للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القضايا الدينية في المحاكم
ونتائج الحرية

إن ما أحدث في مصر منذ عهد إسماعيل باشا من الحرية في الاعتقاد والقول
والعمل قد كان سببًا لمفاسد كثيرة ومصالح قليلة، استباح الكثيرون به الفسق
والفجور، وراجت أسواق البدع، وتجرأ المنافقون على إظهار الكفر والطعن في
الدين، وجبن علماء الدين وقبعوا في كسور بيوتهم وزوايا مدارسهم ومساجدهم، فلم
يبرزوا للإنكار على الفاسقين، ولا لنضال المرتدين؛ لأن الحرية ومخازيها جاءت
من قبل الأمراء والحكام، وقد كان أول صوت سمع في الإنكار على مفاسد الحرية
التي يجب أن تتقى، وفي بيان منافعها التي يجب أن تجتنى، شيخنا الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده في إثر توليته إدارة المطبوعات ورياسة تحرير جريدة الحكومة
الرسمية (الوقائع المصرية) إذ دخلت البلاد في عصر جديد من الإصلاح في أول
عهد إمارة توفيق باشا بتولي رجل مصر الأكبر مصطفى باشا رياض للوزارة، كان
الأستاذ الإمام وإخوانه ومريدوه خطباء منبره، وفرسان حلبته، حتى إذا قضت
الثورة العرابية على ذلك العهد المسعود، وانتهت بالاحتلال البريطاني المنحوس،
وصلت حرية الفساد والشر إلى آخر حدود الإسراف، ولم تكن حرية الصلاح
والإصلاح محظورة، ولكن الاستبداد السابق، والفساد اللاحق، أضعفا الاستعداد،
وقَلَّلا أهل الرشاد والإرشاد، حتى إذا ما انتهت مدة نفي الأستاذ الإمام وعاد إلى
مصر، طفق يطرق أبواب الإصلاح في جميع المصالح الرسمية وغير الرسمية،
فلم يجد على شيء منها أعوانًا حتى قال لي: إن هذه الحرية المطلقة للأمة (دون
الحكومة) في القول والعمل الشخصي والاجتماعي كانت كافية لإصلاح البلاد
والنهوض بها إلى ذروة الفلاح والاستقلال، لولا فساد الأخلاق الذي بذرت بذوره
في عهد إسماعيل باشا.
ولما شرعنا في الإصلاح الديني والاجتماعي بإنشاء المنار وجدنا من كثير من
العلماء الجامدين وشيوخ الطريق الخرافيين، مقاومة عنيفة، ودسائس كثيرة،
ومن أمير البلاد وأحزابه تحريضًا شديدًا، سببه تنويه المنار بالأستاذ الإمام، وثناؤه
عليه ودفاعه عنه. ولكن لم تستطع تلك الدسائس والتحريضات أن تسكت المنار،
ولا أن تقطع عليه طريق الإصلاح، فانتشرت الدعوة حتى في الأزهر بالرغم من
عصبية العلماء الجامدين، أعداء أنفسهم، وأعداء الكتاب والسنة، الذين يعذرون
أنفسهم بالمحافظة على فقه الأئمة، وهم لم يستطيعوا بهذا الفقه الذي لا يعرفون منه
إلا أماني من كتب المتأخرين والمقلدين أن يدفعوا عن الإسلام شبهة، ولا أن يميتوا
به بدعة، ولا أن يحيوا به سنة، ولا أن يحيوه هو أيضًا، فهو يموت بين أيديهم
وأيدي حكامهم، فيدفنونه ويهيلون عليه تراب القوانين وآخرها قانون الأحكام
الشخصية الذي ساعد الحكومة عليه بعضهم وسكت الباقون، بل لم يمنعهم من نصر
البدع والطعن في دين المنكرين على أهلها ونبزهم بالألقاب، ثم السعي لحكم الحاكم
عليهم إما بالعقاب وإما بالكفر، وما يترتب على الردة من الأحكام كالتفريق بين
المرء وزوجه.
وقد رفعت عدة قضايا للمحاكم الشرعية والأهلية في قضايا تتعلق بالردة عن
الإسلام، وبمخالفة تعاليمه وإهانة شعائره بعضها حق وبعضها باطل (أهمها)
قضية رجل انتحل دين البابية البهائية، وزعم أنه لا ينافي الإسلام، فحكمت
المحاكم الشرعية ابتداءً واستئنافًا بردته، والتفريق بينه وبين امرأته. وحكمها هذا
حق ووددنا لو اطلعنا على صورته وأسبابه لننشرها في المنار، وقد ذكرنا من قبل
حكم محكمة دمنهور الشرعية بردة الشيخ محمد أبي زيد بالباطل وتبرئة محكمة
الاستئناف له بالحق.
