للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أثارة من التاريخ
في حالة نجد قبل الشيخ محمد عبد الوهاب
وما قام به من التجديد والإصلاح

قال الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه (تبرئة الشيخين) : قال أبو بكر حسين
بن غنام - رحمه الله - في تاريخه:
(وقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم، والكل على تلك الأحوال مقيم،
وفي ذلك الوادي مسيم {حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} (التوبة:
٤٨) ، وقد مضوا قبل بدو نور الصواب، يأتون من الشرك بالعجاب، ينسلون
إليه من كل باب، ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب , ويدعونه؛ لتفريج
الكرب بفصيح الخطاب، ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب، {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨) ، وكان ذلك في الجبيلة مشهورًا، بقضاء الحوائج مذكورًا، وكذلك
قرية في الدرعية، يزعمون أن فيها قبورًا، أصبح فيها بعض الصحابة مقبورًا،
فصار حظهم في عبادتها موفورًا، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون {أَئِفْكاً
آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات: ٨٦) ؟ وكان أهل تلك التربة أعظم في
صدورهم من الله خوفًا ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب
الحاجات بهم يبتدون {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٢) ، وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر، ما لا يعهد مثله،
ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب محض وبهتان
مزور، مثله لهم إبليس وصور، ولم يكونوا به يشعرون، وفي بليدة الفدا ذكر
النخل المعروف بالفحال، يأتونه النساء والرجال، ويفدون عليه بالبكور والآصال،
ويفعلون عنده أقبح الفعال، ويتبركون به ويعتقدون وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن
الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجًا قبل أن
يحول الحول، هكذا صح عنهم القول: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: ٤٣) وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك
طوائف وفرق، ويعلقون فيها إذا ولدت المرأة ذَكرًا الخِرقَ لعلهم من الموت
يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل
لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله،
فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير، وكان الله تعالى لها من ذلك السوء مجير،
فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: ٩٥-٩٦) .
ثم ذكر في جميع قرى نجد، من ذلك ما لا يحصى ولا يعد، وكذلك في
الحرمين وفي سواد العرق وبغداد والمجرة والموصل والشام ومصر والحجاز
واليمن ما هو معروف معلوم مذكور في التاريخ، وقد اشتهر ذلك وبلغ مشارق
الأرض ومغاربها، واستفاض ما كان عليه أهل نجد من الكفر بالله والشرك به قبل
دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ودعوته الخلق إلى توحيد
الله وعبادته وترك عبادة ما سواه؛ فاستجاب من استجاب لله رغبة في الحق،
وجاهد في الله من أبى الدخول في دين الإسلام؛ حتى دخلوا في دين الله أفواجًا،
وقد شهد بذلك الخاص والعام، وأقر به الموافق والمخالف، فالحق ما شهدت به
الأعداء.
وقد رأيت في حال تسويد هذا الجواب تاريخًا لبعض المؤرخين من النصارى
في سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف (قال فيه) ما نصه:
***
نجد بعد الرسالة
ومن بعد أن بعث الحكيم (صلى الله عليه وسلم) بالهدى والحق، وانتشر
الدين الإسلامي في هاتيك الربوع، عم بلاد نجد من جملة ما عم، فصار أهلها على
هذه الطريقة المثلى، بيد أن الحوادث التي طرأت على قادة الأمة من بعد أبي بكر
وعمر (رضي الله عنهما) شغلتهم عن مشارفة تلك البلاد فأهملوها، هذا من جهة
ومن الجهة الأخرى أن الحروب والمنازعات والاختلافات شغلت أهل نجد عن
الإمعان في حقائق دينهم، فمرت عليهم السنون الطويلة وهم يحْبُون [١] في الإيمان
والاعتقاد، إلى أن وصل الحال بهم إلى درجة أصبحوا فيها وقد تعددت فيهم الأوهام
والخرافات والاعتقادات الباطلة بالشجر والحجر والنجم وعبادات القبور والعكوف
عليها، والاعتقاد بأهلها النفع والضر إلى غير ذلك مما لأهل العراق فيه اليوم
النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، رغمًا عن انتشار العلم فيه، وبقي أهل نجد في
هذه الحالة وليس لهم سوى الحرب والضرب والاعتقاد الضار بالإنسان دينًا ودنيا
وأخرى، وليس لهم من الدين الحق إلا الاسم وذلك إلى زمن الشيخ محمد بن عبد
الوهاب.
