للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتنة الاستغناء عن كلام الله العربي
المنزل بترجمة أعجمية من كلام البشر

بسم الله الرحمن الرحيم
{الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: ١-٢) .
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ
لَهُمْ ذِكْراً} (طه: ١١٣) .
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياًّ لِّيُنذِرَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (الأحقاف: ١٢) .
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً
عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: ٢٧-٢٨) .
{حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ} (فصلت: ١-٣) .
{حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: ١-٤) .
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ
لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: ٧) .
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن
يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا
كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: ١٩٢-١٩٩) .
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: ١٠٢-١٠٣) .
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: ٤٤) .
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} (الرعد: ٣٧) .
(أما بعد) فهذه آيات محكمات هن أم الكتاب في هذا الباب، تجاوزن جمع
القلة إلى جمع الكثرة , وعَدَوْنَ إشارات الإيجاز وحدود المساواة إلى باحة الأطناب،
ينطقن بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التبديل ولا التحويل، بأن
الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي جعله آخر كتبه، على خاتم
أنبيائه ورسله، قرآنًاعربيًّا، وأنه هو الذي جعله قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي
أوحاه قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي فصل آياته قرآنًا عربيًّا، وأن الروح الأمين نزل
به على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، وأنه ضرب فيه للناس من كل مثل،
والمراد بالناس أمة الدعوة من جميع الملل والنحل، حال كونه قرآنًًا عربيًّا غير
ذي عوج، وأنه أمر خاتم رسله أن ينذر به (أم القرى) ومن حولها من جميع
الورى، وأنه على إنزاله إياه قرآنًا عربيًّا للإنذار والذكرى، والوعيد والبشرى،
لعلهم يعقلون ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا أن أنزله حكمًا عربيًّا، وأمر من
أنزله عليه أن يحكم بين جميع الناس بما أراه الله فيه من الحق والعدل، الذي جعله
فيه حقًّا مشاعًا لا هوادة فيه ولا محاباة لقرابة ولا قوة ولا فضل، فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: ١٠٥) اقرأ الآيات من ١٠٤ إلى ١٠٥ من سورة النساء بطولها،
وراجع سبب نزولها، فعلم من هذه الآيات المحكمة أن القرآن هداية دينية عربية، وأنه حكومة دينية مدنية عربية، عربية اللسان، عامة لجميع شعوب نوع الإنسان.
وصلوات الله وتحياته المباركة الطيبة على محمد النبي العربي الأمين، الذي
جعله سيد ولد آدم وفضّله على جميع النبيين والمرسلين، بإكمال دينه بلسانه وعلى
لسانه وإرساله لجميع العالمين، وجعل هداية رسالته باقية إلى يوم الدين، بقوله:
عمت رحمته {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) وقوله
تبارك اسمه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: ١) - وقوله تعالى جده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: ٢٨) وقوله جل جلاله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: ٤٠) وقوله عم نواله فيما أنزله عليه في حجة الوداع يوم الحج
الأكبر {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) .
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر، فبدأ بأم القرى , ثم بما
حولها من جزيرة العرب وشعوب العجم، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد
به ألسنة جميع الأمم، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب والشرع واللغة،
ليكونوا بنعمته إخوانًا لا مثار بينهم للعداوات التي تفرق بين الناس بعصبيات
الأنساب والأقوام والأوطان والألسنة، فكتب صلى الله عليه وسلم كتبه إلى قيصر
الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر بلغة الإسلام العربية ككتبه إلى ملوك العرب
وأمرائهم، وبلغ أصحابه ما أمر الله به أمته من تعميم الدعوة، وبشرهم بأن نورها
سينتشر ما بين المشرق والمغرب، فصدع الصحابة والتابعون لهديهم، وجميع دول
الإسلام من بعدهم، بما أمروا به من نشر هذا الدين بلغته، في كلا قسمي شريعته،
عبادته وحكومته.
