للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حكم هيئة كبار العلماء
في كتاب الإسلام وأصول الحكم

هيئة كبار العلماء المجتمعة بصفة تأديبية بمقتضى المادة الأولى بعد المائة من
قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية والإسلامية رقم ١٠ لسنة ١٩١١ في
دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية يوم الأربعاء ٢٢ المحرم سنة ١٣٤٤ (١٢ أغسطس
سنة ١٩٢٥) ، برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبي
الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور أربعة وعشرين عالمًا من هيئة كبار
العلماء، وهم حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة:
الشيخ محمد حسنين، والشيخ دسوقي العربي، والشيخ أحمد نصر، والشيخ
محمد بخيت، والشيخ محمد شاكر، والشيخ محمد أحمد الطوخي، والشيخ
إبراهيم الحديدي، والشيخ محمد النجدي، والشيخ عبد المعطي الشرشيمي، والشيخ
يونس موسى العطافي، والشيخ عبد الرحمن قراعة، والشيخ عبد الغني محمود،
والشيخ محمد إبراهيم السمالوطي، والشيخ يوسف نصر الدجوي، والشيخ إبراهيم
بصيلة، والشيخ محمد الأحمدي الظواهري، والشيخ مصطفى الههياوي. والشيخ
يوسف شلبي الشبرابخومي , والشيخ محمد سبيع الذهبي , والشيخ محمد حموده ,
والشيخ أحمد الدلبشاني، والشيخ حسين والي، والشيخ محمد الحلبي , والشيخ
سيد علي المرصفي.
نظرت في التهم الموجهة إلى الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع
الأزهر، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية التي تضمنها
كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ، وأعلنت له في يوم الأربعاء ٨ المحرم سنة
١٣٤٤ (٢٩ يولية سنة ١٩٢٥) .
وقد قام بعمل السكرتارية لهذه الهيئة محمد قدري أفندي رئيس أقلام
السكرتارية العامة لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية، وعلي أحمد عزت
أفندي الكاتب الأول للجامع الأزهر، والمنتدب بالإدارة العامة للمعاهد الدينية.
***
الوقائع
نشر باسم الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي
الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية الكتاب المسمى (الإسلام وأصول
الحكم) ؛ فقدمت إلى مشيخة الجامع الأزهر عرائض وقع عليها جمع غفير من
العلماء في تواريخ ٢٣ ذي القعدة وأول و٨ ذي الحجة سنة ١٣٤٣ (١٥ و٢٣ و٣٠
يونية سنة ١٩٢٥) وقد تضمنت أن الكتاب المذكور يحوي أمورًا مخالفة للدين
ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة. منها:
١- جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم
والتنفيذ في أمور الدنيا.
٢- وأن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل
الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
٣- وأن نظام الملك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض
أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة.
٤- وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغًا للشريعة مجردًا عن
الحكم والتنفيذ.
٥- وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا بد للأمة
ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا.
٦- وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية.
٧- وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا
دينية.
وقرر حضرة صاحب الفضيلة الشيخ الأكبر محمد أبي الفضل شيخ الجامع
الأزهر، بناءً على ذلك اجتماع هيئة كبار العلماء بصفة تأديبية في يوم الأربعاء ١٥
المحرم سنة ١٣٤٤ (٥ أغسطس سنة ١٩٢٥) الساعة العاشرة صباحًا في دار
الإدارة العامة للمعاهد الدينية، وأعلن ذلك للشيخ علي عبد الرازق في يوم الأربعاء ٨
المحرم سنة ١٣٤٤ (٢٩ يولية سنة ١٩٢٥) ، وكلف الحضور أمام
الهيئة المذكورة في التاريخ والمكان المذكورين.
وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور ثلاثة وعشرين عالمًا
من هيئة كبار العلماء، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً عدا فضيلة الأستاذ الشيخ
دسوقي العربي، ولم يحضر الشيخ علي عبد الرازق، وإنما أرسل خطابًا مؤرخًا
في ١٤ المحرم سنة ١٣٤٤ يطلب فيه إعطاءه فرصة طويلة، تكفي لإعداد ما يلزم
للمناقشة، وقد عرض الكتاب على الهيئة في هذه الجلسة؛ فقررت تأجيل النظر في
الموضوع إلى يوم الأربعاء ٢٢ المحرم سنة ١٣٤٤ (١٢ أغسطس سنة ١٩٢٥)
الساعة العاشرة صباحًا في دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية، وأعلن ذلك للشيخ
علي عبد الرازق في يوم الأربعاء ٢٥ المحرم سنة ١٣٤٤ (٥ أغسطس سنة
١٩٢٥) .
وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور أربعة وعشرين
عالمًا من هيئة كبار العلماء، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً، وقد حضر الشيخ علي
عبد الرازق أمام هذه الهيئة، وسئل عن كتابه (الإسلام وأصول الحكم) المشار
إليه؟ فاعترف بصدوره منه، ثم تليت عليه التهم الموجهة إليه ومآخذها من كتابه،
وقبل إجابته عنها وجه دفعًا فرعيًّا، وهو أنه لا يعتبر نفسه أمام هيئة تأديبية،
وطلب ألا تعتبر الهيئة حضوره أمامها اعترافًا منه بأن لها حقًّا قانونيًّا.
فبعد المداولة القانونية في هذا الدفع قررت الهيئة رفضه؛ اعتمادًا على أنها
إنما تنفذ حقًّا خوله إياها القانون، وهي المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع
الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية رقم ١٠ لسنة ١٩١١.
ثم دعي الشيخ علي عبد الرازق أمام هذه الهيئة، فأعلن له حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس رفض دفعه طبقًا للمادة المذكورة، فطلب الشيخ علي
عبد الرازق أن تسمع له الهيئة مذكرة أعدها للدفاع عن التهم الموجهة إليه، فأذن له
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس أن يتلوها فتلاها، وبعد الفراغ من
تلاوتها وتوقيعه على كل ورقة منها أخذت منه وحفظت في أضمامة الجلسة، ثم
انصرف.
***
هيئة كبار العلماء
بعد الاطلاع على كتاب (الإسلام وأصول الحكم) المطبوع في مطبعة مصر
الطبعة الأولى سنة ١٣٤٣ هـ الموافقة سنة ١٩٢٥ م السابق الذكر والعلم بما
تضمنه من الأمور المخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية،
وإجماع الأمة، وسماع ما جاء في مذكرة دفاع الشيخ علي عبد الرازق عن التهم
الموجهة إليه.
وبعد الاطلاع على المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع الأزهر والمعاهد
الدينية العلمية الإسلامية رقم ١٠ لسنة ١٩١١، وعلى المادة الرابعة من هذا
القانون.
وبعد المداولة القانونية:
من حيث إن الشيخ عليًّا جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا
علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا، فقد قال في ص ٧٨ و٧٩: (والدنيا من
أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على
تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وحبانا من عواطف وشهوات، وعلمنا من
أسماء ومسميات، هي أهون عند الله من أن يبعث لها رسولاً، وأهون عند رسل
الله من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدبيرها) .
وقال في ص ٨٥: (إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب
وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير.
وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا. وسيان أن يكون
منها للبشر مصلحة مدنية أم لا. فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر
إليه الرسول) .
الدين الإسلامي بإجماع المسلمين ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من
عقائد وعبادات ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة.
وإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلاهما مشتمل على
أحكام كثيرة في أمور الدنيا وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.
والشيخ علي في ص ٧٨ و٧٩ يزعم أن أمور الدنيا قد تركها الله ورسوله -
صلى الله عليه وسلم - تتحكم فيها عواطف الناس وشهواتهم. وفي ص ٨٥ زعم
أن ما جاء به الإسلام إنما هو المصلحة الأخروية لا غير، وأما المصلحة المدنية أو
المصلحة الدنيوية، فذلك مما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه
الرسول.
وواضح من كلامه أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة جاءت
لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط. أما ما بين الإنسان من المعاملات الدنيوية
وتدبير الشؤون العامة؛ فلا شأن للشريعة به وليس من مقاصدها.
