للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار التاريخية
(ثمرات الفنون)
قد تم لهذه الجريدة الغراء بانتهاء عام ١٣١٦ خمس وعشرون سنة ربع قرن
قمري كامل في خدمة الملة والدولة، فاحتفل صاحبها المفضال سعادتلو عبد القادر
أفندي القباني بموسمها الفضي في أول العام الجديد عام ست وعشرين للجريدة
احتفالاً بديعًا في ثلاث ليال، كان منزله فيها موردًا عذبًا للعلماء والوجهاء والأدباء
من جميع المذاهب والأصناف، وقد افتتح الاحتفال سعادته بخطاب لطيف خُتم
بالدعاء للحضرة السلطانية من الجميع ثم تأثره الخطباء والشعراء بألسنة تفيض الثناء
على هذه الجريدة الوطنية الصادقة ومؤسسها بما هما أهله.
وقد استغرق منظومهم ومنثورهم العدد الأول من السنة الجديدة الذي طبع بحبر
مذهب على ورق فضي كالورِق وبقي بقية. فنهنئ سعادة رصيفنا بالتوفيق لبلوغ
هذه الغاية في جهاده الأدبي، ونسأل الله تعالى أن يديم له التوفيق والنجاح حتى يهنأ
بالموسمين الذهبي والماسي وتبقى جريدته إلى ما شاء الله.
***
(تقويم المؤيد)
طبعت نفوس الغربيين على الترقي في كل شيء ولم يجدوا سبيلاً لترقية
التقاويم السنوية إلا بإيداعها كثيراً من الفوائد المقتطفة من كل فن وكذلك يفعلون.
ولم يتلُ أحد من أصحاب التقاويم العربية تلوهم في هذا إلا حضرة الكاتب البارع
محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الشهيرة؛ فقد أنشأ تقويماً أودعه فوائد
شتى من جميع الفنون، بحيث يجد حامله منه معلماً ومسلياً إذا نظر فيه، لا سيما
في أوقات الفراغ وقد انتقدنا عليه أن ذكر فيه مسألة خرافية وهي (معرفة حظ
الإنسان بمواقيت ميلاده) ، وإن كان يُسر بها أكثر الناس.
***
من عجيب تحامل الأوربيين وأنصارهم من العثمانيين نسبة الدولة العلية إلى
إهانة النصارى وعدم مساواتهم بالمسلمين، والواقع أنها تفضلهم على المسلمين في
كثير من الشؤون ونذكر الآن مسألة الصحافة فقد رقت الدولة أصحابها من النصارى
أكثر مما رقت أصحابها من المسلمين، ففي مصر يوجد مَن ارتقى من أولئك إلى
رتبة (مير ميران) وصاروا من باشاوات الدولة، ومن ارتقى إلى الرتبة الأولى،
ولا يوجد مسلم نال رتبة ما، وهذا عطوفتلو نجيب بك ملحمة رقته الدولة بسبب ما
كان يكتب في جريدة البصيرة إلى أهم مركز سياسي في بلادها، حيث جعلته
مندوبًا ساميًا في البلغار وما أدراك ما البلغار وفي هذه الأيام أنعمت عليه الحضرة
السلطانية مجددة مجد الدولة برتبة (بالا) الرفيعة ولا يمكن أن يحلم بهذا صاحب
جريدة مسلم.
وأعظم من هذا في معناه أنه بعد صدور جريدتنا المنار الإسلامية أراد بعض
كهنة المسيحيين إصدار جريدة دينية بهذا الاسم، فأنهى ملجأ ولاية بيروت رشيد بك
إلى ملجأ الخلافة العظمى بإصدار إرادة سنية بمنع المنار الإسلامي من بلاد الدولة
العلية، وإرادة أخرى بإصدار المنار المسيحي فصدرت الإرادتان على حسب الطلب
من مقام ثالث العمرين - أيد الله ملكه وأجرى في بحر التوفيق فُلْكه -
وفي هذه الأيام قرأنا في جرائد سوريا بأن مولانا أمير المؤمنين أنعم بالوسام
العثماني الرابع على حضرة الشماس أرسانيوس حداد صاحب جريدة المنار المسيحية
الغراء مكافأة له على إخلاصه وصدق تابعيه وهذا الإنعام وإن كان لم ينله ابتداءً
صاحب جريدة إسلامية - لكن قد نال مثله العلامة الشيخ حسين أفندي الجسر بعد
تأليف (الرسالة الحميدية) فهو ليس بامتياز عظيم، ونبشر رصيفنا الشماس بأن أول
الغيث قطر ثم ينهمل. ولا يختلجنَّ في فكر أحد أن في نفسنا شيئاً من رفيقتنا
وسَمّيتنا (المنار المسيحية) الغراء. كلا، إننا نعتقد أن الجرائد الدينية أنفع
لوطننا المحبوب من الجرائد السياسية إذا كانت كتابتها في تعاليمهم الدين الأصلية
وقد بينا في مقالات التعصب أن الغلو في التحمس الذميم لا يستأصله من نفوس
المسلمين والنصارى إلا الرجوع إلى آداب القرآن ومواعظ الإنجيل.
