للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بطل العرب والإسلام وأندلسهما الجديدة
الأمير محمد عبد الكريم
وقول كاتب أسباني فيه

ركدت عاصفة المعارك بين الدولة الأسبانية والأمير محمد عبد الكريم، وخمد
لهيبها فبقي جل جمرها تحت الرماد من حيث اشتعلت نارها بينه وبين الدولة
الفرنسية في منطقة حكومة المخزن المغربية الواقعة تحت حمايتها، وكان الكثيرون
من الناس سيظنون أنَّ تقحُّم هذا البطل بِصِليِّ هذه النار الحامية سيحرق شهرته
ويقضي على آماله؛ لما لفرنسة من الشهرة الطائرة في فنون الحرب علمًا وعملاً،
ولكن فوزه في حرب الفرنسيس لم يكن دون فوزه في حرب الأسبانيول، بل كان
فوزًا قامت له أعرق أمم في أوربة في الحرب وقعدت، فأسقط قيمة نقدها إلى أسفل
دركة كانت ألقته فيها الحرب العظمى، واضطرها إلي متابعة سَوق الجيوش من
الوطن أرسالاً، واستنفارهم خفافًا وثقالاً، وطفقت صحف العالم تتحدث بدنو الخطر
من فاس وتوقع امتداده إلى الجزائر، هذا على كون أخبار الوقائع لا مصدر له
دونها، ويعلم جميع الناس سنة الدول كلها في إفراغ هذه الأخبار في القوالب
السياسية الموافقة لمصلحتها من كتمان بعض وتمويه بعض، والمنار لا يعنى بنشر
الوقائع الحربية ووصف ميادين القتال، وإنما يدخل في موضوعه ما له شأن في
الانقلابات والتطور الاجتماعي وأسبابه من حوادث التاريخ.
وقد قرأنا في جريدة البيان العربية التي تصدر عن (نيويورك) مقالة لكاتب
أسباني اسمه (إنريك دي مناس) ، نشرها في جريدة (هرالد تربيون) النيوركية،
وصف بها ما عرف وما اعتقد من حرب الأمير محمد عبد الكريم وشؤونه ومقاصده
بعد اختباره الشخصي، إذ كان من الذين شهدوا بعض معارك القتال بينه وبين قومه؛
فرأينا أن ننقل جل هذا المقالة عن عدد البيان الذي صدر في ٢٢ شوال الماضي
الموافق ١٦ مايو (أيار) .
بدأ الكاتب كلامه بمقدمة ذكر فيها أن أخبار القتال في الريف لا يصدر شيء
منها عن معسكر عبد الكريم، بل كلها تصد عن طريق خصوم العرب، فلا يوثق
بشيء منها ولا سبيل إلى معرفة الحقيقة منها إلا لمن يستنبطها من فحوى الكلام،
ويستشفها من لحن القول دون صريحه (وعبر عن ذلك بقراءة ما بين السطور
وهي كناية عصرية غربية صارت مشهورة) وضرب لذلك المثل ببعض الأخبار
الفرنسية المختَلَقَة التي لا تُعقل بحسب الفن العسكري من خسائر العرب وخسائر
الفرنسيس، ولا ينسين القارئ أنه أسٍباني عدو لهم وناصح لفرنسة، ثم قال:
وقد قدر لي أن حاربت عبد الكريم بنفسي من عهد غير بعيد، فأنا لذلك
أعرف بعض الشيء عن نشاط الريفيين وشدة مراسهم، وأشهد علنًا بالقلم واللسان
ببطولتهم، رأيت بعيني أولئك العرب الشجعان يواجهون المدافع الرشاشة،
ويهاجمون رجالها غير مبالين بنيرانها الآكلة حتى كأنها ليست موجودة أو أنها
عديمة الأذى، ومن أجل هذا أقول: إن دعوى الفرنساويين بأن مثل هؤلاء الأبطال
يتراجعون إلى الوراء بسبب خمسين رجلاً من الأقوال المضحكة.