***
نجد في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
نشأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بلدة العينية في حضن والده
عبد الوهاب بن سليمان، فرباه أحسن تربية، ولقنه العلم هو بنفسه، وكان والده
حينئذ قاضيًّا في بلدة العينية من قبل حاكمها الأمير عبد الله بن محمد بن أحمد
المعمري، ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثير المطالعة والتدبر والتفكر
شديد الشوق إلى العلم وطلبه، حدثته نفسه بأن يسير في طلب العلم إلى بلاد أخرى،
فحج ثم سار إلى المدينة فاتصل بالشيخين عبد الله بن إبراهيم مؤلف كتاب
(العذب الفائض في علم الفرائض) والشيخ محمد حياة السندي المدني، فأقام عندهما
مدة ثم رجع إلى نجد، ومن هناك سار إلى البصرة فبغداد وهو في هذه الأثناء
يتزود الكفاية من علم التوحيد والفقه وسائر العلوم، ثم حاول المسير إلى الشام
فمصر، ولكن صده عارض في الطريق، فرجع أدراجه إلى بلاده حاملاً من زاد
العلم ما لم يتيسر لأحد غيره في وقته، ثم ذهب لرؤية والده وكان يومئذ في حريملا،
وسبب تحول الوالد إلى هذه البلدة؛ هو أنه في غياب الشيخ محمد توفى الله
الأمير عبد الله وخلفه في الإمارة ابنه محمد فعزل والد الشيخ عبد الوهاب بن
سليمان عن القضاء، وأقام مكانه أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب ورحل عبد
الوهاب القاضي إلى حريملا، ولما ثبت قدمه عند والده باشر الشيخ تزييف
الخرافات والبدع والأضاليل، وشمر عن ساعده لإبادة الأوهام المضرة بالدين،
وأخذ ينشر الاعتقاد الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
***
هرب الشيخ محمد رحمه الله من بلدة حريملا
كانت حريملا في عهد الشيخ بلدة لا ترجع إلى أمير ولا إلى إمارة، بل كانت
كرة تتقاذفها صوالجة قبيلتين وهما قبيلة العبيد وقبيلة أخرى، فاتفق يومًا أن الشيخ
زجر بعض السفهاء من قبيلة العبيد عن ارتكاب بعض المخازي الدالة على سوء
الأخلاق، فعمد هؤلاء إلى إهانته بل إلى قتله، وأرادوا إتمام الأمر بالفعل، فساروا
إليه ليلاً وتسوروا الجدار، وبينما هم في هذا الفعل إذ صاح صائح في المحلة،
فظن هؤلاء المفسدون أن الصياح عليهم، فهربوا وكفاه الله شرهم، ولما أسفر
الصباح ورحل إلى بلدة العينية، وكان محمد الأمير قد توفاه الله وقبض على زمام
الإمارة من بعده عثمان بن حمد بن معمر فتلقاه الأمير عثمان بالتحية والترحاب
والإكرام التام، وهناك أخذ يبث حقائق التوحيد، والأمير عثمان يتعاهده بحفظ
حياته ونصره على أعدائه.
