للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اللادينيون في تونس ومصر
وكتاب علي عبد الرازق

ما فتئت جريدة السياسة مصرة على ضلالها في التنويه بهذا الكتاب والثناء
عليه وعلى مؤلفه، فذكرت أخيرًا أنها جاءها من مراسلها الخاص بتونس أنه كان
للضجة التي قامت حولهما بمصر رنة استياء بين طبقات الأحرار والأدباء
والمفكرين (أي: اللادينيين) ، وكذلك كان لموقف حزب الأحرار الدستوريين
وجريدة (السياسة) الذي وقفاه انتصارًا لحرية الرأي وحرية النقد العلمي النزيه أثر
حسن ووقع جميل لدى الطبقات التي عدته تسلية عما أصاب الإسلام خاصة والشرق
عامة من آثار الموقف الأول المحزن، وعما يلحق الدين القيم دين التسامح من هذه
النظرة الخاطئة التي سينظر إليه بها الغرب بعد تلك الضجة.
(قال المراسل) : لكن بعض الجامدين من علماء وطلبة جامع الزيتونة،
ومن الذين يتبعون خطة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) قد نظروا
إلى المسألة من وجه آخر، واستصوبوا خطة زملائهم الأزهريين، وكان كتاب
(الإسلام وأصول الحكم) حديث نواديهم طول هذه المدة، بل إن بعضهم قد عزم على
الكتابة في الموضوع، وكان أول من بدأ منهم الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
كبير علماء المالكية ورئيس مجلسهم الشرعي (محكمة الاستئناف الشرعية) ، فنشر
سلسلة مقالات في جريدة (النهضة) اليومية، لم تتم إلى اليوم، رد فيها ردًّا مطولاً
على تفصيلات ما جاء في الكتاب، وستنشر (النهضة) - على ما اتصل بي من
بعض محرريها - سلسلة مقالات أخرى بهذا المعنى للأستاذ الشيخ محمد بن
يوسف وكيل المجلس الشرعي الحنفي ووكيل كبير علماء الحنفية أيضًا.
وقد نشرت جريدة (الصواب) في أحد أعدادها كلمة ننقلها لقراء (السياسة)
لأنها تعبر عن الرأي المستنير (؟) في قضية هذا الكتاب. قالت الرصيفة:
برز أخيرًا بمصر كتاب ألفه أحد علماء الدين وسماه (الإسلام وأصول الحكم) .
بحث فيه صاحبه بحثًا فلسلفيًّا، ونظر لما بين يديه من الحجج فاستخدمها
بحرية وصراحة تامة، وقد تعرض فيما حبر إلى مسألة الخلافة، وصرح بأنها
ليست من الدين في شيء، فقامت قيامة رجال الأزهر، وحاكمت مشيخة هذا المعهد
الديني الشيخ المذكور، وبعد مرافعات ومناضلات جردته من رتبته العلمية ورفتته
من كافة الوظائف التي كان يشغلها بدعوى أنه مرق من الدين، ولم يقولوا في حقه
حسب العادة: إنه اجتهد وأخطأ فله أجر واحد) . ا. هـ
هذا وقد منيت مصر بكثير من الحوادث على شاكلة كتاب (الإسلام وأصول
الحكم) وظهرت فيها أفكار شتى من هذا القبيل، وناهيك بما وقع للشيخ محمد
عبده - رحمه الله - وما اتهم به من مخالفة روح الدين الإسلامي بمناسبة فتوى
البرنيطة (القبعة) والتذكية بالبلط وشركة جرشام الإنكليزية لتأمين الحياة،
ومسألة حمل المطلق على المقيد في آيات الربا، ومع ذلك فقد اقتصر المعترضون
على نقد ما قيل، وتتبعه بالرد إن مخطئًا وإن مصيبًا.
وعلى هذا يظهر أن مصر قد سارت إلى الوراء ليس في الحرية السياسية فقط
بل حتى في حرية القول في الشؤون الدينية التي هي ملك مشاع بين المسلمين،
بشرط أن يكون ذلك ضمن دائرة المعقول، وبمقتضى منطوق ومفهوم النصوص
الواردة على لسان صاحب الشرع صلوات الله عليه.
أما سر هذه المصاولة والمقاومة العنيفة والتحامل من مشايخ الأزهر على ما
يشاع، فإنما هو نيل رضا نواح معينة ذات مطامع في تَبْويء منصب الخلافة.
وسواء كان ذلك حقيقة لا ريب فيها أو هو من باب اللغط والإرجاف الذي كان
وما زال شنشنة العامة والبسطاء، فالذي يسوؤنا في هذه الحادثة بنوع خاص إنما
هو تدخل أحد أعيان علمائنا في الأمر ووقوفه موقف الخصم العنود لهذا الشيخ الذي
أراد - وإن أخطأ - خدمة الإسلام، وتخليصه من وصمات طالما ألصقها به
الغربيون، ولله في خلقه شؤون) اهـ.