فالمصيبة في هذا هي أن الأمير كان وغيرهم من أهل الغرب الموالين لفرنسة
والمريدين لها الفوز يقبلون على هذه الأنباء كأنها آيات منزلة، ويصدقونها فلا
يجهدون العقول ولو قليلاً للتمييز بين غثها وسمينها أو صدقها وكذبها، وهذا هو
الباعث على خفاء حقيقة الخطر الكبير الذي يهدد كل أوربة من جانب المشكل
المراكشي [١] ؛ ولهذا عقدت العزيمة على كتابة هذا المقال؛ لكي أوضح فيه نيات
الريفيين وما يرمون إليه في ثورتهم هذه من الوجهتين السياسية والدينية.
فالحركة التي يقوم بها عبد الكريم الآن متأتية في أصلها عن البواعث التالية:
لقد كانت فرنسا تسعى من زمن غير يسير إلى موالاة القبائل المراكشية المختلفة،
والاتفاق معها على ترويج المتاجر الفرنساوية هناك وذلك بواسطة الشريف
حرقاوي، وهو زعيم كبير من قبيلة بني مولود، وقد حصرت أكثر قواها في
ترويج هذه السياسة في قبيلة بني زروال المجاورة لقبيلة بني مولود، ثم إن القسم
الأكبر من قبيلة بني زروال تحت زعامة ابن مناله وهو زعيم كثير الطموح صمم
العزيمة عندما وجد نفسه في مركز منيع يخطب وده فيه الفرنساويون من جهة وعبد
الكريم من جهة أخرى على سياسة مزدوجة.
وكان في هذا الوقت أحد مناصري عبد الكريم وهو الفقيه الزهاري قد ناجز
الشريف حرقاوي في وقعات عديدة، لم يكن فيها نصر فاصل لأحدهما، فابن مناله
حافظ على خطة الحياد وهو لكي يقي رجاله من أن يستميلهم الفرنساويون أو
العرب إليهم، ويحفظ ما له من السيطرة عليهم مال إلى استعمال القسوة فيهم؛ فأدى
ذلك إلى تذمر شديد بينهم، فعلم عبد الكريم بذلك؛ لأنه كان يرقبهم بعين ساهرة،
وسعى إلى اغتيال ابن مناله بوسائل مختلفة أهمها الرشوة والوعود التي بذلها لمحبي
الزعامة فيهم.
كان ذلك في شهر مارس (آذار) من هذا العام، فلما تخلص عبد الكريم من
ابن مناله وتمكن بدهائه من إزالة ما للحرقاوي من النفوذ، أدرك أنه قد أصبح في
مركز منيع يساعده على مهاجمة فرنسة؛ فحشد جموعه على ما علمنا قريبًا من تازه
على مسافة ثلاثين ميلاً من فاس شمالاً بشرق، وأرسل كتائب من أنصاره؛ لتعيث
فسادًا في منطقة متالزا الفرنساوية على التخوم التي تفصل بين مراكش الأسبانية
ومراكش الفرنساوية، وكان الفرنساويون قد أنشأوا على مقربة من تازه عدة مراكز
عسكرية، وعمل فرنسة في إنشاء تلك المراكز خطأ فاضح من الوجهة الحربية.
ذلك أن مثل هذه المواقع العسكرية التي عرفت أسبانية بعد فوات الوقت أنها
علة شقائها، والتي أمر المسيطر الأسباني دي ريفيرا بتخليتها في الحال يمكن
قطعها عن مجموع الجيش بسهولة ومحاصرتها ومنع النجدات عنها، ولما كان عبد
الكريم قد عرف باختباراته الماضية ملاءمة هذه المواقع العسكرية لحركاته لم يُضيع
دقيقة من الوقت في التردد في مهاجمتها؛ لعلمه بأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي
يكسبه التفوق (أولاً) لأنها قريبة (وثانيًا) لأن فصلها عن بقية الجيش سهل
للغاية (وثالثًا) لأن أول انتصار يحرزه مهما يكن قليل الشأن ينشط أتباعه،
ويثير في صدورهم روح الشجاعة ويحملهم على المخاطرة والإقدام.