وهل في استطاعة الشيخ علي أن يشطر الدين الإسلامي شطرين، ويلغي منه
شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، ويضرب بآيات الكتاب العزيز وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم عرض الحائط؟ وقد قال الشيخ عليّ في دفاعه: إنه لم يقل
ذلك مطلقًا لا في الكتاب ولا في غير الكتاب، ولا قال قولاً يشبهه أو يدانيه.
وقد علمت أن ذلك واضح من كلامه الذي نقلناه لك , وقد ذكر مثله في مذكرة دفاعه.
وقال في دفاعه أيضًا: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بقواعد وآداب
وشرائع عامة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة والأمم، فكان
فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش والجهاد، وللبيع والمداينة والرهن، ولآداب
الجلوس والمشي والحديث) . إلخ ص ٨٤.
غير أنه قال عقب ذلك ص ٨٤ أيضًا: ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما
شرعه الإسلام وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في
شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم ... إلى آخره.
فآخر كلامه في الصحفة المذكورة يهدم كلامه، ولا ينفعه ركونه إلى حديث:
(لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما متع الكافر منها بشربة ماء) .
وحديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، لأن الحديث الأول ضعيف لا يصلح حجةً ,
وهو على فرض صحته وارد في معرض التزهيد في الدنيا وعدم الإفراط في طلبها،
وليس معناه كما يزعم الشيخ عليّ أن تترك الناس فوضى تتحكم فيهم العواطف
والشهوات ليس لهم حدود يقفون عندها، ولا معالم ينتهون إليها.
ولو لم يكن معناه كما ذكرنا؛ لهدم آيات الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، وصادم
آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا} (القصص: ٧٧) ، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (المائدة: ٨٧) .
ولأن الحديث الثاني وارد في تأبير النخل وتلقيحه، ويجري فيما يشبه ذلك
من شؤون الزراعة وغيرها من الأمور التي لم تجئ الشريعة بتعليمها، وإنما
تجيء لبيان أحكامها من حل وحرمة، وصحة وفساد ونحو ذلك، يعلم ذلك من له
صلة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهل يجترئ الشيخ علي أن يسلخ الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا من الدين،
ويترك الناس لأهوائهم ويقول: (إن ذلك من الأغراض الدنيوية التي أنكر النبي صلى
الله عليه وسلم أن يكون له فيها حكم وتدبير) ، ويدعي على النبي صلى الله
عليه وسلم هذه الدعوى.
وهل يرى الشيخ علي أن تدبير أمور الدنيا، وسياسة الناس أهون عند الله من
مشية يقول الله في شأنها: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} (الإسراء: ٣٧) ،
وأهون عند الله من شيء من المال يقول الله في شأنه: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: ٥) ويقول أيضًا: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ
البَسْطِ} (الإسراء: ٢٩) ، وأهون عند الله من صاع شعير أو رطل ملح، يقول
الله في شأنهما: {أَوْفُوا الكَيْلَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ
المُسْتَقِيمِ} (الشعراء: ١٨١-١٨٢) .
وماذا يعمل الشيخ علي في مثل قوله تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: ١٠٥) ، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم
بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة: ٤٩)
، وقوله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ
إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: ٢٩) ، وقوله تعالى في شأن
الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا
إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: ٣٥) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: ٢٧) .
وماذا يعمل الشيخ علي في مثل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: أن
ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها، فاختصموا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، فأمر بالقصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أتقتص من فلانة؟
لا والله. فقال: (سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص) . ومثل ما رواه
البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضى الله عنهما - أنه قال: قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة. وما رواه أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه
قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع. وما
رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه - وما رواه أيضًا عن ابن عباس -
رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.
(٢)
ومن حيث إنه زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
فقد قال في ص ٥٢: (وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة
إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله) .
ثم قال في ص ٥٣: (وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد لجأ إلى القوة
والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين،
وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك) .
فالشيخ علي في كلامه هذا يقطع بأن جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
وفي كلامه الذي سنذكره زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاده - صلى الله
عليه وسلم - كان في سبيل الملك.
فقد قال في ص٥٤: (قلنا: إن الجهاد كان آية من آيات الدولة الإسلامية،
ومثالاً من أمثلة الشؤون الملكية، وإليك مثلاً آخر: كان في زمن النبي - صلى الله
عليه وسلم - عمل كبير متعلق بالشؤون المالية من حيث الإيرادات والمصروفات،
ومن حيث جمع المال من جهاته العديدة (الزكاة والجزية والغنائم إلخ) ، ومن
حيث توزيع ذلك كله بين مصارفه، وكان له - صلى الله عليه وسلم - سعاة وجباة
يتولون ذلك له، ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي؛ بل هو من أهم مقومات
الحكومات) .
ثم قال في ص٥٥: إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة، واطمأن
إلى الحكم بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً وملكًا، فسوف يعترضه حينئذ
بحث آخر جدير بالتفكير، فهل كان تأسيسه - صلى الله عليه وسلم - المملكة
الإسلامية، وتصرفه في ذلك الجانب شيئًا خارجًا عن حدود رسالته صلى الله عليه
وسلم؟ أم كان جزءًا مما بعثه الله له، وأوحى به إليه؟ فأما أن المملكة النبوية عمل
منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في
مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك
رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا إلحادًا، وربما كان
محمولاً على هذا المذهب ما يراه بعض الفرق الإسلامية من إنكار الخلافة في
الإسلام مرة واحدة. ولا يهولنك أن تسمع أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - عملاً
كهذا خارجًا عن وظيفة الرسالة، وأن ملكه الذي شيده هو من قبيل ذلك العمل
الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فذلك قول إن أنكرته الأذن - لأن التشدق به
غير مألوف في لغة المسلمين - فقواعد الإسلام، ومعنى الرسالة وروح التشريع
وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه،
بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا، ولكنه على كل حال رأي نراه بعيدًا) .
فعلم من كلامه هذا أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين،
وهذا أقل ما يؤخذ عليه في مجموعة نصوصه.
على أنه لم يقف عند هذا الحد، بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك،
ومن الشؤون الملكية جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم ونحو ذلك في سبيل
الملك أيضًا، وجعل كل ذلك على هذا خارجًا عن حدود رسالة النبي صلى الله عليه
وسلم، لم ينزل به وحي، ولم يأمر به الله تعالى.
ومن حيث إن دفاع الشيخ علي بقوله: (إننا قد استقصينا الكتاب أيضًا فلم
نجد ذلك القول فيه، وربما كان استنتاجًا لم نهتد إلى مقدماته) . غير صحيح؛ لأن
ما اتهم به نجده صريحًا في صحيفة ٥٢ و٥٣ و٥٤. وفي ص٥٥ حيث يقول:
(وهو على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا
إلحادًا) ، وحيث يقول بعد ذلك: (فقواعد الإسلام، ومعنى الرسالة، وروح التشريع
وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه،
بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا) .
ومن حيث إن دفاع الشيخ علي بقوله: (إنه رأي من الآراء لم نرض به،
ومذهب رفضنا آخر الأمر أن نذهب إليه) ، غير مطابق للواقع؛ لأنه قال: (وهو
على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه) إلى آخره، وقوله بعد ذلك: (ولكنه على
كل حال رأي نراه بعيدًا) لا ينفعه، فإنه مع قوله: وهو على ذلك رأي صالح لأن
يذهب إليه، إلى آخره - أسلوب تجويز لا أسلوب رفض، يعرف ذلك من له إلمام
بالمنطق وأساليب الكلام.
وقال الشيخ علي في دفاعه بعد ذلك: (بل نحن قررنا ضد ذلك على خط
مستقيم ص٧٠ حيث قلنا ... (وفي سبيل هذه الوحدة الإسلامية ناضل - عليه
السلام - بلسانه وسنانه) ، وقلنا في ص٧٩: (لا يريبنك هذا الذي ترى أحيانًا في
سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك
والدولة، فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي
كان عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يلجأ إليها تثبيتًا للدين وتأييدًا للدعوة، وليس
عجيبًا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل) .