(المنار)
إن لجريدة السياسة غرضين في الانتصار لهذا الكتاب وصاحبه:
(أحدهما) : سياسي، وهو ما أشار إليه مراسلها بتونس - الناطق بلسانها -
في طعنه بإخلاص علماء مصر، وتعريضه بذلك المقام العالي، وهو ما يتجنب
المنار الخوض فيه.
(وثانيهما) : ديني اجتماعي، وهو أنها لسان حال اللادينيين في مصر،
وأكبر مفاسد هذا الكتاب أنه يحاول هدم الشريعة الإسلامية من طريق الدين
الإسلامي، فهي لهذا تنصره ولم تجد من مخازيه أهون من مسألة الخلافة، فجعلت
جل خوضها فيها. وجميع اللادينيين في مصر وتونس على رأي أمثالهم من الترك
يرون أن الخلافة سياج للشريعة مهما يكن حال المتولي لأمرها، فلا يسهل هدم
الإسلام مع وجودها ولو بصفة ضعيفة.
ونرى مراسل هذه الجريدة قد شايعها على المغالطة في التحزب له بدعوى
المدافعة عن حرية الرأي، فزعم أن مصر رجعت فيها القهقرى، والصواب أنها
زادت فيها قوة بل غلوًّا، فجريدة السياسة طعنت في الدين وفي كبار علماء الإسلام،
ولم ينلها عقاب ولا حجز.
وقد أخطأ المراسل في تسمية الطعن في الدين، وإنكار المجمع عليه من
أحكامه وأصوله - اجتهادًا فيه، وتبع في هذا جريدة الصواب، وكان كل منهما أفضل
من جريدة السياسة باعترافهما أن صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) أخطأ في
اجتهاده، ولكن ما ذكره المراسل من شروط حرية الرأي في الإسلام ينافي كون
الرجل اجتهد فأخطأ؛ لأنه خالف النصوص القطعية والإجماع الصحيح والمعقول،
ولم يدفع شيئًا من شبه أعداء الإسلام عنه، بل كان طعنه فيه أقبح من طعنهم،
ولذلك أثنوا عليه ونوهوا به.
ومن أغرب ما تجرأ عليه هؤلاء اللادينيون بمصر وقلدهم فيه مراسل
جريدتهم في تونس _ تشبيه شر الجناة على الإسلام بخير أنصاره في هذا العصر
الأستاذ الإمام قدس الله روحه، ولم يخجلوا من جعل أنفسهم أولى بالأستاذ الإمام من
أشهر مريديه وأنصاره بمصر وتونس، حتى في المسألة التي ذكروا إنكار بعض
الحامدين على الإمام فيها، وهي الفتوى في ذبائح أهل الكتاب ولبس البرنيطة -
فكما أن صاحب المنار كان أول مريدي الأستاذ الإمام الذين قاموا بنصره وتأييد
فتواه في مصر - كذلك كان العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس، فقد
كتب في ذلك رسالة نفيسة أرسلها إِلَيَّ في وقتها، ونوهت بها ولا تزال عندي بخطه.
ولا يخجل اللادينيون اليوم من جعل مراسل السياسة المجهول وصاحب جريدة
الصواب بتونس أولى بالأستاذ الإمام من صاحب المنار ومن العلامة المذكور
والعلامة الشيخ محمد يوسف، وهما أشهر علماء المالكية والحنفية العارفين بحال
العصر، القادرين على خدمة الإسلام في تونس، فإذا كان هذان الأستاذان العصريان
يطعنان في كتاب الشيخ علي عبد الرازق فما القول في سائر علماء تونس الجامدين
المتعصبين لكل ما في كتب الفقه والكلام، ورد كل ما خالف فقهاء مذاهبهم من غير
نظر في الأدلة.
وكأني بجريدة السياسة تقرن بهما قرينهما في العلم والفضل ومعرفة شؤون
العصر العلامة الشيخ محمد الخضر بن الحسين نزيل مصر؛ لأنه ألف كتابًا من
أنفس الكتب في إظهار جهل الشيخ علي عبد الرازق بالإسلام وجنايته عليه، سماه
(نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) .
فليهنأ الشيخ علي عبد الرازق وجريدة السياسة بانتصار جريدة الصواب لهما
على هؤلاء العلماء الأعلام، وهي كأمثالها من الجرائد الأسبوعية في مصر ليست
مما يعتد بفهمها ورأيها في مثل هذا الكتاب، ولعل صاحبها لو قرأه لما اغتر بخلابة
ألفاظه وشعريَّاته، ولعلم أنه جان على الإسلام متعمد للتنفير عنه لا مخطئ في
اجتهاده مع إرادته تخليصه مما ألصقه به الغربيون من الوصمات، والظاهر لنا أنه
اغتر بكلام جريدة السياسة فكتب ما كتب، ولكنه على عدم قراءته للكتاب لم يتهور
كما تهورت جريدة السياسة، فكانت جريدته أرقى منها.