ولذلك نرجو أن تدعو جريدة المنار وجريدة المحبة وأمثالهما إلى الاتفاق
والائتلاف باسم الدين، كما دعوا إلى ذلك باسم الدين عندما كانت جريدتنا تدخل البلاد
العثمانية، وإنما غرضنا من هذه النبذة إعلام قراء منارنا في الشرق والغرب بأن من
ينسب إلى الدولة العلية تمييز المسلمين على النصارى متحامل عليها، وأن الأمر
بخلاف ذلك في كثير من الشؤون، وأما نحن فلا يسعنا إلا الرضى من دولتنا
وسلطاننا كيفما عُوملنا؛ إذ لا دولة لنا نلجأ إليها إذا هُضمت حقوقنا، وإلى
الله المصير.
***
كتبت جريدة المجلة العثمانية الغراء مقال في صدر العدد الثاني بيَّن فيها
منشئها الفاضل فرح أفندي أنطون أن المسلمين والمسيحيين في بلاد الدولة العلية
على غاية الوفاق والوئام وأن ما تتهمهم به أوربا من خلاف ذلك مبني على
الأغراض السياسية، وأن إمبراطور ألمانيا أدرك هذه الحقيقة في سياحته الأخيرة،
وأن قول جلالته للخطيب المسيحي - الذي خطب أمامه بين أكابر المسلمين في مأدبة
بلدية دمشق: (إن خطابك بقي الليل كله يرنَّ في أذني) معناه أنه استدل منه على
حسن حال النصارى مع المسلمين، ويؤكد ذلك قوله لوزير خارجيته - بعد
خروجه من المأدبة -: (إن المسيحيين في بلاد الدولة أحسن حالاً من الأيرلنديين في
إنكلترا، والمسلمين في الهند والروسيا، واليهود في الجزائر وأكثر ميلاً إلى مسالمة
إخوانهم المسلمين والمسلمون أكثر رغبة في مسالمتهم مما يصفهم به الواصفون) ولم
نكد نقرأ هذه المقالة حتى صارت ترد علينا جرائد أميركا وفيها مقالات متسلسلة
تحت عنوان (حبذا الموت في سبيل الإصلاح) لإلياس أفندي أنطون شقيق
منشئ الجامعة، زعم كاتبها أن طرابلس الشام (التي قتل فيها رجل من أسافل
النصارى رجلاً من سراة المسلمين) فضلاً عن غيرها - قد خضبت أرضها بالنجيع
الأحمر من دماء النصارى، وأن المسيحيين في بلاد الدولة يكرعون السم، ويحث
إخوانه ويهيج نفوسهم على إضرام نار الثورة في سوريا لتحرير المسيحيين من
الاستعباد والظلم الذي مثَّله في مقالاته تمثيلاً يشبه تمثيلات بطرس الراهب التي
فاض عنها طوفان حرب الصليب.
كل هذا - وأعظم منه - يُكتب في تلك الجرائد، ولا تنبس الجرائد التي تدَّعي
خدمة الدولة في مصر بكلمة في الرد عليها، ولكنهم يُظهرون الغيرة على الدولة،
بقولهم: إن المصريين الذين احتفلوا بعيد الجلوس الهمايوني ليسوا مخلصين للدولة
والسلطان وإن المؤيد يظهر خدمة السلطان والدولة لأجل مصلحته. هكذا يشقون
الصدور ويردون على ما في القلوب، أما الكلام الشائن والطعن الصريح فلا يردون
عليه، فهكذا يكون الإخلاص في الخدمة!