ودفاعه هذا لا يجدي، فإنه زعم أن ما قاله هنا ضد لما اتهم به، والواقع أنه
ليس ضدًّا؛ لأنه ساقه محتملاً أن يكون نضاله وجهاده - عليه الصلاة والسلام -
مما خرج عن حدود رسالته صلى الله عليه وسلم، وأن يكون جزءًا مما بعثه الله له
وأوحى به إليه على الرأيين اللذين قررهما الشيخ علي، فالتهمة الموجهة إليه باقية.
والشيخ علي بذلك لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز فضلاً عن
صريح الأحاديث الصحيحة المعروفة، ولا يمنع أن ينكر معلوم من الدين
بالضرورة.
قال الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: ٨٤) ، وقال تعالى:
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} (النساء: ٧٤) ،
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: ١٩٣) ،
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: ٤٣) ، وقال تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: ١٠٣) ، وقال تعالى في
بيان مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} (التوبة: ٦٠) ، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ
وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: ٢٩) ، وقال تعالى: {َاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ} (الأنفال: ٤١) .
(٣)
ومن حيث إنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان موضع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة، فقد قال في
ص٤٠: (لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غامضة
ومبهمة من كل جانب) .
وقال في ص٤٦: (كثيرًا كلما أمعنا في حال القضاء زمن النبي - صلى الله
عليه وسلم -، وفي حال غير القضاء أيضًا من أعمال الحكم وأنواع الولاية - وجدنا
إبهامًا في البحث يتزايد، وخفاءً في الأمر يشتد، ثم لا تزال حيرة الفكر تنقلنا من
لبس إلى لبس، وتردنا من بحث إلى بحث، إلى أن ينتهي النظر بنا إلى غاية ذلك
المجال المشتبه الحائر) .
وقال في ص٥٧: (إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أسس
دولة سياسية أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته إذًا من كثير من أركان الدولة
ودعائم الحكم،؟ ولماذا لم يعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم
يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في
حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا ولماذا؟ نريد أن
نعرف منشأ ذاك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص أو ما شئت
فسمه، في بناء الحكومة أيام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كان ذلك وما
سره؟) .
وهذا تصريح من الشيخ علي بما يثبت التهمة.
وإذا كان قد اعترف ببعض أنظمة للحكم في الشريعة الإسلامية، فإنه نقض
الاعتراف، وقرر أن هذه الأنظمة ملحقة بالعدم.
قال في ص٨٤: (ربما أمكن أن يقال: إن تلك القواعد والآداب والشرائع
التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمم العربية ولغير الأمم العربية
أيضًا كانت كثيرة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم،
فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش وللجهاد وللبيع والمداينة والرهن، ولآداب
الجلوس والمشي والحديث وكثير غير ذلك) ، ثم قال: (ولكنك إذا تأملت وجدت
أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من
أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي،
ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءًا يسيرًا مما
يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين) .
ومن حيث إنه قال في دفاعه: إنه ساق ذلك مساق الاعتراض على من يقول:
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صاحب حكومة. وإنه أخذ في رد
الاعتراض عقب توجيهه. ولكنه رد الاعتراض بجوابين لم يرتض واحدًا منهما
ص٥٩ و٦٣؛ فالتهمة باقية.
وقد رضي لنفسه بعد ذلك مذهبًا هو قوله: (إنما كانت ولاية محمد - صلى
الله عليه وسلم - على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم) - ص
٨٠ - وهذه هي الطريقة الخطيرة التي خرج إليها، وهي أنه جرد النبي - صلى
الله عليه وسلم - من الحكم، وقال: (رسالة لا حكم، ودين لا دولة) .
وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى:
{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: ١٠٥) ،
وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: ٨٩) ، وقال
تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) ، وقال
تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) ، ومعلوم أن الرد إلى
الله بالرجوع إلى كتابه العزيز، والرد إلى الرسول بالرجوع إلى سنته صلى الله
عليه وسلم، وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) ، والدين عند المسلمين ما جاء به محمد - صلى
الله عليه وسلم - من عند الله في معاملة الخالق والمخلوق.
(٤)
ومن حيث إنه زعم أن مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بلاغًا
للشريعة مجردًا عن الحكم والتنفيذ، فقد قال الشيخ علي في ص٧١: (ظواهر
القرآن المجيد تؤيد القول: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له شأن في
الملك السياسي، وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ
المجرد من كل معاني السلطان) .
ثم عاد فأكد ذلك فقال في ص٧٣: (القرآن كما رأيت صريح في أن
محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى
إلى الناس، وأنه لم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس
بما جاء به، ولا أن يحملهم عليه) .
ولو كان الأمر كما زعم هو لكان ذلك رفضًا لجميع آيات الأحكام الكثيرة في
القرآن الكريم. ودون ذلك خرط القتاد.
وقد قال الشيخ علي في دفاعه: (إنه قرر في مكان آخر من الكتاب بصراحة
لا مواربة فيها أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - سلطانًا عامًا، وأنه ناضل في
سبيل الدعوة بلسانه وسنانه) .
وهذا دفاع لا يجدي؛ إذ لو كان معنى ذلك الذي قرره في ص٦٦ و٧٠ كما
أشار إليه أن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السماوي يتجاوز حد البلاغ
المجرد عن كل معاني السلطان، لما كان سائغًا أن يقول بعد ذلك في صفحة ٧١:
إن آيات الكتاب متضافرة، على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد
من كل معاني السلطان. وأن يقول بعد ذلك في صفحة ٧٣: إن القرآن صريح في
أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى
الناس، ولم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به،
ولا أن يحملهم عليه.
والواقع أن السلطان الذي أثبته إنما هو السلطان الروحي كما صرح به في
مذكرة دفاعه، حيث قال فيها: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستولي
على كل ذلك السلطان، لا من طريق القوة المادية وإخضاع الجسم كما هو شأن
الملوك والحكام، ولكن من طريق الإيمان به إيمانًا قلبيًّا والخضوع له خضوعًا
روحيًّا) فكان دفاعه إثباتًا للتهمة لا نفيًا لها.
على أنه قد نسب في ص٦٥ و٦٦ السلطان إلى عوامل أخرى من نحو: الكمال
الخلقي، والتميز الاجتماعي، لا إلى وحي الله وآيات كتابه الكريم، كما أنه جعل
الجهاد في موضع آخر من كتابه وسيلة كان على النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن يلجأ إليها لتأييد الدعوة، ولم ينسبه إلى وحي الله وأمره.
وكلام الشيخ علي مخالف لصريح كتاب الله تعالى الذي يرد عليه زعمه،
ويثبت أن مهمته - صلى الله عليه وسلم - تجاوزت البلاغ إلى غيره من الحكم
والتنفيذ، فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: ١٠٥) ، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: ٤٩) ،
وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (الشورى: ١٥) ، وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: ١٠٣) ، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: ٣٩) ، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: ٢٩) ، وقال تعالى:
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: ٨٤) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ} (الأنفال: ٦٥) ، وقال تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: ٦١) ، وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ
المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: ٩) .
وكلام الشيخ علي مخالف أيضًا لصريح السنة الصحيحة، فقد روى البخاري
في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا
ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام) ، وروى عن أبي سلمة عن
أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد
شرب فقال: اضربوه. وروى عن عروة - رضي الله عنه - أن قريشًا أهمتهم
المرأة المخزومية التي سرقت، وقالوا: من يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام
فخطب، فقال: (يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف
تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطع محمد يدها) .
فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد - صلى الله عليه وسلم -: إن عمله
السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، وإنه لم يكلف أن
يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه؟
وهل يجوز أن يقال بعد ذلك في القرآن الكريم: إنه صريح في أنه صلى الله
عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله إلى الناس، وليس عليه أن
يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.
