للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشرق والغرب

رأي الشيخ محمد عبده أيام المجاورة بالأزهر
في المسألة الشرقية ودسائس أوربة في الشرق
قد أدرك الأستاذ الإمام في بدايته منذ كان مجاورًا في الأزهر من حقائق
السياسة ودسائس الإفرنج في بلادنا من طريق الدين والسياسة، وتفرق كلمتنا،
وتعصبنا الديني - ما لم يدركه بعد نصف قرن أو أكثر إلا الأفراد من المتمرسين
بالسياسة في الشرق، فقد كتب في آخر سنة ١٢٩٣ هـ الموافق لآخر سنة ١٨٧٦ م
مقالاً طويلاً في أعداد من السنة الأولى لجريدة الأهرام الأسبوعية، جاء فيه بعد
كلام في فضائل الأوربيين ومزاياهم ما نصه:
(إلا أن منهم من يتخذ هذه الفضائل اسمًا، ويتقلدها رسمًا، لتكون آلة
لأعمالهم، وسلمًا لسوء آمالهم، خصوصًا الملك الكبير ذا الأرض الواسعة،
والأقطار الشاسعة، الذي قد منح أهل مملكته تمام الحرية، حتى إنه لا يبيح لهم أن
تدرس العلوم الفلسفية في مدارسهم الرسمية، بل الأهلية، بل إن أراد أحدهم أن
يتبصر، اتخذ له كمينًا وتستر، وأولى أهل ملته من مقتضيات الحنو والشفقة، ما
تنفطر منه قلوب أهل الرأفة والرقة، خصوصًا أهل دينه الكاثوليك الذين مزقهم كل
ممزق، ونفى كثيرًا منهم إلى حيث لا يخاف ولا يفرق، وما ترك وسيلة إلى
الاسترقاق إلا أقامها، ولا ذريعة إلى استعباد غيره إلا قص قصصها، كيف لا وقد
تقلد رتبة البطركية التي هي مقدمة ركب الألوهية، فقام بمأموريته المقدسة ليؤدي
بعض ما أسسه، وكتبه على نفسه من القيام بحقوق الإنسانية والتهافت على تقويم
الحق على الوجه الأحق الأليق، فأوقد نيران الفتنة في بيوت أهل دينه الفقراء
المحتاجين إلى رعاية دولتهم؛ ليجردهم من ذل الشوكة والقوة، ويلبسهم عز الضعف
والمهنة، وينقذهم من ربقة الحرية التي قد نالوها حيث هم على حفظ عهودهم
عاكفون، وعلى إصلاح أحوالهم الداخلية متألبون، يتدللون على دولتهم تدلل
المعشوق على العاشق، وينالون منها ما ينال الولد من والده، أو الحبيب من محبه
الصادق، وليستخلصهم من كل ذلك إلى فضاء عدله الذي قد بسط غطاءه على
أنفاس أهل مملكته، وبحبوحة الحرية التي قد استعبد بها أبناء ملته، وقد صادقه
على ذلك جل الممالك القاسطة، لما لكل واحد منهم من ساقطة ينتظر بها الالتقاط،
وبذلك الملك المقدس في نيلها يكون الارتباط، وهم في ذلك ينادون ياللإنسانية،
وياللحقوق المدنية، وتترنم منهم الخطباء على منابر الظلم والإجحاف بتلاوة آيات
الإقلاع عن الإلحاد واقتناء شرف الإنصاف.
(وإني لست الآن معهم في ميدان المحاكمة حتى أنبئهم أنه قد فعل ذلك بأبناء
دينهم بل أبناء أوطانهم، وهم بمرأى من ذلك ومسمع، ما لا يصح في مثل هذه
الأيام أن يسمع، وقد سودت بذلك وجوه الصحف، ومع ذلك لم يتحرك فيهم عرق
الحماسة، ولا فتحوا في ذلك سجلات السياسة، وإن أمثال أولئك الكل لا يليق بهم
مع هذه الدعوى التي بها منعوا بيع الرقيق قضاءً لحق المساواة، أن يجعلوا تلك
الرأفة والرقة خاصة ببعض المقاطعات، أو منحصرة في جهة من الجهات، بل
كان من الواجب أن ينظروا من وراء حجاب إلى خيوه وخوقند، كما نظروا جهارًا
إلى الصرب والجبل الأسود، فإني لو تكلمت في هذا يطول، أو يجيبني مجيب
بأنهم إلى الآن لم يبلغوا حد الكمال، حتى يفعلوا أفعال الرجال، ولا يتحرشون
تحرش المغتال، وللإنسان كمال سوى ما هم فيه، وتلك التي تتوسم فيها العظم
مباديه.
ولكن أعجب لجعل المسألة شرقية وغربية، فإن العاقل يتفرس في ذلك
أسرارًا خفية، تنبئنا عنها التواريخ القديمة والحديثة، وتحكي ما كانت تفعله
القياصرة بالأكاسرة، والأكاسرة بالقياصرة، حيث كل من الشرقيين والغربيين -
مع سعة أوطانه - ينتهز الفرصة للوثوب على الآخر، فهذا حقد بالميراث جدير
بالاكتراث، إلا أنه لما جمعت الشوكة أسبابها وتوجهت نحو المغرب، وتركت
الشرقيين بحمى يثرب، قويت من الغربيين المهاجمة، وبطلت من الشرقيين آثار
رغبات عدو بلا معادي، ومبارز لا تصده الدواعي والعوادي، فخفي الأمر على
غير بصير، وذهب على غير خبير.
