعود كما كانت لآبائه من قبل , وأنه هو حاكمها
المستقل والرئيس المطلق على جميع قبائلها , واعترافها أيضًا بأنها ستكون موروثة
لأولاده وأعقابه من بعده , ولكنها قيدت هذا الاعتراف بأن يكون الأمير اللاحق
مختارًا من الأمير السابق (فيخرج من كان متغلبًا عليه) وأن لا يكون خصمًا معاديًّا
للحكومة البريطانية بمخالفتها لشروط هذه المعاهدة فقط.
نقول: إن هذه المادة نص في مصلحة ابن السعود , فإن الدولة البريطانية
اعترفت له فيها بالاستقلال المطلق في هذه البلاد كلها , وكان قريب العهد
بالاستيلاء عليها , ولو قالت: إن ثغور نجد وبلاد الحسا كانت للدولة العثمانية ولي
الحق باحتلاله ماذا كان يفعل؟ وأما تقييد اعترافها باستقلال من بعده من أولاده
وأعقابه بقبولهم هذه المعاهدة فلا يضره , فإن معاهدته لما كانت لا تلزم من يخلفه
اشترط الإنكليز فيه هذا الشرط , ولا يجب على خلفه قبوله بنص هذه المعاهدة كما
يعلم من أصول القوانين الدولية , فإذا كان الخلف في غنى عن الاعتراف بهذه
المعاهدة لم يعترف بها , لا كما يزعم إجراء الدعاية الحجازية من أن هذا تقييد لمن
بعده بالإخلاص للإنكليز كما عبّر بعضهم (! !) .
٢- مضمون المادة الثانية أن الدولة البريطانية تلتزم أن تساعد ابن السعود
وذريته على أي دولة أجنبية تعتدي على بلادهم , إذا كان هذا الاعتداء بدون علمها
ولا إعطائها الوقت الكافي لمراجعة سلطان البلاد ومذاكرته في إزالة الخلاف
المسبب للاعتداء , وقيدت هذه المساعدة برأي ابن السعود , وهذه المادة في
مصلحته , ولا تخل باستقلاله أيضًا.
٣- مضمون المادة الثالثة أن ابن السعود يلتزم أن لا يعقد اتفاقًا ولا معاهدة مع
أي حكومة أو دولة أجنبية , ويعد بعدم معارضة أحد في ذلك , ويلتزم إعلام
الحكومة البريطانية بكل تجاوز أو تعدٍّ على شيء من بلاده التي ذكرت في هذه
المعاهدة.
هذه المادة منافية لمصلحة ابن السعود؛ لأنها قُيِّد للاستقلال , وإنما سهل
قبلوها عليها - إن صح نصها - ما كان عليه من حياة العزلة وعدم نية الارتباط ,
والاتفاق مع أحد من الحكومات والدول , ولما شعر بالحاجة إلى الاتفاق مع السيد
محمد علي الإدريسي نقض هذه المادة واتفق معه اتفاقًا كتابيًّا , ثم فاوض الإمام
يحيى , واتفق معه على أمور لم تنشر بعد , فثبت بهذا أنه غير مقيد بما يراه مخالفًا
لمصلحته منها.
٤- مضمون المادة الرابعة أن ابن السعود يلتزم أن لا يبيع ولا يرهن ولا
يؤجر ولا يتخلى عن شيء من أراضي بلاده التي ذكرت في هذه المعاهدة , ولا
يمنح امتياز لدولة أجنبية , أو لأحد من رعايا دولة أجنبية بدون رضى الحكومة
البريطانية , وبأن يتبع في ذلك نصائحها التي لا تضر بمصالحه.
هذه المادة منافعة لمصلحة ابن السعود من حيث هي مقيدة لاستقلاله فقط ,
وإنما سهل عليه قبلوها اعتقاده أنها من تحصيل الحاصل؛ لأنه لا ينوي أن يجعل
لأية دولة أجنبية حقًّا من حقوق الملك , ولا الامتياز ولا غيره في بلاده , وهذا عين
المصلحة له ولبلاده , بشرط أن يشمل الدولة البريطانية ورعاياها كسائر دول
الإفرنج؛ لأنهم إذا دخلوا بلادًا , وصار لهم حقوق فيها , أذلوا أهلها , وافتاتوا
عليهم , وسلبوهم استقلالهم , وقد نصح شيخ حكماء العصر الفليسوف الإنكليزي
هربرت سبنسر لليابانيين بأن لا يُدخلوا الإنكليز في بلادهم لمساعدتهم على تنظيمها
وعمرانها , وعلل لهم ذلك بأنهم إذا دخلوا لا يخرجون , وأرشدهم إلى الطريق
المثلى , وهي أن يرسلوا من أبنائهم من يتعلمون ما يحتاجون إليه حيث يجدونه من
أوربة , ليعودوا , ويتولوا الإصلاح بأنفسهم , وقد قبلوا نصيحته فأرسلوا إلى
الغرب من تعلموا ما يحتاجون إليه من فنون الحرب والعمران والثروة والصناعات
التي تتوقف عليها القوة والسيادة , خلافًا لِمَا فعل مَن عَنُوا من الشرقيين باقتباس
عادات الإفرنج وأزيائهم وقوانينهم , فكان ذلك سببًا لإضاعة استقلالهم (إياك أعني
واسمعي يا جارة) .