(٥)
ومن حيث إنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا
بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا، فقد قال في ص٢٢: (أما دعوى
الإجماع في هذه المسألة - وجوب نصب الإمام - فلا نجد مساغًا لقبولها على أي
حال، ومحال إذا طالبناهم بالدليل أن يظفروا بدليل، على أننا مثبتون لك فيما يلي أن
دعوى الإجماع هنا غير صحيحة ولا مسموعة، سواء أرادوا بها إجماع الصحابة
وحدهم، أم الصحابة والتابعين، أم علماء المسلمين، أم المسلمين كلهم بعد
أن نمهد لهذا تمهيدًا) .
ادعى الشيخ علي في ذلك التمهيد أن حظ العلوم السياسية في العصر الإسلامي
كان سيئًا، على الرغم من توافر الدواعي التي تحمل على البحث فيها، وأهمها أن
مقام الخلافة منذ زمن الخليفة الأول كان غرضه للخارجين عليه، غير أن حركة
المعارضة كانت تضعف وتقوى. ثم ساق بعض أمثلة يؤديد بها ما يدعيه من أن
الخلافة كانت قائمة على السيف والقوة لا على البيعة والرضا.
ولو سلم للشيخ علي ذلك جدلاً لما تم له ما يزعمه من إنكار إجماع الصحابة
على وجوب نصب إمام للمسلمين، فإن إجماعهم على ذلك شيء، وإجماعهم على
بيعة إمام معين شيء آخر. واختلافهم في بيعة إمام معين لا يقدح في اتفاقهم على
وجوب نصب الإمام، أي إمام كان، وقد ثبت إجماع المسلمين على امتناع خلو
الوقت من إمام، ونقل إلينا ذلك بطريق التواتر فلا سبيل إلى الإنكار.
وقد اعترف الشيخ علي عبد الرازق في دفاعه بأنه ينكر الإجماع على وجوب
نصب الإمام بالمعنى الذي ذكره الفقهاء، وقال عن نفسه: إنه يقف في ذلك في
صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة. (يعني بعض الخوارج ولا صم) ،
وهو دفاع لا يبرئه من أنه خرج على الإجماع المتواتر عند المسلمين، وحسبه في
بدعته أنه في صف الخوارج لا في صف جماهير المسلمين. وهل وقوفه في
صف الخوارج الذين خالفوا الإجماع بعد انعقاده يسوغ له أن يخرج على إجماع
المسلمين؟ قال في المواقف وشرحه: (تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول
بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام،
حتى قال أبو بكر - رضي الله عنه - في خطبته المشهورة حين وفاته عليه
السلام: ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى
قبوله، ولم يقل أحد: لا حاجة إلى ذلك، بل اتفقوا عليه وقالوا: ننظر في هذا
الأمر. وبكروا إلى سقيفة بني ساعدة، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -. واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك الاتفاق، ولم يزل
الناس على ذلك في كل عصر إلى زمننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر) .
وقد روى مسلم في صحيحه حديث حذيفة، وقد جاء فيه أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) ، قلت: فإن لم يكن لهم إمام،
قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك
الموت) وروى مسلم أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خلع يدًا
من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات
ميتة جاهلية) ، وروى مسلم أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي
وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، وأعطوهم
حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم) ، وروى مسلم أيضًا عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى
الله - عز وجل - وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه) .
(٦)
ومن حيث إنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية، فقد قال في ص١٠٣:
(والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية كلا، ولا القضاء ولا غيرهما من
وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين
بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع
فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة) .
وكلام الشيخ علي في دفاعه يقضي بأن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة
شرعية جعلوه متفرعًا عن الخلافة، فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.
وكلامه غير صحيح؛ فالقضاء ثابت في الدين على كل تقدير تمسكًا بالأدلة
الشرعية التي لا يستطاع نقضها، وقد ذكرنا فيما تقدم كثيرًا من الآيات والأحاديث
في الحكم والقضاء، وسنذكر شيئًا من ذلك فيما يأتي: -
وقال الشيخ علي في دفاعه: (إن الذي أنكر أنه خطة شرعية إنما هو جعل
القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة، واتخاذه مقامًا ذا أنظمة
معينة وأساليب خاصة) .
وهو دفاع غير صحيح، فإن عبارته في صفحة ١٠٣ فيها إنكار أن القضاء
نفسه خطة دينية، وقد زعم أنه خطة سياسية صرفة لا شأن للدين فيها.
وقد نقل عن ميزان الشعراني في دفاعه (أن الإمام أحمد في أظهر رواياته
يرى أنه -أي: القضاء- ليس من فروض الكفايات، ولا يجب على من تعين له
الدخول فيه وإن لم يوجد غيره) .
وهذا دفاع عن القضاء نفسه. وبذلك يتبين أيضًا أنه قد أنكر أن القضاء نفسه
وظيفة شرعية، لا جعل القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة،
واتخاذه مقامًا ذا أنظمة معينة وأساليب خاصة. فلزمته التهمة.
واستناده على ما نقله الشعراني في ميزانه عن الإمام أحمد استناد لا ينفعه،
فإن الذي حرر من ميزان الشعراني إنما هو إلى باب ما يحرم من النكاح، وقد ذكر
ذلك الشعراني نفسه في ص٨ من الجزء الأول من الميزان، وكتاب الأقضية واقع
بعد ذلك بسبعة عشر كتابًا، فكتاب الأقضية في ميزان الشعراني لم يحرر حتى
يكون ما فيه مستندًا صحيحًا. وقال صاحب الإشاعة في أشراط الساعة: إن
الشعراني لم يحرر ميزانه في حياته، وإنه قال: لا أحل لأحد أن يروي هذا الكتاب
عني حتى نعرضه على علماء المسلمين ويجيزوا ما فيه. انتهى كلامه، والمعروف
في كتب الحنابلة أن القضاء من فروض الكفايات. راجع ص٢٥٨ من الجزء الرابع
من المنتهى، وص٩٦٨ من الإقناع، وص٥٨٠ من المقنع، وقد ذكر محشيه عند
قوله: (وهو فرض كفاية) : إن ذلك هو المذهب. وذكر قولاً عن الإمام أحمد بأن
القضاء سنة. فإذا لم يكن القضاء فرض كفاية عند الإمام أحمد فهو سنة عنده
والمسنون من الخطط الشرعية، فما زعمه الشيخ علي من إنكار أن القضاء وظيفة
شرعية وخطة دينية باطل ومصادم لآيات الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: ٦٥) ، وقال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ} (المائدة: ٤٨)
، وقال تعالى:
{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: ١٠٥) ،
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) .
(٧)
ومن حيث إنه يزعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده - رضي
الله عنهم - كانت لا دينية [١] فقد قال في صفحة ٩٠: (طبيعي ومعقول لي درجة
البداهة ألا توجد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - زعامة دينية، وأما الذي يمكن
أن يتصور وجوده فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة ولا قائمًا
على الدين، هو إذًا نوع لا ديني) .
وهذه جرأة لا دينية، فإن الطبيعي والمعقول عند المسلمين إلى درجة البداهة
أن زعامة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت دينية، يعرف ذلك المسلمون سلفهم
وخلفهم جيلاً بعد جيل، ولقد كانت زعامته على أساس (أنه لا بد لهذا الدين ممن
يقوم به) ، وقد انعقد على ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - كما
سبق.
ودفاع الشيخ علي بأن الذي يقصده من أن زعامة أبي بكر لا دينية أنها لا
تستند إلى وحي ولا إلى رسالة مضحك موقع في الأسف، فإن أحدًا لا يتوهم أن أبا
بكر - رضي الله عنه - كان نبيًّا يوحى إليه، حتى يعنى الشيخ علي بدفع هذا
التوهم.
لقد بايع أبا بكر - رضي الله عنه - جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين
على أنه القائم بأمر الدين في هذه الأمة بعد نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم -
فقام بالأمر خير قيام، ومثله في هذا بقية الخلفاء الراشدين.
وإن ما وصم به الشيخ علي أبا بكر - رضي الله عنه - من أن حكومته لا
دينية لم يقدم على مثله أحد من المسلمين , فالله حسبه.