فكان الإسلام ينتشر في شعوب الأعاجم من قارات الأرض الثلاث (آسية
وأفريقية وأوربة) بلغته العربية، فيقبل الداخلون فيه على تعلم هذه اللغة بباعث
العقيدة، وضرورة إقامة الفريضة، ولا سيما فريضة الصلاة التي هي عماد الدين،
وأعظم أركانه بعد التصريح بالشهادتين اللتين هما عنوان الدخول فيه، على أنهما
من أعمال الصلاة أيضًا، فكان تعلم العربية من ضروريات الإسلام، عند جميع
تلك الشعوب والأقوام، بالإجماع العلمي العملي، التعبدي والسياسي إلا ما كان من
تقصير دولة الترك العثمانيين، بعدم جعل العربية لغة رسمية للدواوين، كسلفهم من
السلجوقيين والبويهيين، حتى بعد تنحُّلهم للخلافة الإسلامية، ورفع ألويتهم على
مهد الإسلام من البلاد الحجازية، فآل ذلك إلى التعارض والتعادي بين العصبية
التركية اللغوية ورابطة الإسلام، فالتفرق والتقاتل بين الترك والعرب , فإلغاء
الخلافة العثمانية فإسقاط دولة آل عثمان، وتأليف جمهورية تركية العصبية والتربية
والتعليم، أوربية العادات والتقنين والتشريع، وإبطال ما كان في الدولة من
المصالح الإسلامية، كمشيخة الإسلام والأوقاف والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية
وصرحوا بأن حكومتهم هذه مدنية لا دينية، وأنهم فصلوا بين الدين والدولة فصلاً
باتًّا كما فعلت الشعوب الإفرنجية، على أنهم لما وضعوا قانون هذه الجمهورية قبل
التجرؤ على كل ما ذكر، وضعوا في مواده أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام
مراعاة للشعب التركي المسلم، كما وضعوا فيه مواد أخرى تنافي الإسلام , من
استقلال المجلس الوطني المنتخب بالتشريع بلا قيد ولا شرط، ومن إباحة الردة
واستحلال ما حرم الشرع، وظهر أثر ذلك بالقول والفعل، كالطعن الصريح في
الدين والاستهزاء به حتى في الصحف العامة، وكإباحة الزنا والسكر للمسلمين
والمسلمات، وبروز النساء التركيات في معاهد الفسق ومحافل الرقص كاسيات
عاريات، مائلات مميلات - إلى غير ذلك من منافيات الدين.
ولكن هذا كله لم يَرْوِ غليل العصبية اللغوية التورانية، ولم يذهب بحقدها
على الرابطة الإسلامية وآدابها الدينية العربية، بل كان مِن كيدها لها السعي لإزالة
كل ما هو عربي من نفس الشعب التركي ولسانه وعقله ووجدانه؛ ليسهل عليهم
سله من الإسلام بمعونة التربية الجديدة والتعليم العام، بل عمدوا إلى هذه الشجرة
الطيبة الثابت أصلها، الراسخ في أرض الحق والعدل والفضل عرقها، الممتد في
أعالي السماء فرعها، التي تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، عمدوا إليها لاجتثاث
أصلها، واقتلاع جذرها، بعد ما كان من التحاء عودها، وامتلاخ أملودها، وخضد
شوكتها، وعضد خصلتها، بعد أن نعموا بضعة قرون ثمرتها، وإنما تلك الشجرة
الطيبة هي القرآن الكريم الحكيم المجيد العربي المبين، هي الزيتونة المباركة
الموصوفة بأنها لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار , فإذا
مسته نار الإيمان بحرارتها اشتعل نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: ٣٥) .