وقد كان فيما وضعناه مع أصدقائنا مؤسسي قواعد (الجامعة العربية) قبل
الحرب العامة أنه لا يجوز لأحد من أمراء جزيرة العرب أن يمنح دولة أجنبية شيئًا
من رقبة البلاد ولا منافعها , ولا لأحد من رعاياها , ولكن الدولة البريطانية أرادت
حصر هذه المنافع في رعاياها أو حكومتها؛ لأنه توطئة لاستعمار البلاد والسيادة
فيها , بل هو الطريق المعبد له دون الحرب , فلا يجوز لحكومة شرقية أن تبيحه
في بلادها طمعًا في الربح منه , لا بعد أن تصير ذات قوة حربية تخولها أن تشترط
على الأجانب الذين يدخلون بلادها أن يكونوا فيها خاضعين لشرعها ونظمها , نافذة
فيهم أحكامها , وأن تشترط عليهم في عقد الامتياز أو الامتلاك من الشروط الواقية
للبلاد من تعدي دولهم ما هي قادرة على تنفيذه.
٥- هذا ما يتعلق بالاستقلال إطلاقًا وتقييدًا من مواد هذه المعاهدة والمادة
الخامسة منها خاصة , بإبقاء الطرق الموصلة إلى البلاد المقدسة من نجد وملحقاتها
مفتوحة , والمحافظة على الحجاج الذين يسلكونها , وذكرها في هذه المعاهدة من
الرياء والفضول البريطانيين , والمادة السادسة في التزام ابن سعود عدم الاعتداء
على حكومات جيرانه من عرب البحرين والكويت وقطر وعمان، والمشايخ الذين
تحت الحماية البريطانية.
وخلاصة القول في هذه المعاهدة: إنها كانت على علاتها في مصلحة ابن
السعود , وأنه لا يوجد عاقل منصف يعرف ما كانت عليه حاله وحال بلاده عند
عقدها , يقول: إن عدمها كان خيرًا منها , وكل ما أمكننا انتقاده منها هو أن
الإنكليز ربما كانوا يرضون من ابن السعود بما دون هذه القيود كلها , مع إقناعهم
بحسن نيته , لو كان أشد في مساومته وألحن بحجته (إن نظن إلا ظنًا وما نحن
بمستيقنين) .
وأما الحال التي أشرنا إليها هنا فهي ما ذكرناه بالإيجاز من قبل , وهي أنه
كان لآل سعود إمارة في نجد , عظم شأنها الديني والدنيوي بالإصلاح الذي قام ودعا
إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب , فنهضوا به نهضة أشبهت نهضة العرب في
صدر الإسلام , حتى توقع المؤرخون وأهل الرأي في الشرق والغرب بأن يعود بها
عهد الخلفاء والأولين قوة ومجدًا وإصلاحًا وحضارة , فكان أول من ناصبها العداء
أمير مكة الشريف غالبًا , وهو الذي أغرى بها الدولة العثمانية , وافترى عليها
المطاعن الدينية , وما زالت تناوئها وتقاتلها وتساعد ابن الرشيد عليها حتى استولى
على عاصمتها ولجأ أميرها الإمام عبد الرحمن الفيصل بأولاده إلى الكويت , فأقاموا
ضيوفًا على شيخها ابن الصباح إلى أن نهض نجله عبد العزيز هذا نهضته التي تعد
من نوادر تاريخ الرجال , فاستعاد الإمارة التي كانت لوالده , ثم استرد ما كان بيد
الدولة العثمانية منها , وكان من أمر دخول الدولة في الحرب الكبرى ما ذكرنا في
المقام الأولى , فلو لم يعقد مع الإنكليز هذه المساعدة لزعموا أن هذه البلاد للدولة
العثمانية , واحتلوا سواحلها , وأعانوا ابن الرشيد وغيره على مناجزتها من الداخل
بل كان منهم من يغريه بابن السعود مع اتفاقه معهم كما ثبت هذا عنده! !
