للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسرار البلاغة أو فلسفة البيان
(تابع لما نشر بالجزء السادس)

وإذا كان هذا ثابتًا موجودًا، ومعلومًا معهودًا، من حال الصور المصنوعة،
والأشكال المؤلفة، فاعلم أنها القضية في التمثيل واعمل عليها، واعتقد صحة ما
ذكرت لك من أخذ الشبه للشيء مما يخالفه في الجنس، وينفصل عنه من حيث
ظاهر الحال، حتى يكون [١] هذا شخصيًّا يملأ المكان، وذاك معنى لا يتعدى
الأفهام والأذهان، وحتى إن هذا إنسان يعقل، وذاك جماد أو موات لا يتصف بأنه
يعلم أو يجهل، وهذا نور شمس يبدو في السماء ويطلع، وذاك معنى كلام يوعى
ويسمع، وهذا روح يحيا به الجسد، وذاك فضل ومكرمة تؤثر وتحمد، كما قال:
إن المكارم أرواح يكون لها ... آل المهلب دون الناس أجسادًا
وهذا مقال متعصب منكر للفضل حسود، وذاك نار تلتهب في عود، وهذا
مخلاف، وذاك ورق خلاف [٢] كما قال ابن الرومي:
بذل الوعد للأخلاء سمحًا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء
وهذا رجل يروم العدو تصغيره والازراء به، فيأبى فضله إلا ظهورًا، وقدره إلا
سموًّا، وذاك شهاب من نار تصوب وهي تعلو، وتخفض وهي ترتفع، كما
قال أيضا:
ثم حاولت بالمثيقيل تصغيري ... فما زدتني سوى التعظيم
كالذي طأطأ الشهاب ليخفى ... وهو أدنى له إلى التضريم
وأخذ هذا المعنى من كلام في حكم الهند، وهو أن الرجل ذا المروءة والفضل
ليكون خامل المنزلة غامض الأمر فما تبرح به مروءته وعقله حتى يستبين ويعرف
كالشعلة من النار التي يصوبها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعًا.
هذا هو الموجب للفضيلة والداعي إلى الاستحسان، والشفيع الذي أحظى
التمثيل عند السامعين، واستدعى له الشغف والولوع من قلوب العقلاء الراجحين،
ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للمتمثل، ولم تتصادف [٣] هذه الأشياء المتعادية
على حكم المشبه، إلا لأنه لم يراع ما يحضر العين، ولكن ما يستحضر العقل،
ولم يعن بما تنال الرؤية، بل بما تعلق الرويَّة [٤] ، ولم ينظر إلى الأشياء من حيث
توعى، فتحويها الأمكنة، بل من حيث تعيها القلوب الفطنة، ثم على حسب دقة
المسلك، إلى ما استخرج من الشبه ولطف المذهب، وبعد التصعد إلى ما حصل
من الوفاق استحق مدرك [٥] ذلك المدح، واستوجب التقديم، واقتضاك العقل أن
تنوه بذكره، وتقضي بالجنى في نتائج فكره [٦] نعم وعلى حسب المراتب في ذلك،
وأعطيته في بعض منزلة الحاذق الصنع [٧] والملهم المؤيد، والألمعي المحدث [٨]
الذي سبق إلى اختراع نوع من الصنعة حتى يصير إمامًا، ويكون من بعده تبعًا له
وعيالاً عليه، وحتى تعرف تلك الصنعة بالنسبة إليه، فيقال: صنعة فلان وعمل
فلان. ووضعته في بعض موضع المتعلم الذكي والمقتدي المعيب في اقتدائه، الذي
يحسن التشبه بمن أخذ عنه، ويجيد حكاية العمل الذي استفاده، ويجتهد أن يزداد.
واعلم أني لست أقول لك: إنك متى ألفت الشيء ببعيد عنه في الجنس على
الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرط، وهو أن تصيب
بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهًا صحيحًا معقولاً، وتجد للملائمة
والتأليف السوي بينهما مذهبًا وإليهما سبيلاً، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب
تشبيهك [٩] من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحس،
فأما أن تستكره الوصف وتروم أن تصوره حيث لا يتصور فلا؛ لأنك تكرن في
ذلك بمنزلة الصانع الأخرق، يضع في تأليفه وصوغه الشكل بين شكلين لا يلائمانه
ولا يقبلانه، حتى تخرج الصورة مضطربة، وتجيء فيها نتوٌّ [١٠] ، ويكون للعين
عنها من تفاوتها نبو، وإنما قيل شبهت ولا تعني في كونك مشبهًا أن تذكر حرف
التشبيه أو تستعير، إنما تكون مشبهًا بالحقيقة بأن ترى الشبه وتبينه، ولا يمكنك
بيان ما لا يكون، وتمثيل ما لا تتمثله الأوهام والظنون.
ولم أرد بقولي: إن الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك
تقدر أن تحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أن هناك
مشابهات خفية يدق المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد استحققت الفضل.
ولذلك يشبه المدقق في المعاني كالغائص [١١] على الدر. ووزان ذلك أن القطع التي
يجيء من مجموعها صورة الشنف [١٢] والخاتم أو غيرهما من الصور المركبة من
أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسب - أمكن ذلك التناسب أن يلائم بينها
الملائمة المخصوصة، ويوصل الوصل الخاص - لم يكن ليحصل لك من
تأليفها الصورة المقصودة.