وإنما أعني بقطع هذه الشجرة المباركة من أرض الشعب التركي محاولة
حرمانه منه، ذلك بأنهم ترجموا القرآن بالتركية لا ليفهمه الترك، فإن تفاسيره
بلغتهم كثيرة، وكان من مقاصد إبطال المدارس الدينية إبطال دراستها، وحظر
مدارسة كتب السنة وكتب الفقه ونحوها؛ لأنها مشحونة بآيات القرآن العربية،
وبالأحاديث النبوية العربية، وبآثار السلف الصالح العربية، وبالحكم والأمثال
وشواهد اللغة العربية، وهم يريدون محو كل ما هو عربي من اللغة التركية، ومن
أنفس الأمة التركية، حتى إنهم ألفوا جمعية خاصة لِما عبروا عنه (بتطهير اللغة
التركية) من اللغة العربية، واقترح بعضهم كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية، وإذا
طال أمد نفوذ الملاحدة في هذا الشعب الإسلامي الكريم فإنهم سينفذون هذا الاقتراح
قطعًا كما نفذوا غيره , حتى استبدل قرآن تركي بالقرآن الذي نزل به الروح الأمين،
على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، المتعبد بألفاظه العربية بإجماع
المسلمين، والمعجز ببلاغته العربية لجميع العالمين، وكونه حجة الله تعالى عليهم
إلى يوم الدين.
أرأيت أيها القارئ هذا الخطب العظيم؟ أرأيت هذا البلاء المبين؟ أرأيت هذه
الجرأة على رب العالمين؟ أرأيت هذه الصدمة لدين الله القويم؟ أرأيت هذا الشنآن
والاحتقار لإجماع المسلمين؟ ورفض ما جروا عليه مدة ثلاثة عشر قرنًا ونصف،
ثم أرأيت بعد هذا كله ما كان من تأثير ذلك في مصر أعرق بلاد الإسلام في الفنون
العربية، والعلوم الإسلامية؟
لقد كان من تأثير ذلك ما هو أقوى البراهين على فوضى العلم والدين،
واختلال المنطق وفساد التعليم، والجهل الفاضح بضروريات الإسلام وشؤون
المسلمين، لقد كان أثر ذلك الجدال والمراء، وتعارض الآراء والأهواء وتسويد
الصحائف المنَشَّرة بمثل ما شوهوها به في مسألة الخلافة، وقد كان يجب أن
تكون مسألة القرآن أبعد عن أهواء الخلاف، للنصوص الكثيرة الصريحة فيها،
وإجماع السلف والخلف العلم والعمل عليها، وعدم شذوذ أصحاب المذاهب والفرق
حتى المبتدعة عنها، فقد كثر الخلاف والتفرق في الدين، وتعددت الأحزاب والشيع
في المسلمين، على ما ورد في النهي عن ذلك والوعيد عليه في الآيات الصريحة،
والأحاديث الصحيحة، وارتد بعض الفرق عن الدين، مع ادعائه بضروب من فاسد
التأويل، وسخافات من أباطيل التحريف، كما فعل زنادقة الباطنية وغيرهم، قبل
أن يَقْووا ويصرحوا بكفرهم، ولم تقُم فرقة تنتمي إلى الإسلام بترجمة القرآن، ولا
ضلت طائفة بترجمة أذكار الصلاة والأذان، لأجل الاستغناء بها في التعبد لله، عن
اللفظ المنزل من عند الله، وإنما قصارى ما وقع من الخلاف فيما حول ذلك من
فروع المسألة، ومن تصوير الفقهاء للوقائع النادرة، أنه إذا أسلم أعجمي مثلاً ,
وأردنا تعليمه الصلاة فلم يستطع لسانه أن ينطق بألفاظ الفاتحة , فهل يصلي
بمعانيها من لغته، أم يستبدل بها بعض الأذكار العربية المأثورة مؤقتًا , ريثما يتعلم
القرآن كما ورد في بعض الأحاديث، أم يصلي بترجمة الفاتحة بلغته؟ نقل الثاني
عن أبي حنيفة وحده مع مخالفة جميع أصحابه له , ونقل عنه أنه رجع عنه إلى
الإجماع، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه عمل به (على أنه لا حجة في عمل
أحد ولا في قوله غير المعصوم) فكان هذا الإجماع العام المطلق مما يؤيد حفظ الله
تعالى للقرآن , أراد ملاحدة الترك أن يبطلوه في هذا الزمان {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (الصف: ٨-٩) .
