للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عاقبة الشريف حسين بن علي مع الإنكليز

كتبت في الرحلة الحجازية فصلاً في صفات هذا الرجل وشمائله، وكان ذلك
قبل اليأس من كل خير يُرجى منه لأمته وملته، والجزم بأنه لا يُتَوقع منه إلا الشر،
على أنني لم أكن حرًّا في التصريح برأيي كله فيه عند كتابته، ومع شدة
احتراسي من التصريح بانتقاد ما ينتقد منه، لأنني لم أكن أرى ذلك من المصلحة
ولا من الذوق والأدب، ولأن ذلك كان في عهد المراقبة على الصحف، ولا سيما
المنار، وقد أمرت المراقبة الإنكليزية بحذف بعض الجمل من ذلك الفصل لم تأمر
بحذفه المراقبة المصرية قبلها، وكان ما يكتب في المنار من مسائل الحرب والبلاد
العربية ونحوها يراقَب مراقبة مزدوجة.
وَصَفْتُه في ذلك الفصل بشدة الاستبداد والعناد بسوء الظن وعدم الثقة بأحد،
ولكن جعلت ذلك في معرض مظهره المدح ثم قلت: وقد وقفت منه على آراء
سيكون لها أعظم شأن في سياسته، منها يأسه من الدولة العثمانية، ومنها
(أن له ثقة بالدولة البريطانية وتقديرًا لقوتها وعظمتها لا حد لهما ولا سلطان لشيء
عليهما) وعنيت بهذا أنه لا يمكن تحويله عن شيء من ذلك ببرهان عقلي ولا
سياسي ولا ديني ولا بمراعاة مصلحة قومية إلخ.
ثم كان من مصداق هذا القول فيه أنه رضي لنفسه أن يكون موظفًا بريطانيًّا
في الحجاز، فكان إذا استاء من شيء يطلب من الحكومة الإنكليزية إقالته من ملك
الحجاز وتعيين غيره في مكانه، حتى إنه نشر خبر استقالته في جريدته (القبلة)
ونشر مرة صورة برقية، أرسلها إلى مدير جريدة التيمس، يرجوه فيها بأن يقنع
حكومته بقبول استقالته، ونصح له غيرنا وكنا نصحنا له كغيرنا وأنى يقبل نصيحة
أحد؟ .
فكان عاقبة جهله وغروره واستبداده برأيه أن خذله الإنكليز في كل شيء،
بعد أن نالوا منه ومن أولاده ما ثبت به لكل أحد مطلع على أمرهم وأمر العالم أنهم
خانوا أُمتهم، ونبذوا دينهم وشرفهم وراء ظهورهم في خدمتهم، تعددت أحداث
خذلانهم له هو، وبقي مصرًّا على الاتكال عليهم والثقة بحسياتهم النجيبة، وقد
طرده سلطان نجد من مكة فانهزم إلى العقبة آخر ثغور الحجاز الشمالية، وكان
الإنكليز خدعوه بأن يضم منطقة العقبة ومعان إلى إمارة ولده عبد الله (شرقي
الأردن) ففعل وهو يتخيل أنها من مملكته العربية، وأنه هو الذي ولى نجله
المحبوب عليها! !
ثم كان عاقبة هذه الجناية والخيانة أن أمره الإنكليز بالخروج من هذه المنطقة
والسفر إلى البصرة، حيث أعد له نجله فيصل قصرًا لائقًا بمقامه، فتمنع وقال:
إنه لا يخرج من أرض الحجاز مختارًا، فسررنا بذلك وعزمت على كتابة مقالة في
تأييده والدفاع عنه والاحتجاج على الإنكليز، وكاشفت بعض أصدقائي بذلك، ولكن
لم نلبث أن نُبِّئنا بأنه خضع وخنع عملاً برأي ولده عبد الله، وأبسل نفسه فأرسلوه
إلى جزيرة قبرص حيث أعدت له الحكومة الإنكليزية دارًا لائقة به؛ ليقيم في ظل
عَلمها الظليل، كما اقترح عليها من قبل مرارًا {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا
السُّوأَى} (الروم: ١٠) وإنما العاقبة الحسنى للمتقين، وسنعود إلى تفصيل
القول في هذه المسألة وبيان العبرة فيها.
ونختم هذه الكلمة هنا بإنذار الحكومة البريطانية أن لا تغتر بسوء حال
المسلمين وتواكلهم، فتضم شيئًا من أرض الحجاز إلى ما نسميه منطقة الانتداب،
فقد أصبح جميع الناس يعرفون معنى هذا الانتداب، وشروعها في الاستيلاء على
الحجاز، إن هي تجرأت عليه سيكون مبدأ زوال سلطانها من الشرق الإسلامي إن
شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))