ولكن الذي يطعن في مقام النبوة يسهل عليه كثيرًا أن يطعن في مقام أبي بكر
وإخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.
ومن حيث إنه - علاوة على ما ذكر - يقف الشيخ علي في ص ٣٤ و٣٥ من
المسلمين موقف الطاعن على دليلهم الديني، والخارج على إجماعهم المتواتر الذي
انعقد على شكل حكومتهم الدينية، أو موقف المجيز للمسلمين إقامة حكومة بلشفية،
وكيف ذلك والدين الإسلامي في جملته وتفصيله يحارب البلشفية؛ لأن البلشفية فتنة
في الأرض وفساد كبير. لقد وضع الدين الإسلامي للمواريث أحكامًا يلجأ إليها
أحيانًا غير المسلمين لما فيها من الرحمة والعدل، وأوجب على المسلمين مقادير من
الصدقات، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وأمر بإقامة الحكومة الدينية التي
تحفظ لكل ذي حق حقه، ولكل عامل ثمرة عمله، وجعل الدماء والأعراض
والأموال حرمة لا يجوز انتهاكها، وضرب على أيدي المفسدين في الأرض،
وحسبنا في ذلك أن نقول: إن البلشفية تهدم نظام المجتمع الإنساني، وتضيع حكمة
الله في جعل الناس درجات ينتفع بعضهم من بعض، قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم
بَعْضاً سُخْرِياً} (الزخرف: ٣٢) .
ومن حيث إن الشيخ عليًّا يقول في ص ١٠٣: (لا شيء في الدين يمنع
المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا
ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام
حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على
أنه خير أصول الحكم) ، ومعلوم أن أصول الحكم ومصادر التشريع عند المسلمين
إنما هي كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين،
وليس هناك للمسلمين خير منها. والشيخ علي يطلب أن يهدموا ما بنوه على هذه
الأصول من نظام حكومتهم (العتيق) ، ويطلب إليهم أن يبنوا حكومتهم وشؤونهم
الدينية والدنيوية على أصول خير من أصولهم، يجدونها عند الأمم غير الإسلامية،
فكيف يبيح دين الإسلام للمسلمين أن يهدموه؟!
ومن حيث إنه يزعم في ص ٨٣ و٨٤ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يغير شيئًا من أساليب الحكم عند أي أمة أو قبيلة في البلاد العربية، وإنما تركهم
وما لهم من فوضى أو نظام، وهذا طعن صريح على محمد - صلى الله عليه وسلم
- بأنه لم يرسل لسعادة الناس في دينهم ودنياهم، وطعن صريح على كتاب الله
تعالى بأنه غير وافٍ بما يلزم في الشؤون الاجتماعية، وقد قال الله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) ، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ
يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: ١٥٦-١٥٧) ،
وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِيناً} (المائدة: ٣) .
ومن حيث إنه تبين مما تقدم أن التهم الموجهة ضد الشيخ علي عبد الرازق
ثابتة عليه، وهي مما لا يناسب وصف العالمية وفاقًا للمادة (١٠١) من القانون
رقم ١٠ لسنة ١٩١١ ونصها:
(إذا وقع من أحد العلماء أيًّا كانت وظيفته أو مهنته ما لا يناسب وصف
العالمية، يحكم عليه من شيخ الجامع الأزهر بإجماع تسعة عشر عالمًا معه من هيئة
كبار العلماء، المنصوص عليها في الباب السابع من هذا القانون بإخراجه من زمرة
العلماء، ولا يقبل الطعن في هذا الحكم.
ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة
كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية) .
فبناءً على هذه الأسباب:
حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالمًا معنا من هيئة
كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي
الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية، ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول
الحكم) من زمرة العلماء.
صدر هذا الحكم بدار الإدارة العامة للمعاهد الدينية في يوم الأربعاء ٢٢
المحرم سنة ١٣٤٤ (١٢ أغسطس سنة ١٩٢٥) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
***
تنفيذ الحكم
(وهو النصر المبين، لأهل الدين على اللادينيين)
كان الشيخ علي عبد الرازق مغرورًا بأنصاره من الإفرنج والمتفرنجين،
وملاحدة اللادينيين، ظانًّا أنهم يرهبون - بما يكتبون في جريدة السياسة - كبار
علماء الدين، فلا يتجرؤون على الحكم عليه، ثم إنه كان متكلاً على الوزيرين
النافذي الرأي: إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية، وعبد العزيز فهمي باشا
وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري، واثقًا هو وأنصاره اللادينيون بأن
يبقى في وظيفته القضاء الشرعي، بالرغم من أنوف كبار العلماء إن هم حكموا
بإخراجه من جماعتهم - وبلغنا أن وزير الحقانية وعده ببقائه في منصب القضاء
الشرعي الذي أنكر هو كونه منصبًا شرعيًّا بالتبع لإنكار كون منصب الخلافة دينيًّا؛
أي: مقيدًا بأحكام الدين. كما علم واشتهر أن إسماعيل صدقي باشا لم يحفل بقرار
هيئة العلماء الذي بلغته إياه قبل المحاكمة، ولم يجب إلى ما طلبه بعضهم منه من
مصادرة الكتاب - وإننا لم نكن نعلم من هذا شيئًا حين كتبنا في إحدى مقالاتنا في الرد
على كتاب (الإسلام وأصول الحكم) : إننا نعلم أن من أنصاره بعض الباشوات
والدكاترة، وغيرهم من الأكابر، وأنهم أقوياء، ولكن قوتهم تتضاءل أمام قوة ملك
البلاد. وقد عاقبتنا جريدة السياسة على القول بنشر تهمة غريبة تتهمنا فيها بأعمال
دينية سياسية تغضب علينا - لو صحت - جلالة الملك وحكومته، وتجعلنا
عرضة للعقاب، ولكن الحكومة كذبت التهمة، وقد أشير علينا يومئذ أن نقاضي جريدة
السياسة على تلك التهمة، فقلنا: إنه لا يليق بنا - معشر أرباب الصحف - أن
نتقاضى إلى الحكام، وقد صرف الله عنا شر التهمة الباطلة بسلام.
هذا الغرور والاتكال على الوزراء والأحزاب هو الذي جرأ الشيخ علي عبد
الرازق على تهديد هيئة كبار العلماء في مقال نشرته له السياسة في صدر عددها
الذي صدر في ٢٠ ذي الحجة سنة ١٣٤٣، نهاهم فيه أن تأخذهم العزة بالإثم،
وتقحم بهم في أودية ليس عليها دليل، وتهجم بهم على موارد لا يجدون عنها
مصدرًا، وتنتهي بهم إلى عواقب لا يحمدون عندها السرى، ثم قال: يا أيها
السادة لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، ولا تركبوا للانتقام مركبًا أخاف أن
يرديكم قبل أن يصل بكم إلى الانتقام.
إن شر ما ترجونه لنا لهو خير ما نرجو لأنفسنا، ولئن كنا غالبين أو
مغلوبين، فإن لنا في الحالتين، لإحدى الحسنيين، أما أنتم أيها السادة فخافوا على
أنفسكم شرين مالكم من أحدهما بد، شر الانتصار إن غَلَبْتُمْ، وشر الهزيمة إن غُلِبْتُمْ
أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كيلا ألام على نهجي وإنذاري
فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلفون خزيًا ظاهر العار
ثم كررت جريدة السياسة بلسانها وألسنة كتابها أمثال هذه النذر بما هو أشد
تهديدًا ووعيدًا وتقريعًا وتثريبًا، ولكن الحكم صدر ثم نفذ، ولقد امتنع عبد العزيز
باشا عن تنفيذه، فكان جزاؤه العزل من الوزارة، ثم كان جزاء حزبه الحر
الدستوري الخروج من الوزارة أيضًا، فقد استقال سائر وزراء الحزب حتى
إسماعيل باشا صدقي، فقبلت استقالتهم أجمعين، وكانوا يظنون أنها لا تقبل، وأن
الحكومة الشاذة المعطلة للدستور لا تقوم إلا بهم.