نشرت الصحف مقالات كثيرة في مسألة ترجمة القرآن , رأيت أقلَّها وذُكر لي
ملخص بعض دون بعض , فعلمت مما قرأت وسمعت أن أكثر ما كتب - إن لم يكن
كله - كان أصحابه بمعزل عن شر البدع التي طرأت في هذه الأيام، ولم يتجرأ
عليها مبتدع آخر منذ ظهر الإسلام، وهو الإتيان بقرآن أعجمي مترجم يستغني به
أهل تلك اللغة عن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى , بحيث لا كسب
للرسول المنزل عليه فيه، ولم يُكلَّف إلا تبليغه كما أنزل إليه بحروفه لا مجرد
معانيه، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخاف أن يفوته شيء عند تلقيه من
الروح الأمين، فأمنه الله تعالى من ذلك بمثل قوله: من سورة الأعلى ٨٧
{سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} (الأعلى: ٦) , وقوله من سورة القيامة ١٦: ٨٥-١٩
{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: ١٦-١٩) .
نعم قد ترك هؤلاء الكاتبون كلهم مكافحة شر بدعة ابتدعت في الإسلام،
وأرهفوا أسنة أقلامهم للجدال في أصل مسألة الترجمة التي حدثت منذ أجيال.
فقد ترجم القرآن لغير المسلمين بعض الذين تعلموا اللغة العربية منهم
كالمستشرقين من الإفرنج لغرضين:
(أحدهما) : للعلماء وهو العلم بما فيه لذاته، كدأبهم في البحث عن كل علم
ودين في العالم.
(وثانيهما) : لدعاة الدين (المبشرين) وهو الاستعانة بها على الطعن فيه
وهم متفاوتون في تراجمهم , فمنهم من ضل عن كثير من المعاني حتى الواضحة
ضلالاً قريبًا في بعض وضلالاً بعيدًا في بعض آخر، كمن ترجم قوله تعالى:
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (وَالعصر: ١-٢) بأن جميع البشر يكونون
بعد الزوال أو قبل غروب الشمس بزهاء ثلاث ساعات في حال رديئة وخسران! !
ومنهم من سدد وقارب في ترجمته إذ وضح بعض الآيات بتعليق يعترف به
باستحالة الترجمة الحرفية بلغته.
وأما المسلمون من العجم الذين خالفوا سنة أمثالهم من السلف فيما كانوا يتقنون
من دراسة اللغة العربية؛ لأجل فَهم الكتاب والسنة، وتعصبوا للغاتهم , واعتمدوا
في فهم النصوص على الترجمة، فكانوا يقرؤون التفاسير العربية حتى الدقيقة
للتعبير منها كتفسير البيضاوي , ويترجمونها بلغاتهم لطلبة العلوم، ومازالوا كذلك،
ومنهم من كتب تفسير الفاتحة وتفسير بعض سور الجزأين الأخيرين بالفارسية؛
لكثرة تلاوتها في الصلوات، فأحبوا أن يفهمها التالون لها، فعل ذلك الشيخ محمد
بن محمود الحافظي البخاري المتوفى سنة ٧٣٢ ويسمى كتابه هذا (تفسير خواجه
محمد بارسا) , ومنهم من فسر القرآن كله تفسيرًا مختصرًا كالشيخ حسن بن علي
الكاشفي الواعظ المتوفى في حدود سنة ٩٠٠ , كتبه بالفارسية وترجمه بالتركية أبو
الفضل محمد بن إدريس البدليسي المتوفى سنة ٩٨٢ , وهنالك تفاسير أخرى
وحواش على بعض التفاسير المشهورة باللغتين وغيرهما.
وقد طبعت في هذا العصر مصاحف في الهند طبع بين سطورها العربية،
ترجمة حرفية للألفاظ باللغة الأوردية، للاستعانة بها على الفهم الإجمالي، ولم
يترجمه مسلمو الهند بلغتهم ترجمة مستقلة تطبع وتقرأ تعبدًا بدلاً من القرآن العربي
المنزل من عند الله كما فعل الترك في هذه الأيام.
نعم ترجمه بعض مسلمي الهند من مبتدعة القاديانية في هذه السنين الأخيرة
باللغة الإنكليزية ترجمة يقولون: إنها أصح من جميع التراجم الإنكليزية - وطبعوها
مع القرآن العربي المنزل - لكنهم أدخلوا بدعتهم فيها كما نقل إلينا المطلعون
عليها من المسلمين، ولذلك لم يأذن شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بنشرها
في القطر المصري كما بسطنا ذلك في مقال آخر من المنار، وكان هذا المنع
هو السبب في إثارة الجدال والقيل والقال عندنا، فإن القاديانية في الهند
والذين انتحلوا ضلالهم بمصر - وهم قليلون - أنكروا ذلك على شيخ الأزهر
فشايعهم بعض الكاتبين ورد عليهم آخرون، ورأينا أن أكثر الكاتبين لا يعلمون أن
الترجمة الإنكليزية الجديدة هي لمسيحية الهند القاديانية الذين يزعمون أن زعيمهم
(غلام أحمد القادياني) هو المسيح الذي ورد في الأحاديث نبأ نزوله قبيل قيام
الساعة , وأنه كان يُوحى إليه من سخافات النثر والشعر ما يعدونه معجزة له , وما
هو إلا سخرية لمن يعقل من أهل اللغة العربية، وأن سورة الفاتحة تدل على
مسيحيته وعلى عدم انقطاع الوحي ببعثه خاتم النبيين، وأنه نسخ فريضة الجهاد
وما يتعلق بها من الأحكام خدمة للإنكليز، بل يزعمون أن الوحي لا يزال ينزل
على خلفائه من بعده، إلخ.
كما رأينا هؤلاء الكاتبين لا يعلمون شيئًا يُعتَدُّ به من أمر ملاحدة الترك
وعداوتهم للغة العربية وأهلها بغضًا في الإسلام - وأنهم يريدون تحويل الشعب
التركي العريق فيه عنه - وأنهم ما ترجموا القرآن إلا ليتوسلوا به إلى ذلك.
فكل ما جاء به المجوزون للترجمة من غير الضالين ببدعة القاديانية المرتدين
قد أيدهم وأيد ملاحدة الترك من حيث لا يدرون، ولو دروا لكانوا من أشد الناس
إنكارًا عليهم، فوقوعهم في فتنة تأييد المرتدين عن الإسلام يؤيد قول من عد معرفة
الناس من الأمور التي تعتبر في المفتي قاله: الإمام أحمد وغيره , وقال المحقق ابن
القيم في بيانه: إن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم , فإن لم
يكن فقيهًا فيه كان فقيهًا في الأمر والنهي , ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح اهـ؛ وهؤلاء الذين تصدوا للإفتاء في هذه المسألة قد فقد
أكثرهم الفقهَيْن وأقلُّهم أحدَهما.
وأما النظريات التي استدلوا بها على جواز الترجمة بل على وجوبها كما
صرح به بعضهم , فأكثرها سخف وجهل فاضح، والذي يستحق أن يبحث فيه منها
هو مسألة الدعوة إلى الإسلام، وما يتعلق بها من أحكام، وسنذكر من ذلك ما لعله
لم يخطر لأحد من هؤلاء المفتين ببال.
وإنا لنعلم أن الترجمة الإنكليزية التي أشرنا إليها يُقصد بها ما يقصده ملاحدة
الترك من ترجمتهم التركية , فإن القاديانية على بدعتهم التي أخرجتهم من جماعة
المسلمين لا يبيحون التعبد بغير اللغة العربية , بل قصدوا بها الدعوة إلى الإسلام
كما يفهمونه، وقد نشر الخوجة كمال الدين الهندي مدير المجلة الإسلامية التي
تصدر باللغة الإنكليزية في لندن (إسلاميك ريونو) لأجل الدعوة إلى الإسلام خطابًا
يخبر فيه العالم الإسلامي بأنهم ترجموا القرآن بلسان الإنكليز , ويريدون طبعه
ونشره مع الأصل (أي القرآن العربي كلام الله) , ويطلب منهم المساعدة المالية
على ذلك , وعلى نشر المجلة، وقد نشرنا دعوته في الجزء العاشر من المجلد
السابع عشر (شوال سنة ١٣٣٢) للمنار (ص٧٩٣-٧٩٥) , وعلقنا عليها تعليقة
وجيزة نصحنا له فيها بأن لا يطبع ترجمة القرآن التي نوه بها إلا بعد عرضها على
جماعة من كبراء العلماء في مصر أو الهند وإجازتهم إياها، وعللنا ذلك بقولنا: فإن
رسالته هذه تدل على ضعفه في اللغة العربية , فيُخشى أن تكون ترجمته كثيرة
الغلط كغيرها، على أن ترجمة القرآن ترجمة تامة تؤدي من التأثير والمعاني ما
تؤديه عبارته العربية ضرب من المحال، وحسب من يترجم القرآن للأجانب أن
يأتيهم بتفسير مختصر سليم من الحشو، وإنما تقوم بذلك الجمعيات لا الأفراد اهـ.
وكان من غرضنا عرض الترجمة على جماعة من كبار العلماء لفتح باب
تحرير هذه المسألة، ثم علمنا أن خوجه كمال الدين ليس هو المترجم، ثم بلغنا أنه
ترك المسيحية القاديانية إلى الإسلام الخالص، وقد صرح في مصر بالبراءة منهم
قولاً وكتابة , ولكنه لا يزال يعتمد على هذه الترجمة في الدعوة إلى الإسلام
كالقاديانية، وقد سبق لنا كتابة أخرى في تعذر ترجمة القرآن على جميع البشر
ومباحث أخرى فيها.
وقد كثرت مطالبة الناس لنا بالكتابة في الموضوع من العلماء والفضلاء الذين
اعتادوا من المنار القول الفصل، والحز في المفصل، على ما يعلم بعضهم من
سبقنا إلى ذلك في مواضع من مجلدات المنار السابقة، ومن اطلاع بعض من كتبوا
في هذه الأيام على ما كنا كتبناه من قبل، وسماع بعضهم منا في ليالي رمضان ما
نراه من خطأ وصواب في المسألة، وإنما يبغي هؤلاء تفصيلاً يدحض الشبهات،
ويجلي الحق بالحجج الناهضة من جميع الجهات، كما فعلنا في مسألة الخلافة
العظمى، وأن ننشر ذلك في بعض الصحف المنتشرة لتذيع في الناس فوعدْنا،
على أننا قد كنا ألممنا بذكر هذه المسألة في الجزء الأخير من المجلد الخامس
والعشرين، ووعدنا فيه بالعودة إلى الكتابة فيها بالتفصيل، وقد كتبنا هذه العجالة
قبل مراجعة ما كنا كتبنا ومراجعة ما حفظنا لدينا من قصاصات الصحف فيما كتبه
أشهر الذين كتبوا في المسألة (ولعلنا نجد فيها من الحق ما لم يوجد فيما وقفنا عليها
من غيرها) , فرأينا أن نجعلها مقدمة لِمَا سنكتبه بعد من التفصيل والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))