وأنا أعتقد أن المواقع العسكرية الفرنساوية المحصورة المسلحة بمدافع رشاشة
وغيرها عديدة ستتمكن من المقاومة وقتًا طويلاً، ولكن الصعوبة هي في طريقة
تمكن فرنسة من إمدادها بالمؤن والذخائر، فإذا لم يحصل المحصورون على أقوات
جديدة ومياه صالحة للشرب تصير مقاومتهم عديمة الجدوى، وبما أن الريفيين
يدركون هذه الأمور فهم قد زادوا عدد المراقبين للطرق المؤدية إلى تلك المعاقل
لكي يحولوا - مهما كلفهم ذلك - دون وصول أقوات إلى الرجال الذين فيها والذين
يعدهم الريفيون الآن من أسراهم.
وطريقة العرب في الحرب هي أن لا يوجدوا مقاومة رسمية منظمة إلا ما كان
منها في الأقاليم الجبلية أو في الأماكن الملائمة لهم بنوع خاص، فأساليبهم الحربية
منحصرة في الدفاع عن موقف معلوم وقتًا معلومًا عندما يهاجمهم العدو، ومن ثم
ينهزمون منه اختيارًا يوهمون مهاجميهم إمكان الظفر بهم بسهولة، ولكنهم يعودون
ذات ليلة أو في نفس تلك الليلة كأنما قد خرجوا من جوف الأرض، ويقومون
بمهاجمة عنيفة، فهذه الطريقة قد مكنتهم من أعدائهم، وسهلت لهم الحصول على
الغنائم والأسلاب، وتبديد شمل العدو.
فالجيش الفرنساوي المؤلف من ١٢٠٠٠ رجل تحت قيادة الجنرال ليوتي في
الوقت الحاضر لا يكفي لسوى حماية مدينة فاس وأرباضها، على أنه لا يقوى على
الحراك أو على مناهضة عبد الكريم إلا بعد أن تصله النجدات المنتظرة من الجزائر،
وهي فيما يقال: ستكون متراوحة في العدد بين ١٥٠٠٠ و ٢٠٠٠٠ جندي،
وعندها يزحف إلى إنقاذ المعاقل العسكرية المحصورة على أن تلك النجدات سوف
تلاقي صعوبات جمة في الوصول إليه؛ لأنها مضطرة إلى عبور نهر أوترغا،
وهو في هذه الأيام بحالة فيضان يتعذر معها عبوره.
وفي رأيي أن فرنسة لا تَقوى على مواجهة عبد الكريم بما يصون ماء وجهها
في العراك بأقل من أربعين إلى خمسين ألف جندي، ومن المعلوم أن عجز فرنسة
عن مناهضة عبد الكريم وصد هجماته قد أوجدت تأثيرًا سيئًا في نفوس القبائل التي
لا تزال موالية لها، والتي قد تنقلب إلى أعداء في أقل من ارتداد الطرف كما قد
وقع لأسبانية، فإذا جرى هذا يصبح موقف فرنسة في تلك الأرجاء حرجًا كبير
الخطر.
وأنا أعتقد أن فرنسة قد ارتكبت خطأ فظيعًا في غض نظرها عن النكبات التي
لحقت بأسبانية في مراكشها مدة خمس عشرة سنة، فهي فيما أظن قد اعتقدت أن
عبد الكريم بالرغم مما أحرزه من الانتصارات على أسبانية لا تحدثه نفسه بمهاجمة
فرنسة، ففي هذا لم تكن ذات نظر بعيد، وقد كان من حقها أن تدرك أن سَكرة
النصر التي قد تتملك عبد الكريم تحمله يومًا من الأيام على التمادي في إبعاد كل
الأجانب عن بلاده - وهكذا يهاجم فرنسة - تلك أمور قد أدركها كثيرون من زمن
طويل، وأما فرنسة فقد عجزت عن إدراكها.