تنفيذ هذا الحكم من الجهة العامة منوط في القانون برئيس الوزراء، ومقتضى
التنفيذ طرد الشيخ علي عبد الرازق من منصب القضاء الشرعي التابع لوزارة
الحقانية، ورئيس الوزراة الآن في أوربة، ونائبه يحيى باشا إبراهيم وزير المالية،
وهو الذي بلغ وزير الحقانية الحكم مع توقيعه عليه بالتنفيذ، وكان الواجب على
وزير الحقانية إخراج الشيخ علي عبد الرازق بمقتضاه من القضاء من غير تريث،
ولكنه لم يفعل، بل أحاله على لجنة قسم القضايا في الوزارة مبينًا لها ما عنده من
الإشكال في تنفيذه لترى رأيها فيه. وهذا نص عبارته في ذلك نقلاً عن جريدتهم
(السياسة)
قال وزير الحقانية بعد الديباجة:
(وحيث إننا نتشكك كثيرًا (أولاً) : فيما إذا كان نص الفقرة الأولى من
المادة ١٠١ من قانون الأزهر نمرة ١٠ سنة ١٩١١ يقصر الموضوع الذي تختص
هيئة كبار العلماء بالنظر فيه على الأفعال الشائنة التي تمس كرامة العالم: كالفسق
وشرب الخمر، والميسر، والرقص، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالسلوك الشخصي،
أم هو يتعدى ذلك إلى الخطأ في الرأي في الأبحاث العلمية والدينية، من مثل ما
نسب للشيخ علي عبد الرازق، ووقعت المحاكمة فيه.
(ثانيًا) : على فرض أن اختصاص تلك الهيئة شامل - بمقتضى النص -
لجريمة الفعل الشائن، الماس بكرامة العالم، ولجريمة الرأي معًا، فهل هذا النص
مستمر النفاذ للآن فيما يتعلق بجريمة الرأي ولا تأثير لأحكام المواد ١٢ و١٤
و١٦٧ من الدستور فيها؟
(ثالثًا) : إن كان نص الفقرة المذكورة عامًّا يشمل الجريمتين، وكان لا
تأثير لشيء من أحكام الدستور فيه، وكان الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء
بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء صحيحًا، فهل الفقرة الأخيرة من
المادة ١٠١ المذكورة - وهي المنصوص فيها على العقوبات التبعية - هي أيضًا
واجبة التنفيذ لم ينسخها شيء من أحكام مواد الدستور المذكورة أو غيرها من
أحكامه) .
(لذلك نرسل لجنابكم أوراق هذا الموضوع رجاء عرضها على لجنة قضايا
الحكومة مجتمعة لدراسته وموافاتنا برأيها فيه، والرجاء عند البحث ملاحظة سلطة
شيخ الجامع الأزهر المبينة بالمادة الرابعة من القانون المذكور، فإنها بالنسبة للعلماء
خاصة بالإشراف على سيرتهم الشخصية، وكأنه يظهر لنا أن الفقرة الأولى من
المادة ١٠١ المذكورة هي الوازع في هذا الصدد، فقد يجوز أن يفسرها ذلك على ما
يظهر) .
... ... ... ... ... ... بولكلي في ٥ سبتمبر سنة ١٩٢٥
(المنار)
قد كان هذا الاستفتاء من عبد العزيز باشا فهمي مستنكرًا من جماهير الناس
وجميع الأحزاب - ما عدا حزبه طبعًا - واشتدت مؤاخذتهم إياه عليه حتى بما لا
يرضاه الأدب كسنة جريدة حزبه، ومن أقوى وجوه تلك المؤاخذة المنطقية التي
تعنينا أن الاستفتاء من وزير مسلم في حكم صدر من كبار علماء الإسلام في
موضوع متعلق بدين الإسلام، وأن اللجنة المستفتاة أكثر أعضائها غير مسلمين
وغير وطنيين - إن من وجوه الاستفتاء تفسير ما يسمى كرامة العالم الديني، هل
يشمل مثل الآراء التي نشرها المحكوم عليه في كتابه أم لا؟ وهل الحكم الصادر
من كبار هيئة العلماء صحيح أم لا؟
الحق أقول: إن استفتاء عبد العزيز فهمي باشا لهذه اللجنة غريب، فإذا كان
هو على علمه الإجمالي بالشريعة، ونشأته الإسلامية (يشك كثيرًا) في كون ما
فهمته هيئة كبار العلماء وغيرهم من علماء الشرع وسائر الطبقات المسلمة، من
كون تلك الآراء مشتملة على الطعن في القرآن وفي النبي عليه الصلاة والسلام،
وإهانة للمسلمين وللإسلام؛ أي: ردة: وخروجًا من الملة - إذا كان هو على علمه
وذكائه وإسلامه يشك كثيرًا في كون هذه الآراء تمس كرامة العالم المسلم: كالشرب أو
اللعب أو الرقص، فماذا ينتظر من موسيو فلان ومستر فلان، ولا سيما بعد إبداء
رأي الوزير المسلم ما بين شك وجزم؟ أيعقل أن يصدر عن مسلم عامي الشك في
كون إهانة الإسلام والمسلمين من عهد الخلفاء الراشدين إلى الآن، والقول بجعل
حكومتهم لا دينية - أهون من الرقص الذي قد يكون مباحًا، وقد يكون
مكروهًا للتنزيه؟ وإنما يعد مخلاًّ بكرامة العالم الديني مروءة وعرفًا فقط.
يغلب على ظني أن عبد العزيز باشا فهمي لم يقرأ هذا الكتاب الرجس الذي
هو شر من كتب ابن الراوندي الزنديق المشهور، وأن جريدة السياسة قد خدعته
بزعمها أن ليس في الكتاب إلا آراء في شكل حكومات الخلفاء، ونظام القضاء،
وكونها ليست من أمور الدين التي تعبد الله بها المسلمين، ولم أروجها لحسن الظن
به أقوى من هذا.
***
عزل وزير الحقانية
لما علم رئيس مجلس الوزراء بالنيابة (يحيى باشا إبراهيم) بأن عبد العزيز
باشا فهمي امتنع من تنفيذ الحكم، وجعله موضعًا للاستفتاء والبحث، عرض الأمر
على جلالة الملك، فوافق على عزله من وزارة الحقانية، ونوط أمرها مؤقتًا بوزير
المعارف، وأصدر مرسومًا بذلك؛ فقامت قيامة (الحزب الحر الدستوري) لذلك،
وقرر عدم مساعدة الوزارة، واستقال سائر وزراء الحزب، وكانوا يظنون أن
استقالتهم لا تقبل لمكانتهم عند الإنكليز، ولأن الوزارة مؤلفة من حزبهم ومن حزب
الاتحاد الجديد - وهما متفقان على مقاومة سعد باشا زغلول وحزبه أو (الوفد
المصري) ، وأن حزب الاتحاد وحده لا يقوى على المقاومة، ولا يستطيع
النهوض بأعباء الوزارة - ولكن جلالة الملك لم يتلبث في قبول استقالتهم
واستقالة إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية، وأقوى خصوم سعد زغلول باشا
وهو منهم فعلاً لا رسمًا، وتألفت الوزارة من الاتحاديين وحدهم، واشتد طعن كل
من الحزبين وجرائدها في الآخر. ومن أنصار جريدة (الاتحاد) ، وحزبها علماء
الدين الذين يصفون محرري السياسة وأركان حزبها باللادينيين وبالملاحدة، وما
كنت لأذكر - هذا على اجتنابي الخوض في مسائل الأحزاب المصرية إلا للإشارة إلى
خيبة أمل الشيخ علي عبد الرازق، ومكانة انتصار أهل الدين على خصومهم في
أول معركة علنية، كان الفصل فيها بصفة رسمية، لهذا اشتغلت الجرائد منذ تقرر
تنفيذ الحكم برفع برقيات التهاني والثناء من هيئة كبار العلماء بالأزهر، ومن علماء
سائر المعاهد الدينية، ومن الطبقات الإسلامية المختلفة إلى جلالة الملك أولاً بالذات،
وإلى رئيس الوزراء بالنيابة، على تأييد الدين، وخذل (الإلحاد والملحدين) ،
ولا تزال تنشر المقالات الكثيرة في ذلك.