قضية الشيخ عبد الظاهر:
(ومنها) قضية بعض أنصار البدع والخرافات على الشيخ عبد الظاهر
محمد أبي السمح أحد دعاة السنة وأعداء البدع، فإنهم بعد ضروب من التهم والإيذاء
له ونبزه بلقب الوهابي، أي: المتبع للسلف، حملوا النيابة العمومية على مقاضاته
على ما اتهموه به، فرفعت عليه قضية في محكمة العطارين بالإسكندرية فحكمت
ببراءته، ولدى استئناف الحكم حكمت محكمة الاستئناف بتأييده، وهذا نص حيثياته:
حيث إن النيابة العمومية اتهمت المذكور بأنه في سنة ٩٢٣ وما قبلها بدائرة
قسم الرمل دنس رموزًا لها حرمة بإحدى المساجد، بأن صعد المنبر وأخذ
البراقين [١] ، وألقى بهما في الأرض، وبأنه أيضًا في الزمان والمكان المذكورين
تعدى على الدين الإسلامي، وعرض بصاحب الشرع بأنه كان يخطب في
المساجد والمجتمعات، وينشر تعاليم مهينة لآداب المذهب ومناقضة لتعليماته
المعروفة، وطلبت عقابه بمقتضى المادتين ١٣٨ و١٣٩ عقوبات، والمتهم حضر
أمام الجلسة، وأنكر التهمة، وأجاب بما هو مدون بالمحضر.
وحيث إن التهمة المنسوبة هي إلقاؤه البراقين في المسجد وتعديه على الدين
الإسلامي، وحيث إنه بالنسبة لإلقائه براقين في المسجد، ففضلاً عما هو ثابت من
أن هذا العمل حصل من مدة تزيد عن الأربع سنوات، فإن إلقاءها لا عقاب عليه قانونًا إلا إذا كان قصد المتهم من إلقائها إهانة الدين، وثابت من أقوال المتهم أن
قصده كان بعيدًا عن هذه الإهانة؛ إذ علل إلقاءه لهذين البراقين بنفي نسبتهما إلى
السلف الصالح، وعليه فيتعين براءته من هذه التهمة.
وحيث إنه بالنسبة لتعدي المتهم على الدين الإسلامي، وتعريضه بصاحب
الشرع بنشر تعاليم مهينة ومناقضة للدين، قدم المتهم مذكرة بدفاعه عنها تاريخها
٢٦ يناير سنة ١٩٢٤.
وحيث إن المحكمة ترى من الاطلاع على هذه المذكرة ما يؤخذ منها صراحة
أن المتهم ما كان يطعن ولا يقصد التعريض بالدين، بل إنه كان يفسر القرآن
والأحاديث بما يراه ويعتقده صحيحًا، وحيث إن المحكمة لا تثق بما جاء عن لسان
الشهود مما زاد عما جاء بهذه المذكرة؛ إذ لو كان لأقوال هؤلاء الشهود صحة
لانفض من حوله من يستمعون لدروسه، الذين شهدوا أن المتهم لم يحصل منه طعن
في الدين.
وحيث إنه لذلك تكون التهمة المنسوبة إلى المتهم غير صحيحة، ويتعين
براءته منها عملاً بالمادة ١٧٢ ج.
فلهذه الأسباب
وبعد رؤية المادة السالفة الذكر حكمت المحكمة حضوريًّا ببراءة المتهم مما
أُسند إليه وأعفته من المصاريف.
هذا الحكم حكمت به المحكمة بجلستها العلنية المنعقدة في يوم ١٢ أغسطس
سنة ١٩٢٤ و١١ محرم ١٣٤٣.
وبعد أن صدر هذا الحكم بالبراءة استأنفته النيابة يوم صدوره.
وبجلسة ٦ ديسمبر سنة ١٩٢٤ و٩ جمادى الأولى سنة ١٣٤٣ نظرته محكمة
الاستئناف الأهلية، وأيدته تحت رياسة حضرة حسن بك زكي محمد القاضي
وبحضور حضرتي محمد بك حسن عزت وحليم بك برسوم القاضيين وحضور
حضرة حسن أفندي لطفي وكيل النيابة وأحمد زكي أفندي السيسي كاتب المحكمة
وهذا نص حيثيات الحكم:
المحكمة: بعد سماع التقرير الذي تلاه حضرة محمد بك حسن عزت وطلبات
النيابة العمومية وبعد الاطلاع على الأوراق والمداولة قانونًا.
حيث إن الاستئناف مقدم في الميعاد القانوني فهو مقبول شكلاً، وحيث إن
الحكم المستأنف في محله للأسباب الواردة به والتي تأخذ بها هذه المحكمة فيتعين
تأييده.
فلهذه الأسباب
وبعد رؤية المادة ١٧٢ ج حكمت المحكمة حضوريًّا بقبول الاستئناف شكلاً،
وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف بلا مصاريف.