وإنني على ما يدعيه بعض الفرنساويين من أن العرب يكرهون الأسبانيين
أقول عن اختبار: إنهم يكرهون الفرنساويين أضعاف ذلك، نعم إنهم كانوا يبدون
احترامًا أكثر لفرنسة، ولكن ذلك الاحترام ناتج عن خوف لا عن حب، فالعرب
كما لا يخفى لا يحترمون سوى القوة، وبما أنهم كانوا إلى اليوم يعتقدون أن فرنسة
في مراكش أقوى منهم بالشيء الكثير لم يفكروا في مهاجمتها، وعلى هذا أقول: إن
الفتنة الحالية منظورًا إليها من كل الجهات هي من الحركات العظيمة الأهمية، وقد
تكون أهميتها في هذا الحين غير بادية للعيان إلا أن المستقبل مخيف.
ويمكنني أن أدعي بعض العلم بالخطط التي رسمها عبد الكريم لنفسه،استقيت
ذلك من صديق لي اسمه خوزي دياز، وهو من الناس القلائل الذين زاروا عبد
الكريم في منزله بأكسدير، علمت من هذا الصديق وغيره أن عبد الكريم يفاوض
على الدوام زعماء العالم الإسلامي في كل مكان في العالم، وغرضه من ذلك إيجاد
حركة عدائية ضد كل الدول المسيحية التي تحتل بلدانًا إسلامية، وعبد الكريم يعتمد
في خلق ما يلزمه من القوة على تعصب العرب الديني وهو يؤجج نيرانه ليبلغ من
ذلك مُناه في طرد أسبانية وفرنسة من مراكش [٢] ودعاية عبد الكريم مبثوثة بين
جميع القبائل تدعوهم إلى مناصرته للبطش بالطامعين بأراضي الإسلام، وتؤكد لهم
أنه سيقذف بهم جميعًا إلى البحر.
ومما هو جدير بالذكر أن عبد الكريم ليس بطلاً مجربًا فقط فقد حدثته في
مواضع كثيرة وحدثه غيري كثيرون، فهو رجل واسع الاطلاع وفيه ذكاء ودهاء
وتعقل بمقدار يندر وجود مثله في رجل واحد، والرجل يعتقد أن عليه واجبًا وطنيًّا،
وهو يعرف كل الحوادث المتعلقة بمدة السبعمائة سنة التي سيطر فيها العرب على
أسبانية، وهو وأخوه الذي تلقى فن الهندسة في مدريد قد جالا في كثير من البلدان
المتمدنة، وسكنا زمنًا طويلاً في جنوبي أسبانية.
وفي مدة إقامة عبد الكريم في ذلك الجانب من أسبانية شاهد آثار أمجاد العرب
الباقية في كل مكان من تلك البلاد، ولا سيما في غرناطة، فأثر ذلك فيه أيما تأثير،
وولد فيه نزوعًا إلى محاولة استعادة أمجاد الأجداد، وهو أمر نبيل يشكر عليه
الرجل مهما قيل عن مساوئه وأخطاره، وقد بث هذه الدعوة العربية في كل مكان
بواسطة المشايخ والأئمة الذين يتجولون من مكان إلى آخر، ولهم سلطة معروفة
على العامة.
وقد لقب عبد الكريم نفسه منذ زمن بعيد برئيس جمهورية الريف حتى إنه
ألف وزارة وهو طامح إلى توحيد كل القبائل والشعوب التي هي من جنسه تحت
هيئة حكومة منظمة، ومعلوم أن فرنسة حسب الظاهر لا تحسب حسابًا كبيرًا لفتنة
الريفيين، ولعلها تصبر إلى أن يهب كل سكان مراكش لمناهضتها قبل أن تدرك
وتعترف بأن الحالة موجبة للخوف والاحتساب، على أن المراكشيين فيما أعتقد لا
يخيبون آمالها من هذا القبيل ولكل شيء وقت، والتاريخ مملوء من هذه
النظائر.