ألا ترى أنك لو جئت بأجزاء مخالفة لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير
إلى الصورة التي كانت من تلك الأول طلبت ما يستحيل، فإنما استحققت الأجرة
على الغوص وإخراج الدر، لا أن الدر كان بك، واكتسى شرفه من جهتك، ولكن
لما كان الوصول إليه صعبًا، وطلبه عسيرًا، ثم رزقت ذلك وجب أن يجزل لك
ويكبر صنيعك.
ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم
لطف وحسن لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتفاق كان ثابتًا بين المشبه
والمشبه به من الجهة التي بها شبهت، إلا أنه كان خفيًّا لا ينجلي إلا بعد التأنق في
استحضار الصور وتذكرها وعرض بعضها على بعض، والتقاط النكتة المقصودة
منها، وتجريدها من سائر ما يتصل بها. نحو أن يشبه الشيء بالشيء في هيئة
الحركة فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة، والهيئةُ مجردة من الجسم وسائر ما فيه من
اللون وغيره من الأوصاف، كما فعل ابن المعتز في تشبيه البرق حيث قال:
وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقًا مرة وانفتاحا
لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له
عن انبساط يعقبه انقباض، وانتشار يتلوه انضمام، ثم فكر في نفسه عن هيآت
الحركات؛ لينظر أيها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة
الخاصة في المصحف إذا جعل يفتحه مرة ويطبقه أخرى، ولم يكن إعجاب هذا
التشبيه لك وإيناسه إياك؛ لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشد الاختلاف فقط، بل
لأن حصل بإزاء الاختلاف اتفاق كأحسن ما يكون، وأتمه، فبمجموع الأمرين- شدة
ائتلاف في شدة اختلاف - حلا وحسن، وراق وفتن.
ويدخل في هذا الموضع الحكاية المعروفة في حديث عدي بن الرقاع، قال
جرير: أنشدني عدي: *عرف الديار توهمًا فاعتادها* [١٣] فلما بلغ إلى قوله:
(تزجي أغن كأن إبرة روقه) [١٤] رحمته وقلت: قد وقع، ما عساه يقول: وهو
أعرابي جلف جاف؟ فلما قال: *قلم أصاب من الدواة مدادها* استحالت الرحمة
حسدًا [١٥] ، فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح
التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من
محل الظن شبه [١٦] ، وحين أتم التشبيه وأداه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد
موصوف، وعثر على خبيء مكانه غير معروف، وعلى ذلك استحسنوا قول
الخليل، في انقباض كف البخيل.
كفاك لم تخلقا للندى ... ولم يك بخلهما بدعه
فكفٌّ عن الخير مقبوضة ... كما نقصت مائة سبعه
وكف ثلاثة آلافها ... وتسع مئيها لها منعه [١٧]
وذلك أنه أراك شكلاً واحدًا في اليدين مع اختلاف العددين، ومع اختلاف
المرتبتين في العدد أيضًا؛ لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد والآخر من
مرتبة المئين والألوف، فلما حصل الاتفاق كأشد ما يكون في شكل اليد مع
الاختلاف كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد كان التشبيه بديعًا، قال
المرزباني: وهذا مما أبدع فيه الخليل؛ لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من
الحساب مختلفين في العدد متشاكلين في الصورة. وقوله هذا إجمال ما فصلته.
ومما ينظر إلى هذا الفصل ويداخله ويرجع إليه حين تحصيله الجنس [١٨]
الذي يراد فيه كون الشيء من الأفعال سببًا لضده كقولنا: أحسن من حيث قصد
الإساءة، ونفع من حيث أراد الضر. إذا لم يقنع التشاغل بالعبارة الظاهرة،
والطريقة المعروفة، وصور في نفس الإساءة الإحسان، وفي البخل الجود، وفي
المنع العطاء، وفي موجب الذم موجب الحمد، وفي الحالة التي حقها أن تعد على
الرجل حكم ما يعتد له، والفعل الذي هو بصفة ما يعاب وينكر، صفة ما يقبل المنة
ويشكر، فيدل ذلك بما يكون فيه من الوفاق الحسن مع الخلاف البين على حذق
شاعره، وعلى جودة طبعه وحدة خاطره، وعلو مصعده وبعد غوصه، إذا لم يفسده
بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيق في تلخيص الدلالة، وكشف تمام الكشف عن
سرو المعنى وسره [١٩] بحسن البيان وسحره. مثال ما كان من الشعر بهذه الصفة
قول أبي العتاهية:
جُزيَ البخيل على صالحة ... عني لخفته على ظهري
أعلى وأكرم عن يديه يدي ... فعلت ونزه قدره قدري
ورزقت من جدواه عافية ... أن لا يضيق لشكره صدري
وغنيت خِلوًا من تفضله ... أحنو عليه بأحسن العذر
ما فاتني خير امرئ وضعت ... عني يداه مؤنة الشكر
ومن اللطيف مما يشبه هذا قول الآخر:
أعتقني سوء ما صنعت من الرمـ ... ـق فيا بردها على كبدي
فصرت عبدًا للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد