للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا


استنهاض همم
(٤)
هل تفلت من حبالة المسألة الشرقية شعب من شعوب الشرق؟
نعم قد تفلت من أطماع أوروبا وتخلص من نير تغلبها أمة حديثة في نشأتها
حكيمة في حَزْمها وتدبرها، وهي أمة اليابان ونهضت نهضة الأسد من عرينه
فأماطت غشاوة الجهل عن عينيها، ونزعت رداء الكسل عن منكبيها، وقرنت العلم
بالعمل، وجمعت بين الإرادة والسعي في إنجاز المراد وإنقاذه فاقتبست من أوروبا
فنونها وآدابها النافعة، وأعرضت عن مَقَاذِرِها ورذائلها الفاضحة، فلم يمض عليها
قرن حتى أمر (عظم) أمرها وعظم شأنها وعدت في مصاف الدول العظمى،
وسميت بإنكلترا الشرق. وقد أمست دول أوروبا تتوقى ضيرها، وتتوخى خيرها،
وتخطب مجاملتها، وتود محالفتها. يكفيك أنها قهرت الصين الضخمة وهي منها
بمنزلة الواحد من العشر بل الألف من الصفر (كذا) ولعمري إن الإصبع الواحدة
السليمة تقاوي عشرًا من الأصابع المشلولة ولو عززت بالذراعين.
وهناك دولة أُخرى من دول الشرق وهي وإن لم تكن كهذه في التمدن وحسن
الانتظام واقتباس أساليب الحضارة الأوربية لكنها يوشك أن تأمن على استقلالها
وتحافظ على مركزها، وتستبد بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية وهي أمة الأحبوش
فإن ذلك الشعب تحرشت به دولة إيطاليا وهي دولة متمدنة منظمة وهو شعب فيه
توحش وعلى غير نظام، فعاثت في أطراف بلاده، وعبثت بحقوقه السياسية، ولم
تبال بحرمته، فصمد إليها وصدمها صدمة زحزحتها عن موقف ثباتها، وكادت
تقضي على قوتيها العسكرية والمالية، فانسلت من بلاده، صاغرة انسلال الأفعى من
حجر الورل [١] ولما رأت أوروبا منه ذلك وأنست منه الرشد وتوسمت فيه القوة
ومنعة الجانب، وأحست بأن في نفسه شيئًا من الشهامة وفي دمه بقية من النخوة
والحمية؛ عرفت ذلك له، وحادت عن طريقه، وهابت التعرض له وخلت بينه
وبين نفسه؛ حاسبة أن تلك المزايا التي فيه والأخلاق الشريفة التي قامت بنفسه
كافية لسوقه إلى المدينة، وحمله على تناول العمران الأوروبي وهصر أفانينه،
واقتباس فنونه. وطفقت الدول من يومئذ تتزلف إلى ذلك الشعب وتدلي إليه
بالوسائط المختلفة. إنكلترا تمت إليه بالجوار ووحدة المصلحة في دفع غارة
المهدويين أعدائها وأعدائه، وصد هجمتهم وفلّ غرارهم وروسيا وفرنسا تمتان
إليه بوحدة المذهب، واشتباك الطقوس الكنائسية (كذا) وفائدتها من إمداده وارفاده
اتخاذه ظهيرًا لهما على مساورة إنكلترا في ضفاف النيل، ومقاومة نفوذها ثمة. إلا
أن في بلاد الأحبوش رؤساء وقوادًا تتكالب على تسنم الرئاسة وأحزابًا سياسية، كل
حزب يعضد رأسًا من تلك الرؤوس، ويقوم معه في منازعه العاهل الأكبر
(النجاشي) زمام السلطة والأمر.
وهذا لا ريب يضعف البلاد قليلاً، ويباعد بين قلوب رجال الشعب ويعده لنمو
مكروب الداخلة الأجنبية فيه، ويوقعه تحت أحكام مسألتنا الشرقية، ومن متناولات
فروعها، اللَّهم إلا أن يقال: إن الدين مهما تضاءل أثره في أعمال دول أوروبا
وضعفت عوامله في أفكار ساستها لا بد أن تكون له في بعض الأحايين صولة على
السياسات فيصرف مهابها، وسلطة على القلوب والنفوس؛ فيبعث بعواطفها وأميالها.
فالدين الذي شُدَّت أواصر تعاليمه بين الشعب الحبشي والشعوب الإفرنجية
وتوثقت وشائج طقوسه بين الكهنة ورجال الإكليروس من القبيلتين جدير بأن يشفع
بالأمة الحبشية لدى دول أوروبا ويثير في نفوس تلك الدول عواطف الرأفة والحنان
عليها فتمهلها لبينما تهب من الرقدة، وتستأنيها ريثما تستقيم على الطريقة، بل ربما
تواطأت الدول على أرفادها ومؤازرتها بالأموال والدثور، وتبرعت بإنشاء مدارس
وكليات لتهذيب أبنائها وناشئتها، ومتاحف وكتبخانات لتثقيف عقول طلبتها،
وتخريج شبانها كما يصنع بعض الدول لهذه الآونة في أمة اليونان وشعوب البلقان.
هل ابتدأ العمل بالمسألة الشرقية ومناجزة أهل الشرق في هذه الأعصر
المتأخرة أم كان الشروع قبل ذلك؟
حدثت مناوشات عديدة بين الفريقين في القرون الوسطى كان أمرها سجالاً
وأعظم تلك المناوشات وأظهرها أثرًا وأبعدها ذكرًا وأشدها صدى ودويًّا في بطون
التواريخ حملتان صادقتان، بل بركانان منفجران، وقد أنجحت إحدى هاتين
الحملتين وأخفقت الأخرى. أما الحملة المُنْجحة فهي حملة الشعب الأسبانيولي على
عرب الأندلس وإجلائهم عن تلك البلاد بعد رسوخ قدمهم في ترتبها قرابة عشرة
قرون. وتلك الحملة وإن تكن دينية النزعة فإن فيها شَوْبًا من النزعات السياسية
وعليها مسحة من الحقوق الدولية. وأما الحملة الأخرى التي أخفقت فهي حملة دينية
محضة لا شائبة للمنازع الساسية فيها، يدلك على هذا أن الذين حضوا نارها وأثاروا
غبارها إنما هم رجال الدين وحزب الكهنوت، وتلك حملة أمم أوروبا على مسلمي
فينقية وفلسطين.
تداعت شعوب الإفرنج إلى تلك البلاد من كل صوب ونسلوا إليها إرسالاً من
كل حَدَبٍ وأغاروا عليها بقضهم وقضيضهم [٢] أو شابًّا [٣] من أجناس مختلفة وأروم
متباينة، حتى أصبحت سواحل البحر المتوسط لذاك العهد كأرض بابل مذ تبلبلت
فيها الألسنة، وتفرقت اللغات، وبعد طول مراس وعراك بين تلك الشعوب وأهالي
البلاد نكصوا بالخذلان، وباءوا بالخيبة والخسران، ومهما كان من شأن هاتين
الحملتين وما حدث فيهما من إراقة الدماء، وإزهاق النفوس؛ فإن بعض حُذًّاق
المؤرخين يذهب إلى أن ما حصل في أصقاع الغرب من الانقلاب الفلسفي والسياسي
والمذهبي وما أعقب ذلك من الإصلاح العام في سائر الأوضاع والأعمال والشؤون
إنما نشأ عن تينك الحملتين ونتج من مخالطة أمم أوروبا للمسلمين، وإشرافهم على
مجاري أعمالهم في السياسات وأطوارهم في الإدارات ووقفوا على طرائِقِهم في
الصناعة والزراعة، وأساليبهم في الفنون والمعارف فتخيروا من فسائل حضارتهم
أجودها وأنضرها وغرسوها في تربة بلادهم وسقوها من عرق جبينهم؛ فنمت
وربت وأثمرت من كل زوج بهيج؛ وكأن أهل الغرب قبل أن يُظْعِنوا من رُبوعنا
تقصوا كل جراثيم العمران فيها، وتأثروا كل وسائل المدنية التي بين أهليها فسلبوهم
(واحرباه) إياها ثم تحملوا واستقلوا بها إلى أوطانهم.
أراك تتلع وتتشوف إلى معرفة الأسباب التي قضت بنجاح حملة الأندلس
وخيبة حملة فلسطين.
الذي مَكَّنَ يد العدو من مسلمي الأندلس إنما هو انغماسهم في الترف، وإكبابهم
على الشهوات، وتخاذلهم في الموازرة، وتواكلهم دون النجدة، ومناوأة أولى الأمر
بعضهم بعضًا، وتحرش المحاظي، وحاشية القصر بأعمال الإدارة والسياسة، وقيام
كل أمير في صقع يدعي الخلافة، ويجاذب الآخر زمام السلطة والرئاسة.
وتفرقوا شيعًا فكل مدينة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
بل بلغ بهم السفه والخرق إلى أبعد مما استفظعه شاعرنا فإن آخر مدن الأندلس
سقوطًا في يد العدو وهي غرناطة كان العدو محدقًا بها من الخارج متكالبًا على نهشها
عاملاً في تقويض أسوارها وافتتاحها وإجلاء أهلها. وهل تعلم ماذا يصنع جندها
ومقاتلها في داخلها؟ لعلك تسارع وتجيب لا شأن لهم إلا الاستبسال في الدفاع
واستفراغ الجهد في حماية الحوزة والاستماتة في صيانة الشرف والحريم، بل يمثل
لك الخيال أن سكان هذه المدينة في تلك السويعة شاكيهم وأعزلهم، ذكرهم وأنثاهم،
تألبوا على قلب رجل واحد وتراكضوا إلى الأسوار مصلتين سيوفهم مشرعين
رماحهم يكادون من شدة تغيظهم وفوران دم النخوة والحمية في عروقهم يلقون
بأنفسهم على عدوهم؛ يمضغون لحمه ويرشفون دمه. نعم إن ذلك العمل الشريف
لجدير بأن تأتيه شرذمة مقتطعة من إخوانها مختزلة عن سائر بني جنسها منتبذة في
ناحية عن أهل ملتها، جدير بأن تأتيه شرذمة أوشكت تغادر معاهد دينها وأضرحة
عظمائها وأبطالها ومعالم مدنيّتها وعمرانها لوطء أقدام عدوها، وعبث يده الجائرة؛
جدير بأن تأتيه شرذمة استنزلها الدهر على حكمه ونزع عنها لباس عزها ومجدها
وسلبها تراث آبائها وأجدادها، ومكن يد العدوّ من نواصي أوطانها.
جدير بأن تأتيه شرذمة هي بقية ملايين من أبطال المسلمين، وغطاريفهم
عَمَّروا تلك البلاد وتكونوا من ترابها، واقتبسوا أرواحهم من هوائها، نعم نعم ذلك
جدير بهم حق عليهم لو كانوا يفعلون. اسمع - كان العدو يصطدم بأسوار المدينة
من خارجها والأهالي داخلها يتخالسون مهجاتهم ويسفكون دمائهم بأيديهم؛ ذلك أنه
كان في غرناطة لذلك العهد حزبان، أهل المدينة حزب، وأهل البيازين وهي محلة
كبيرة من محلات غرناطة حزب آخر، وقلما يتفق الحزبان على بيعة خليفة
واحد، فمن جري ذلك كانت غرناطة لا تخلو من استشراء الفتن [٤] واستعار نار
الثورات فيها حتى كان ذلك اليوم العصيب الذي أحدق فيه العدو بالمدينة وأخذ يناطح
أبراجها فلم يلفتهم ذلك عن المناهدة [٥] والمناصاة [٦] والمواثبة ولم يكن كافيًا لجمع
أهوائهم وتوحيد مشاربهم ريثما يدفعون بصدر العدو عن عقر دارهم [٧] فامتشقوا
الصفاح وقوموا سمر الرماح، ونشبت بينهم في شوارع غرناطة وساحاتها وأرباضها
ملحمة بيعت فيها الأرواح بيع السماح. ماذا أصاب هؤلاء القوم يا رب؟ ما الذي
فتَّ في أعضادهم؟ ما الذي طأطأ من أعناقهم؟ ما الذي سلبهم مزايا أجدادهم؟ ما الذي أذال (أهان) نفوسهم وطأمن من أشرافها، ما الذي تلاعب بطبائعها وأوصافها؟
أي شيء طرأ على أرواح أولئك القوم حتى غَيَّرَ تكوينها؟ أي شيء لابسها حتى كاد
يمسخها؟ أليست هذه النفوس نفحات منبثقة من نفوس أولئك الفاتحين فما الذي دنسها؟
أليست هذه الأرواح أنوار مقتبسة من أرواح أجدادنا الأولين، فما الذي
أطفأها؟ تبارك شأن الله وتنزهت صفاته، حكيم فَطَرَ هذا الكون على سنن ونواميس
مطردة فلن تتبدل. عادل وضع لسير هذه الخلائق أحكامًا منتسقة فلن تتخلف. سبحانه
ما أجل شأنه. ذلك يا أخي قصص مسلمي الأندلس فكف من عبراتك، ونهنه من
زفراتك، وسل الله الحماية من أمثال هذه الغواية.
((يتبع بمقال تالٍ))