للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية

كتب إليّ الأستاذ أبو الحسنات الهندي أحد أعضاء دار المصنفين في
(أعظمكده - الهند) رحمه الله تعالى، الكتاب الآتي بعد اطّلاعه على قانون
جمعية الرابطة الشرقية في المنار، وهو من دعاة الجامعة الإسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة المفضال مولانا رشيد رضا صاحب المنار، سلامًا سلامًا.
لقد سرني ما قرأت في صفحات الجرائد الأردوية: أن عصبة من أصحاب
النعرة والغيرة على الشرق من أهل مصر قامت بإصلاح شؤونه وترقية شعوبه،
وإخراج أهله من الذل والانحطاط الذي وصلت هذه الأمم الشرقية إلى غايته،
وألَّفتْ جمعية موسومة بجمعية الرابطة الشرقية، تكون مصر مركزًا لها، وتكون
للجمعية شُعب في كل قطر من الأقطار الشرقية، وزاد فرحي إذ رأيت اسمكم
الشريف من جملة بانيها ومؤسسيها، وكان هذا الفرح والسرور بما أني أحسن الظن
بكم، فإنكم لستم كعامة علماء زماننا هذا، لا يفرقون القشر من اللباب، والماء من
السراب.
بينما كنت في هذا الفرح والسرور إذ وصلتني الأجزاء (الأول والثاني
والثالث) لمجلة المنار الغراء من مجلدها الثالث والعشرين، وقرأت في فاتحة هذا
المجلد ما نصه:
(جرينا على منهج الإمامين الحكيمين في الدعوة إلى الوحدة، وجمع كلمة
الأمة، بالتذكير بآيات الله المنزلة في القرآن.. .. ألا وإنه قد أتى الأوان للعمل بما
أرشد إليه الإمامان، حتى كأنهما كانا يخاطبان أهل هذا الزمان، من أهل مصر
والسودان، وسائر العرب والهند والترك والفرس والأفغان) .
فازددت فرحًا على فرح، وبشّرتُ نفسي كما حررتم في هذه الفاتحة (بأن
ليل الذل والعبودية قد عسعس، وصبح العزة والحرية قد تنفس) ولكن يالخيبة
الأمل إما كان أقصر زمن فرحي وسروري؛ لما طالعت في الجزء الثالث مقاصد
الجمعية وأغراضها، ووجدت الصراحة فيها بأن (غرض الجمعية نشر المعارف
والآداب والفنون الشرقية وتعميمها، وتوسيع نطاقها، وتوثيق روابط التعارف
والتضامن بين الأمم الشرقية على اختلاف أجناسها وأديانها) .
فالألفاظ الأخيرة وإن كانت متشابهة بألفاظ السيد جمال الدين الأفغاني طاب
ثراه، ولكن غرضكم الحقيقي من هذه الجمعية ليس ما كان غرض السيد المرحوم
كما لا يخفى على الناظر في مقاصد جمعيتكم بأول النظر.
أيها الحبر الأعظم: إن مقصد السيد المرحوم الذي قد وجه إليه أفكاره، وبذل
في سبيل جهده قواه، وكتب على نفسه السعي إليه مدة حياته، وأصابه ما أصابه
من البلاء في سبيله - هو إنهاض ما بقي من الدول الإسلامية من ضعفها، وتنبيهها
للقيام على شؤونها تحت ظل الخلافة العظمى، حتى تصير الأمة الإسلامية من
الأمم العزيزة، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجد كان له في الأيام
السالفة [١] ، ولما كان النجاح بهذا العمل الجسيم موقوفًا على تقليص ظل الدول
الغربية عمومًا عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وعلى تنكيس الدولة البريطانية،
خصوصًا في الأقطار الشرقية، بدأ السيد المرحوم هذا الجهاد الأكبر بإصلاح
ذات بين الشرقيين عمومًا، والمسلمين خصوصًا، وبتقوية الصلات العمومية بين
الأمم، وتمكين الألفة في أفرادها، وتأييد المنافع المشتركة بينها، وبالتنبيه على أن
التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة، هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسية،
وبالتنقيب عن المسالك الدقيقة التي يسري بها الطامعون في دياجر الغفلات [٢] .
أيها العلامة المفضال، هكذا كان سير السيد المرحوم وطريق عمله، وترونه
كما أراه في صفحات مجلته (العروة الوثقى) وهي المجلة التي نفخ السيد المرحوم
بها الروح العالية: روح الحياة، وروح النهضة، التي نرى ذراتها متحركة
وسارية يومًا بعد يوم في الطبقة الراقية من أبناء الشرق، فأين يا مولانا مقاصده العلى
من مقاصد جمعيتكم التي دعوتم إليها أرباب العلم والقلم من أبناء الشرق؟ هل
الجهل فقط هو داء الشرق، ونشر العلوم وتوسيع نطاق المعارف فيه دواؤه؟ هل
تجزمون بأن التعارف العلمي والتضامن الأدبي يؤول على أبناء الشرق بالسعادة
الدنيوية والدينية (التي) تسعد بها الأمم؟ وهل تظنون أن قلوب أبناء الشرق تكون
لها الطمأنينة، وقريحتهم تكون لها السكينة، ويد الأجانب عاملة في شؤونهم تدبر الأمر كيفما تشاء؟ لا والله لا.
نعم ربما يظن قوم في هذه الأزمان أيضًا - مع أن التجارب تعرض عنه
والشواهد تنكره - أن نشر الجرائد، وتأسيس المدارس، وبث العلوم، وتوسيع
نطاق المعارف، أدوية تعالج بها أمراض الأمم المصابة، وأنها هي أسباب تكفل
إنهاض الأمم، وتنبيه أفكارها، وتقويم أخلاقها، ولكن الحق أنه ليس الأمر كذلك.