وما أوصل الشرقيين إلى هذا الحد سوى تفرق الآراء، واختلاف الأهواء،
حتى إن بعض الناس ممن لا يُبالى بهم، يتهللون بسوء أحوالهم، ويبتهجون إذا
بشروا بتسلط أعدائهم، وما ذاك إلا من تداني الهمم، وتراكم الظلم، والوقوع في
حفرة الحيوانية، والانحطاط عن درجة الإنسانية، حيث فقدت منهم الغيرة والحمية،
وذلك بدل أن ينبذوا في مثل هذه الأوقات جميع التعصبات الدينية، والاختلافات
المذهبية لحماية أوطانهم ووقايتها من وطأة أعدائهم، الذين لا يرومون من
الاستيلاء علينا معاشر الشرقيين إلا توسعة ممالكهم، والتمكن من استعبادنا بالدخول
تحت حوزتهم، لنكون لهم خزينة عند الافتقار، وترسًا يقون به أوطانهم ورجالهم
مما عسى يبرزه الاستقبال، وبعد ذلك يكون عارًا علينا أي عار، يذهب بهاؤكم،
يتشفى منكم عدوكم، وينهدم بناؤكم، وينقطع من العزة رجاؤكم، أنتم يا معشر
الشرقيين أبناء وطن واحد، تتشاركون في المنافع والمضار وسائر المقاصد، لا
يمس أحدكم خير إلا نال الآخر منه مثل ما نال صاحبه، ولا توجه إليه خير إلا
وهو إلى الآخر يتعاقبه، فما لهممكم تضاءلت، وخطباؤكم تمثلت.
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قَرَّ عينًا بالإياب المسافر
ولم تخاطبوا عدوكم من صميم فؤادكم ...
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... إليك ليوث الغاب من كل جانب
واذكروا إذ تسطر أحوالكم في صحف الرجال، ويستقبل بها ما يأتي من
الأجيال، فإن أنتم أبرزتم حميتكم، ورعيتم حق وطنكم الذي منه ابتدئتم، وفيه
سكنتم، ودافعتم عنه ببذل الأرواح فضلاً عن حسن المقال، وبالجملة سلكتم مسالك
الرجال لا تهوس الأطفال، فتلك مآثر إنسانية تنالون بها مجدكم وفخاركم، وتمتلكون
سعدكم، وحلية يختال فيها من تعقبونه بعدكم، وإلا فالعار والشنار لاحق بكم وليس
إلا أن يحثى تراب الذل في وجوه أعقابكم، وانظروا إلى أحوال سلفكم؛ لتكون
مرآة لأحوالكم، فإن قال قائل:
إن الديانات ألقت بيننا إحنًا ... وأودعتنا أفانين العداوات
فكل واحد منا يتوقد من صاحبه؛ لمخالفته له في مذهبه، ومناوأته إياه في
مشربه، فكيف تميل تلك القلوب لرفع الشقاق، وجمع كلمة الاتفاق، والتخلص من
خسة النفاق؟ فنجيبه: إن مثلنا في ذلك مثل أخوين تولدا من بطن واحد وأصل
واحد، قد يقع بينهما بعض المنازعات المنزلية والمناوشات المعاشية، فيأخذ كلاًّ
منهم ما شاء من الغيرة والحمية، ويكاد أن يفتك كل بالآخر، ومع كل ذلك إنهما
عند اقتراح أجنبي على أحدهما يقوم الآخر بنصرته، ولا يحجم عن رد تبعته،
فتلك العداوات الجزئية لا يصح لدى العاقل أن تضر بمصالحنا الكلية، وعلى
فرض أن لو عدت تلك المزاحمات شيئًا يذكر، وأمرًا يصح إليه النظر، فما أشنع
حال من ينتقم بيد الغير، ويلحق نفسه وعقبه عار السفاهة والضير، أين أنتم من
(تيمستكليس) اليوناني الذي بعدما صنع المكايد مع (دارا) وهزمه، وجاهد ما
جاهد في حماية وطنه، أقصاه اليونانيون وطردوه، وأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه،
فالتجأ إلى (دارا) يستنجده مما اعتراه، فأعظم منزلته، وأكرم مثواه، ثم إن
(دارا) طلب منه أن يحشد جيشًا على اليونانيين، فقال: وجهني إلى أي مكان
قاصٍ أو دانٍ سوى بلاد اليونان، فإنها وطني ومقر تربيتي، لا ترضى همتي
بأن أقدمها لغير أمتي، وإنه وإن كان أهل اليونان طردوني، ولكن تراب اليونان ما
صنع معي قبيحًا، فلما أغلظ عليه (دارا) في الطلب نادته هواتف الإنسانية إن
ذلك من الموت أصعب، فاختار الموت على الحياة، وتناول السم ومات. ألا
فانتبهوا من سنة الغفلة، واتخذوا لكم من الإنسانية ظلة، ومن الفضائل خلة
واحذروا، وبالحمية الوطنية اتقوا واعتصموا. اهـ.

(المنار)
ليتأمل القراء وخاصة أهل سورية ولبنان آراء هذا الرجل التي كتبها منذ
ستين سنة وهو مجاور الأزهر، يجدها عين ما انتهى إليه بحث المحققين من
عقلاء الشرقيين بعد مكابدة الأحداث واختبار أوربة، ولا يزال الكثيرون من أهل
بلادنا مخدوعين وراضين بأن يكونوا آلات بأيدي الأجانب.