على أن هذه القيود المنتقدة من المعاهدة لا تجعل للإنكليز أدنى حق في التدخل
الفعلي في شؤون البلاد - ولا تعترف لهم بالسيادة ولا حماية عليها - كما اعترف لهم
الشريف حسين بحق الحماية والتدخل الفعلي- ومثل هذه المعاهدات تكون مؤقتة
بطبعها , وقلما تتجاوز العاشرة من عمرها , والعبرة بما يحصل بالفعل من ثمرة
عقدها في زمن اقتناع المتعاقدين بالحاجة إليها , ثم يتبع كل منهما بعد ذلك الزمن
مصلحته , والمدار في جميع الأمور السياسية على القوة وما يسمونه (الأمر الواقع)
فالذي استفاده الإنكليز من هذه المعاهدة بالفعل هو أن ابن السعود لم يقاتلهم مع
الدولة العثمانية , والذي استفاده هو منهم: (١) اعترافهم له ولذريته بأنهم
أصحاب هذه البلاد وحكامها. (٢) عدم الاستيلاء على شيء منها كما استولوا
على فلسطين وسورية والعراق , فهو لولا اتقاء هياج العالم الإسلامي لاستولوا على
الحجاز. (٣) تأمين معيشة بلاده في عسرة سني الحرب (٤) تمكنه من
القضاء المبرم على إمارة ابن الرشيد التي كانت تتهدده في كل حين. (٥)
قبض مئات الألوف من الجنيهات , نظم بها قوة بلاده حتى صارت أعظم قوة في
بلاد العرب , وقد نقض بعد ذلك ما رأى من مصلحته نقضه.
ولو أنه جعل للإنكليز أدنى تدخل فعلي في بلاده باتفاق كتابي أو شفوي لكان
أشد خطرًا عليها من ألف معاهدة تكتب , ولا يعمل بها كما يعلم هذا باليقين من
تاريخهم , ومسألة مصر والسودان أظهرها وأشهرها.
(فإن قيل) : إن هذه العاهدة قد تمكنهم من العبث باستقلاله والتدخل العملي
في شؤونه , بحجة نقضه لبعض شروطها , (قلنا) : إن هذه أمور تتبع المصلحة
وتراعى فيها القوة , ومتى عزم القوي على شيء لا تعوزه الوسيلة , وليس في هذه
المعاهدة نص على جواز العبث باحتلال البلاد النجدية أو التدخل في شؤونها
الداخلية , إذا ترك سلطانها الوفاء بشيء مما التزمه فيها , وإنما يمكن للإنكليز أن
يَحُولُوا دون تنفيذ أي نقض للمادة الرابعة , لا يمنع ابن سعود وحده من إعطاء
امتياز لدولة أجنبية أو لبعض رعاياها في تلك البلاد , بل يمنع أي دولة من الدول
نفسها أو رعاياها من الإقدام على التعاقد معه على ذلك , وقد بينا أنه ليس من
مصلحة ابن السعود نقض هذه المادة , ومن المعلوم من سياسة الإنكليز أنهم يقدمون
على حرب شعب حربي مسلح؛ لأجل فتح بلاده أو التمتع بالنفوذ فيها , ولا سيما
مثل بلاد نجد في فقرها , وعدم وجود مرافق الحياة وأسباب النقل فيها , فهي بلاد
لا يعتدى عليها بالقوة العسكرية؛ لأن الخسارة في ذلك أعظم من الربح قطعًا , وإنما
يخشى عليها من تمكن قوة الأجانب ونفوذهم فيما جاورها , وهو ما يخدمهم البيت
الحسيني فيه.
هذا وإن جميع مواد هذه المعاهدة خاصة بالبلاد التي ذكرت فيها بالنص , فلا
يدخل فيها ما استولى عليه ابن السعود بعدها، كبلاد عسير باتفاقه مع الإدريسي ,
فضلاً عن بلاد الحجاز , كما أرجف أهل بيت حسين الحجازي وأجراء دعايته
الكاذبة الخادعة , على أن ابن السعود قد قيد نفسه في مسألة الحجاز بمؤتمر إسلامي
يقرر شكل حكومة الحجاز , فلم يدع ما يدعيه حسين وأولاده من أن الحجاز ملك لهم
يجب أن يكون رهن تصرفهم فيه مطلقًا , لا رأي فيه لأحد من مسلمي العرب ولا
العجم [١] وسنبين في المقالة الثالثة وجوهًا أخرى من الفرق بين أهل هذا البيت
وبين ابن السعود دحضًا لدعاويهم , وإبطالاً لدعايتهم.
((يتبع بمقال تالٍ))