ويذكر الذاكرون أن نابليون قد انكسر مرارًا بجيشه المجرب في أسبانية،
حيث حاربه هناك شراذم من الرجال عام ١٨٠٨، وكانوا يجرون في مكافحته على
نفس الخطة التي يجري عليها الريفيون مع الفرنسويين اليوم، وثورة البورس على
إنكلترا هي مثال آخر من تلك الأمثلة، ومثل هذا يقال عن الفتنة في بنجاب من
بلاد الهند [٣] ، ومن المعلوم أن تملُّك المستعمرات البعيدة الشُّقة هو الآن من
الكماليات الموجبة لباهظ النفقات التي تستكبرها أغنى الدول وأقواها.
وقد أصبح الناس في تلك المستعمرات غيرهم بالأمس، فهم يعرفون تاريخ
بلادهم وتاريخ الدولة التي تسيطر عليهم، ويدركون حقوقهم وواجباتهم، خذ مثالاً
لذلك عبد الكريم الذي تلقى العلوم في أسبانية وغيرها، وعاد إلى بلاده ينشر ما
استنتجه من ذلك بين أبناء قومه، فالعلوم التي تلقَّنها كانت بمثابة سلاح قاطع في
أيدي التلاميذ ضد معلمهم، وعبثًا تحاول فرنسة قمع العصيان وإطفاء نائرة الفتنة،
فهي وإن استطاعت ذلك (وهو فيما نرى بعيد) فإنها لم تستأصل أسباب الخروج
وبواعث النواة التي بثها عبد الكريم بين مواطنيه.
وانغلاب العرب في الكفاح ليس من الأمور التي يعبأون بها، فهم إن انهزموا
اليوم يعودون في الغد إلى المناجزة أوفر نشاطًا وأكثر إقدامًا، وما يشيعه ذوو
الأغراض من أن عبد الكريم يقصد بتوجيه حملاته على المنطقة الفرنساوية خدع
الأسبانيول الذين يطمع في إخراجهم من البلاد هو من الأقوال العارية عن الصحة؛
لأن عبد الكريم غير مبالٍ الآن بالمنطقة الأسبانية؛ لأنه يدرك قوة تحصين الأسبان
بعد تراجعهم إلى الوراء، وهو أعقل من أن يهاجمهم في هذا الحين.
فغرض عبد الكريم الحقيقي هو توجيه ضربة شديدة إلى فرنسة حتى إذا بطش
بجيشها يثير عواطف الشعوب والقبائل المراكشية، ويحملها بفوزه على مناصرته،
وحينئذ يحشد من الجيوش ما يمكنه من توجيه الضربات الشديدة إلى فرنسة
وأسبانية معًا، ومن أجل هذا أقول: إنه ما لم تقو فرنسة على إنزال أشد العقاب
بعبد الكريم بالأسرع الممكن، تكون خسارة فرنسة في مراكش عظيمة وسقوط
مهابتها في عيون أهل البلاد سريعًا للغاية؛ لأن عبد الكريم يذيع أنباء انتصاراته في
طول البلاد وعرضها لكي يحمل أهل البلاد على اعتقاد أن سحق فرنسة وأسبانية في
مراكش ليس من الأمور المحتملة فقط بل من الأمور المقررة.
ويجب أن لا ننسى أن المراكشيين إذا حاربوا بعدد قليل من الرجال لا يكون
ذلك ناتجًا عن عدم وجود الرجال عندهم، بل عن عدم وجود الأسلحة، على أن
كفاحهم بالقليل من الرجال يزيل سوء نتائج هذه الحاجة فإن المراكشي إذا حارب
يندفع بشجاعة أو بالحري يتناسى الخوف، والمراكشي الذي يرى رفيقه مجندلاً في
ساحة القتال لا يرتاع ولا يلوي إلى الفرار بل يأخذ مكانه.