(حكاية الشجرة والقبة) وقد طلب الشيخ من الأمير أن يقطع شجرةً كانت
تُعبد في البلدة، وأن يهدم قبة زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - فتمنَّع الأمير
وبعد ذلك ألح الشيخ عليه وأقنعه، فأذن له في الآخر، ثم طلب إليه أن يسير هو
أيضًا معه، فسار الأمير مع الشيخ ومعهما ستمائة فارس، ولما وصلوا إلى المحل
المطلوب قطعت الشجرة وهدمت القبة، وكانت قرب بلدة الجبيلة فكان ذلك العمل
من أخطر الأعمال التي أتاها الشيخ، فلما فعل الشيخ هذا الفعل الأول اشتهر أمره
ونبه ذكره فبلغ خبره أمير الإحساء سليمان بن محمد وكان ذا قوة وبأس شديد،
فبعث إلى عثمان بن حمد بن معمر يتهدده بقطع رواتبه عنه والسير إليه إن لم يطرد
الشيخ من بلاده، فأذن حينئذ الشيخ عثمان للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يسافر
إلى حيث يريد، فاختار الشيخ الذهاب إلى بلدة الدرعية، فسار وسير الشيخ عثمان
معه جماعة تحافظ عليه من أعدائه حتى وصل الدرعية فحل ضيفًا عند عبد الله بن
عبد الرحمن بن سويلم أحد أعيانها، ثم علم بعض كبار الدرعية فزاروه فلما اطلعوا
على مبدئه استحسنوه وأحبوه، ثم أرادوا أن يسعوا عند أميرها محمد بن سعود؛
لينزله ضيفًا عنده فتخوفوا ففاوضوا بذلك أخاه ثنيان وزوجته وأخاه مشاري فاتفق
الجميع على تحقيق ما في الأمنية، فتم الأمر وذلك أن الأمير لما دخل قصره وقابل
زوجته اجتمع به أخواه فعرضا عليه الأمر مع زوجة الأمير، وأشاروا عليه بإكرامه
واحترامه، فسار إليه برجِله، ثم أخذه من عند عبد الله السالف الذكر وجاء به إلى
قصره، فاحتفى به أحسن الاحتفاء وأعزه وقام مؤيدًا لدعوته بكل قوته، فأخذ الناس
يفدون إلى الدرعية أفواجًا أفواجًا؛ فازدادت بذلك قوة الأمير بل تضاعفت وشرع
يكاتب بلدان نجد وقراها، ويدعوها إلى طريق الحق، وما لبث أيامًا قلائل إلا
وأصغت له القبائل ودانت له أغلب البلدان، وما زالت الإمارة في امتداد واتساع
حتى أصبحت دولة بني سعود في درجة لو وفق أمراؤها الذين تسلموا قيادة
زمامها في آخر أيامها إلى ثروة ومد نظر في السياسة، لغَدَت اليوم من أعظم الدول
الإسلامية قوة وسطوة ورهبة، ولامتدت أمراؤهم إلى بلاد شاسعة، إلا أنه دهمها ما لم
يدُر في خَلَد أصحابها، فإنها لما شددت في بعض أمورها كثر أعداؤها؛ فاحتالوا على
الفتك بها فأوقع بعض الأمراء ما يلقي النفور بين آل سعود وبين الحكومة العثمانية،
وللحال اتقدت تلك النار الحامية: نار الحروب والمضاغنات والزحفات المتكررة
فأضرت بالطرفين، ولا بد من ذكر تلك الأسباب التي حملت القوم الواحد على القوم
الآخر في فرصة أخرى، والله ولي التوفيق، وهو نعم الرفيق، انتهى.
(المنار)
هذه نبذة صحيحة من تاريخ مجدد الإسلام في القرن الثاني عشر محمد بن
عبد الوهاب، وقد اتفق الواقفون على تأثير ذلك الإصلاح من مؤرخي الشرق
والغرب على أنه يشبه نشأة الإسلام الأولى، وأنه لولا الموانع التي اعترضته لجدد
للإسلام مجده الديني والدنيوي معًا، وأعظم تلك الموانع مقاومة الدولة العثمانية له
ومساعدة محمد علي باشا لها على قتال الوهابيين وتدمير قوتهم، وكان المحرك
الخفي لهذه المقاومة دولة الدسائس الشيطانية، وعدوة الشرق ولا سيما الأمة
الإسلامية، التي لا تزال هي المقاوِمة لكل إصلاح إسلامي وترقٍّ شرقي، طمعًا في
استعباد الشرق كله، خذلها الله تعالى.