***
حكم المجلس المخصوص بوزارة الحقانية
بتنفيذ الحكم بالفعل وعزل الشيخ علي عبد الرازق من القضاء
(بجلسة تأديب قضاة المحاكم الشرعية بوزارة الحقانية ببولكلي، في يوم
الخميس ١٧ سبتمبر سنة ١٩٢٥- ٢٩ صفر سنة ١٣٤٤ الساعة العاشرة وثلث
صباحًا تحت رئاسة حضرة صاحب المعالي علي ماهر باشا وزير الحقانية بالنيابة،
وبحضور كل من حضرات: حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ
عبد الرحمن قراعة، وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد العطار نائب المحكمة
العليا الشرعية، وحضرتي الشيخ محمد مخلوف رئيس التفتيش الشرعي، والشيخ
عبد الجليل عشوب مفتش المحاكم الشرعية أعضاء، وحضرة أحمد محمد حسن
أفندي مدير إدارة مكتب وزير الحقانية.
صدر الحكم الآتي في قضية تأديب الشيخ علي عبد الرازق.
***
المجلس
(بعد الإطلاع على قرار هيئة كبار العلماء الصادر بتاريخ ٢٢ محرم سنة
١٣٤٤ الموافق ١٢ أغسطس سنة ١٩٢٥) .
(وعلى الخطاب المرسل من الشيخ علي عبد الرازق لمعالي وزير الحقانية
بتاريخ ٥ سبتمبر سنة ١٩٢٥ الذي يبين فيه أوجه دفاعه) .
(ومن حيث إن المتهم قد أعلن قانونًا بتاريخ ١٠ سبتمبر سنة ١٩٢٥
للحضور أمام هذا المجلس ولم يحضر) .
(وبما أن فضيلة شيخ الجامع الأزهر ومعه أربعة وعشرون عالمًا من هيئة
كبار العلماء، قضوا بالإجماع في ٢٢ محرم سنة ١٣٤٤ الموافق ١٢ أغسطس سنة
١٩٢٥ بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، بسبب ما أذاعه في كتابه
(الإسلام وأصول الحكم) .
(وبما أن المادة الأولى بعد المائة من القانون رقم ١٠ سنة ١٩١١ الخاص
بالجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية ترتب على هذا الحكم طرد
المحكوم عليه من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أية جهة كانت) .
(وبما أن مجلس تأديب القضاة الشرعيين (المنصوص عنه في قرار وزير
الحقانية الصادر في ١٨ أبريل سنة ١٩١٧) ، وهو الذي يملك عزل القضاة
الشرعيين بصفة نهائية، هو كذلك بطبيعة الحال الجهة المنوط بها تنفيذ مثل هذا
الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء) .
(وبما أنه يلزم البدء بتعرف وتحديد ماهية ما لمجلس التأديب من السلطة
حين ينعقد لتنفيذ الحكم الصادر تطبيقًا للمادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع
الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية، لمعرفة ما إذا كان مجلس التأديب
مختصًّا بالنظر في موضوع التهمة، وبالفصل فيما إذا كان الحكم الصادر فيها من
هيئة كبار العلماء صحيحًا أو غير صحيح، وفيما إذا كان العالم الذي حوكم قد
ارتكب بالفعل أمرًا يوقعه تحت طائلة القانون، أو أن هنالك تجاوزًا في التطبيق
القانوني) .
(وبما أنه من المسلم الذي لا ريب فيه أن مجلس التأديب لا يملك شيئًا مما
تقدم، إذ من المبادىء العامة المقررة أن الهيئات القضائية المختلفة تعتبر في
الدولة على حد سواء، وليس بينها في دوائر اختصاصها أي تفاوت في الاعتبار) .
(وبما أن الفقرة الثانية من المادة الأولى بعد المائة الآنف ذكرها تنص على
أن الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء لا يقبل الطعن، فيلزم من هذا أنه ليس لأية
سلطة قضائية أن تلغيه أو تبحث عن صحته، كما يلزم منه أن سلطة مجلس
التأديب مقصورة حتمًا على النظر فيما يترتب على حكم هيئة كبار العلماء من
النتائج القانونية) .
***
عن الاختصاص
(وبما أن الدفع بعدم اختصاص هيئة كبار العلماء بالنظر في موضوع كتاب
(الإسلام وأصول الحكم) مبناه أن عبارة (ما لا يناسب وصف العالمية) الواردة
في المادة الأولى بعد المائة من القانون رقم ١٠ سنة ١٩١١ لا تتناول إلا الأفعال
الشائنة التي تمس كرامة العالم: كالفسق، وشرب الخمر، والميسر، وما أشبه ذلك
مما يتعلق بالسلوك الشخصي، وأن هذه العبارة لا يمكن أن تتعدى ذلك إلى الخطأ
في الأبحاث العلمية الدينية) .
(وبما أن الدفع على فرض صحته وقبوله لا يطعن في اختصاص هيئة كبار
العلماء، وليس له من نتيجة سوى ما قد يفهم من أن حكم الهيئة أخطأ في تطبيق
القانون، أما اختصاص الهيئة فلا يطعن فيه؛ لأن الشيخ علي عبد الرازق كان من
العلماء، ولأن الفعل الذي حوكم من أجله مما قد يقع من العلماء ويتصل بهم، ولأن
القانون أجاز لهيئة كبار العلماء محاكمة العالم أيًّا كانت وظيفته أو مهنته) .
(وبما أنه على فرض وقوع خطأ في التطبيق القانوني، فليس من
اختصاص أية سلطة أخرى أن تنظر فيه) .
(على أنه ليس ثمة ما يدل على وقوع خطأ في تطبيق القانون؛ لأن عبارة
(ما لا يناسب وصف العالمية) جاءت عامة مطلقة من كل قيد بحيث لا يمكن
قصرها على السلوك الشخصي، فضلاً عن أن وصف العالمية يفترض بذاته فوق
السلوك الشخصي كفاية علمية خاصة، وعقيدة معينة. ولا شك أن هيئة كبار
العلماء هي المختصة دون غيرها بالفصل فيما إذا كانت هذه العقيدة مطابقة أو غير
مطابقة للدين، وفيما إذا كان صاحبها قد ارتكب أو لم يرتكب ما لا يناسب وصف
العالمية) .
(يؤيد ما تقدم أن هيئة كبار العلماء ليست هيئة مدنية، ولا مجرد هيئة
أخلاقية حتى يقصر عملها على مراقبة السلوك الشخصي للعلماء، وإنما هي قبل
كل شيء هيئة دينية، الغرض من تكوينها رعاية أصول الدين ومبادئه، وصيانتها
من كل عبث) .
(وبما أنه مسلم فوق ذلك أن لكل جماعة ناموسًا خاصًّا، وحقًّا مقررًا يجيز
لها أن تطرد من هيئتها كل عضو ترى أنه غير لائق بها، وهذا الحق الطبيعي
ثابت لها بدون احتياج إلى نص وضعي يقرره. ويبنى على ذلك أن هيئة كبار
العلماء يصح لها أن تخرج أي عالم من زمرة العلماء ولو لم يكن ثمة قانون ينص
على ذلك [٢] ) .
وبما أنه لا معنى كذلك للاحتجاج بالمواد ١٢ و١٤ و١٦٧ من الدستور؛ لأن
المادة ١٢ التي تنص على أن (حرية الرأي مكفولة.. . في حدود القانون) لا تفيد
سوى أن لكل إنسان الحق في أن يعتنق الدين الذي يريده، أو يكون لنفسه الاعتقاد
الذي يرضاه، أو يعرب عن رأيه بالقول، أو الكتابة أو التصوير بدون أن يتعرض
للعقاب بسبب اعتناقه دينًا من الأديان، أو إبانته عن رأي من الآراء ما دام أنه لم
يخرج عن حدود القانون.