والأسلوب الحربي الذي يتمشى عليه عبد الكريم هو أن يتراجع بينما يكون
العدو متقدمًا، حتى إذا وقف العدو عن التقدم يشرع هو ورجاله في اصطياد رجال
العدو واحدًا بعد آخر، وهو فن يحسنه العرب أكثر من كل شعب آخر، ومن
الصعب جدًّا إطلاق الرصاص على المراكشيين؛ لأنهم لا يحاربون مجتمعين بل
أفرادًا أو أزواجًا يتحركون على الدوام، بينما الفرنساويون أو الأسبانيون يزحفون
جماعات تكون أفضل هدف لرصاص عدوهم.
إن المقاتل العربي الفارس لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار، فهو يهجم
كالمارد على صفوف الأعداء إلى أن يصير على مسافة ١٥٠٠ إلى ٢٠٠٠ متر،
ويطلق نيرانه وهو مثابر على الجولان، وهو على الغالب لا يخطئ المرمى حتى
إذا قضى وطرًا يكر راجعًا؛ ليعبئ بندقيته من حيث تطيش طلقات الأعداء
المصوبة عليه فلا تصل إليه، وغني عن البيان أن الطيارات والمدافع لا نفع منها
في هذه الولايات، ولا توجد هناك مدن أو حصون ليضربها العدو ويستولي عليها،
بل أبطال مجربون يصيبون ولا يصابون.
هؤلاء العرب هم جنود مدربون من المهد، وهم يفضلون اصطياد الناس على
اصطياد الوحوش وغيرها، ومن الأقوال المأثورة عنهم: إن أحب الأشياء إلى
العربي في الحياة بندقيته ثم جواده وأخيرًا زوجته التي يعاملها على ما هو مشهور
كما يعامل البهيمة، وهي قلما تترك البيت، فإذا فعلت تخرج مبرقعة، ولا يرى
وجهها إلا سيدها دون سواه [٤] .
والمحارب العربي يكفيه القليل من القوت كحفنة من التين أو التمر تغذوه
النهار بطوله، ولا يعطش ويقوى على الركض مسافات طويلة، ولا يتأثر من الحر،
وإذا حارب العرب حربًا دينية فلا يوجد في جيوش الأرض من يضارعهم؛ ذلك
لما في دينهم من الوعود بالجنة لمن حارب ضد المسيحيين [٥] , فهم ينالون مقابل
هذا الجهاد مكانًا جميلاً في السماء، ويحرزون الجياد المطهمة والسلاح الجميل
والنساء الحسان، ومن أجل هذا فهم لا يخافون من الموت في ساحة القتال [٦] .
وبعكس ذلك الجندي الفرنساوي أو الأسباني الذي لا دين له على الغالب ولا
هو يؤمن بثواب حتى ولا في هذا العالم، ولا بعقاب في الآخرة، ومن أجل هذا
فهو لا يستميت في القتال ولا يتهالك كالعربي، ذلك ما أردت بيانه هنا إيضاحًا
للحالة الراهنة، وهناك أشياء كثيرة مهمة لا تسمح الفسحة بإيرادها، على أن القراء
يدركون من الذي تقدم بيانه راكنة الحركة التي يقوم بها عبد الكريم، وأنها تتطلب
اهتمامًا خاصًّا ودراية وتدبيرًا عظيمًا؛ لإنقاذ غوائلها.
وجملة القول أنه إذا كان عبد الكريم قد نجح في مساعيه بغرس البغضاء في
أذهان مواطنيه للأوروبيين فليس في الدنيا ما يقوى على إزالتها، ومهما أتى
الفرنساويون من آيات القتال، ومهما جردوا من الجيوش فإنهم يعجزون عن
استئصال هذه الفكرة القومية التي ستكلف فرنسة على تمادي الزمن أنهارًا من الدماء
وأنهارًا من الذهب كما كلفت أسبانية.

(المنار)
انتهت المقالة، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذه الكراسة من المنار بأن محمد
عبد الكريم يحارب الآن الدولتين معًا وهو منتصر عليهما.