(وبعبارة أخرى: لا تفيد هاتان المادتان سوى أن كل إنسان له أن يتمتع
بحقوقه الوطنية، كحق الترشيح للانتخاب أو التصويت فيه مهما كان دينه أو مذهبه
أو رأيه، وهذا لا ينافي أن الحكومة مثلاً لها أن تفصل من خدمتها كل وطني
يرتكب أمورًا معينة، ولهذا قيدت المادة ١٤ من الدستور حرية الرأي بأنها الحرية
المستعملة في حدود القانون) .
(ويلزم مما تقدم أن الذي حظره الدستور إنما هو المحاكمة الجنائية، أو
الحرمان من الحقوق الوطنية؛ بسبب اعتناق دين أو عقيدة ما، أما صفة العالم أو
صفة الموظف فلا مانع من أن تكون محلاًّ لتقنين خاص، وهذا التقنين لا يتعارض
مع الدستور في شيء ما) .
(وبما أنه لا صحة للقول: بأن الفقرة الأخيرة من المادة الأولى بعد المائة،
وهي المادة السابق الإشارة إليها، والمنصوص فيها على العقوبات التبعية قد نسخها
الدستور؛ لأن الدستور قد نص في المادة ١٦٧ على استمرار العمل بالقوانين
والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات، ما دام نفاذها متفقًا مع المبادىء المقررة
فيه. وظاهر أن قانون الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية لا يوجد فيه ما
يخالف تلك المبادئ كما سبق بيانه) .
(وفوق ذلك فما دامت الوظيفة التي يشغلها الشيخ علي عبد الرازق من
وظائف العلماء؛ أي: وظيفة دينية، فهي لذلك لا تحل إلا لمن كان مقرًّا له بأنه من
رجال الدين) .
(وبما أن المجلس يرى أن يقرر إثبات عزل الشيخ علي عبد الرازق من
اليوم الذي صدر فيه قرار هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرة العلماء) .
فلهذه الأسباب
(قرر المجلس بإجماع الآراء إثبات فصل الشيخ علي عبد الرازق المذكور
من وظيفته اعتبارًا من يوم ٢٢ محرم سنة ١٣٤٤ (١٢ أغسطس سنة ١٩٢٥) ،
مع مراعاة عدم حرمانه من حقه في المكافأة) اهـ.
... ... ... ... ... ... ... الأعضاء ... ... رئيس المجلس
... ... ... ... ... ... ... إمضاءات ... إمضاء
***
تضمن الحكم على الشيخ علي عبد الرازق
الإفتاء بارتداده عن الإسلام
إن هذا الحكم له صفة قانونية يجب تنفيذها على الحكومة المصرية، وقد
فعلت. وله صفة الفتوى، وهي بيان الحكم الشرعي في هذا الكتاب ومؤلفه، وكل
من يعتقد اعتقاده في المسائل المخالفة لنصوص القرآن القطعية المعنى، وغير ذلك
من الأمور المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة - وهو الردة عن
الإسلام، والخروج من الملة الإسلامية، وهيئة كبار العلماء لا تملك الحكم بالردة
في هذه البلاد، وإنما تملك الفتوى ببيان الحكم الشرعي؛ إذ لا يحتاج هذا إلى تقريره
بنص قانوني، وهي لم تصرح بأن الشيخ علي عبد الرازق ارتد عن الإسلام بلفظ
الردة أو الارتداد، وإنما ذكرت بعض ما يدل على ذلك باتفاق المذاهب الأربعة
التي هم كبار علماؤها في الأزهر، بل بإجماع المسلمين أيضًا؛ لأجل أن يحتاط إلى
نفسه، ويرجع إلى دينه بالرجوع عن ذلك، ولئلا يغتر أحد من المسلمين بشيء من
ضلاله، وقد كان بعض الجاهلين بأحكام الشرع استنكر قول هيئة كبار العلماء قبل هذا
الحكم: إنه لا يصدر مثله عن مسلم فضلاً عن عالم، وهذا الحكم بما فيه من التفصيل
يبين لهم ذلك، وإن لم يجعل تفسيرًا لتلك الكلمة البليغة، على أنها ليست بنص في
الردة كأقوالهم في أسباب هذا الحكم.
ولكن صاحب هذا الكتاب ليس عنده من العلم ولا من الحجة إلا الخلابة
اللفظية، والتلبيس والتمويه والإفك اللفظي، ومن ذلك أنه كتب مقالة نشرتها له
نصيرته (جريدة السياسة) في صدر عددها الذي نشرت فيه صورة الحكم، وهو
المؤرخ في ١٦ صفر، زعم فيها أن كبار العلماء تراجعوا عن اتهامه بشيء (لا
يصدر من مسلم) ، بعد أن ذكر أنه كان خائفًا وجلاً أن يقرروا خروجه من زمرة
المسلمين، (وإن كان قد تبرأ منهم في كتابه مرارًا) ، وهو يعلم أنهم قرروا
خروجه من ملة الإسلام، وأراد أن يضل عن ذلك العوام، وإلا كان مثله كمثل من
قيل له: من أكل السمك وشرب العسل فدخل الحمام جنّ؛ فأراد أن يجرب ذلك
لضعف عقله ففعل فجن، فخرج من الحمام إلى السوق عاريًا، وطفق يقول للناس:
(يقول: من فعل كذا وكذا جن، وها أنا ذا فعلت ولم أجن! ! وإننا نذكر بعض
عباراتهم:
(١) التصريح في الحيثية الأولى بأنه ألغى من الدين شطره، وهو الأحكام
المتعلقة بأمور الدنيا، وإن كان الكثير منها من المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة، أقول: وكل ما كان كذلك فجحده ردة لا خلاف فيها.
(٢) التصريح في الحيثية الثانية وغيرها بأن الشيخ علي عبد الرازق (لا
يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز، فضلاً عن صريح الأحاديث
الصحيحة المعروفة، ولا يمنع أن ينكر معلوم من الدين بالضرورة (راجع ص
٣٧٢ من المنار) .
(٣) في الحيثية السابعة بيان لما ذكر في غيرها من جعله الحكومة
الإسلامية لا دينية، لا تقوم أحكامها السياسية ولا القضائية على الدين، وتصريحه
بأن حكومة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وسائر الخلفاء الراشدين لا دينية،
وأنه لا يمنع المسلمين مانع من هدمها، واستبدال أي نوع من الحكم بها، ولو
الحكم البلشفي، وتلك إباحة لهدم أحكام القرآن، واستحلال لما هو محرم بالإجماع،
ومعلوم من الدين بالضرورة.
(٤) التصريح فيها بأن في كلامه في إجازة النبي - صلى الله عليه وسلم -
لما كان في قبائل الجاهلية من أحكام وفوضى ونظام (طعنًا صريحًا على النبي -
صلى الله عليه وسلم - وعلى كتاب الله تعالى) ، (راجع أول ص٣٨٢) ،
والطعن فيهما ردة صريحة بالإجماع.
هذا وإن البرقيات التي رفعها العلماء إلى الملك ورئيس الوزارة على عنايتهما
بتنفيذ الحكم صريحة فيما يعتقدون من اشتمال هذا الكتاب على الكفر والإلحاد،
وكتب بعضهم مقالات صرحوا فيها بالتكفير والردة: كالشيخ محمد شاكر، والشيخ
يوسف الدجوي، ونكتفي من البرقيات الكثيرة بواحدة وهي الرسمية الخاصة بالملك:
صاحب السعادة كبير الأمناء بالنيابة بالإسكندرية
أرجو أن ترفعوا إلى السدة العلية الملكية عني وعن هيئة كبار العلماء وسائر
العلماء فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء؛ على أن حفظ الدين في عهد جلالة
مولانا الملك من عبث العابثين وإلحاد الملحدين، وحفظت كرامة العلم والعلماء،
وإننا جميعًا نبتهل إلى الله ونضرع إليه أن يديم جلالة مولانا الملك مؤيدًا للدين،
ورافعًا لشأن الإسلام والمسلمين، وأن يحرس بعين عنايته حضرة صاحب السمو
الأمير فاروق ولي عهد الدولة المصرية، إنه سميع مجيب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
((يتبع بمقال تالٍ))