المدارس في الشرق كثيرة، والجرائد تزداد فيه أعدادها يومًا بعد يوم، وللعلوم
والمعارف دور كثيرة في كل قطر من الأقطار، فمع هذه كلها ما هذا الذل والفقر
والعبودية؟ هل صارت بوجود هذه الأسباب التي يظن سعادة الأمم نتيجة لها أحسن
حالاًً مما كانت عليه قبل زماننا هذا؟ هل استنقذت أنفسها من أنياب الفقر والعسرة؟
هل نجت بها من ورطات الذل والعبودية؟ هل أحكمت الحصون، وسدت الثغور؟
هل نالت بها المنعة والمُنَّة [٣] التي تدفع بها غارة الأعداء؟ لا والله لا.
فمع هذا كله إلى أي شيء تدعون الأمم الشرقية عمومًا والمسلمين خصوصًا،
وإلى أي سبيل مسيركم؟
واعلموا يا مولانا أن أول أمر يجب الاهتمام به هو معرفة أصل الداء وأسبابه
الحقيقية، أيمكن لطبيب يعالج مريضًا أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف
ما عرض له من المرض، وما هو سببه؟ كلا ثم كلا، نعم يمكن أن يكون هذا
سير من ليس له الحظ الأوفى من الحذق والكمال، ويكون متطببًا لا طبيبًا، فعلى
الطبيب الحاذق أن يهتم قبل كل شيء بمعرفة أصل الداء وأسبابه، ثم بطريق
علاجه وتعيين دوائه؛ لكي لا يكون الداء أصعب والدواء أعز، فإن معالجة
المرض قبل تعيين أسبابه لا تزيد إلا شدة في المرض، وصعوبة على المريض،
بل ربما تفضي به إلى الموت، فأقول (وهذا قولي في مسألة الأمة المسلمة
خاصة، وأما مسألة الأمم الشرقية فلست الآن بصددها، ويمكن أن أجرد لها فصلاًً
آخر إن ساعدتني الفرصة) .
إن أول مرض لحق الأمة المسلمة هو تشتت أهوائها، وتخالف أميالها، الذي
فرق جمعها وبدَّد شملها، حتى ذهب كل واحد منها إلى ما قاده إليه هواه من غير أن
يراعي جانب الأمة، ويستحفظ فوائدها، أو أن يلتفت إلى ما يمسها، ويهتم بالدفاع
عنها.
انظروا أيها الفاضل الجليل كيف كان بدء الانحلال والضعف في روابط الملة
الإسلامية من جهة دينها ودنياها عندما انفصلت الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة على
عهد العباسية، حيث قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يستجمعوا شرف
العلم والتفقه في الدين، فكثرت بذلك المذاهب، وانفصلت فيها المسالك، ووقع في
الدين الإسلامي تشعب لا مثيل له في دين من الأديان، وكان هذا في مستهل القرن
الثالث من الهجرة النبوية، وبعد ذلك عمت هذه السيول، واندفعت على كل قطر
من أقطار العالم الإسلامي، حتى ما بقي موضع ليسكن فيه الاثنان من المسلمين إلا
وهما المختلفان في المذهب، هذا من جهة دينهم، وأما من جهة دنياهم فاشتد ذلك
الخلاف، وزاد بظهور المغول الذين أوقعوا بالمسلمين قتلاًً وإذلالاًً، حتى أذهلت
الأمة عن أنفسها، وتقطعت الوشائج وانفصمت عرى الاتصال بينهما، فتفرق
الشمل بالكلية، وافترق الناس فرقًا وشيعًا [٤] .
هذه هي الداهمة التي دهمت الأمة المسلمة، وطوحتها في غيابة الذل والهوان
وقعر الخمول والسَّكَران [٥] ، وما انتبهت وصَحَتْ إلى يومنا هذا انتباهًا صحيحًا
وصحوًا كاملاًً، فالأمر واضح، والطريق ليس بملتبس على من يريد أن يسلك في
سبيل إيقاظها وإنهاضها طريقًا مستقيمًا غير معوج، وما هو إلا السعي في سبيل
توحيد كلمتها، وتشديد ارتباط بعضها مع بعض، هذه كلمة صدق قلتها لكم، وأريد
أن أقولها مرة بعد أخرى، فإن قلبي قد ملئ بها إذعانًا وإيقانًا، وخاصة في زماننا
هذا، خير الأمور التي تستحق أن يجهد في سبيله من يريد الجهاد في سبيل الأمة
وسبيل الدين، بل وفي سبيل الله، هو أن يجاهد في جمع الكلمة المتفرقة لمسلمي
العالم حيثما يمسون، وفي أي قطر يصبحون؛ لأن التشتت والتفرق فقط هو
(أدوى) داء حل بهم، وأهبطهم في هاوية، وما أدراكم ماهيه، إنها هي كون
المسلمين عبيدًا للأجانب حتى في أوطانهم، بعد ما كانوا مولى العالم في الشرق
والغرب.
وها هي (ذي) حقيقة ثابتة لا يسعها الخلاف، جديرة بأن تنظروا إليها. إن
الأمة المسلمة قوية الرجاء بين الأمم، لا تقنط قنوطًا يحكم عليها بالهبوط الثابت،
وبالسبات الدائم، بل كلما قامت لها قيامة رقدت من نوم غفلتها، وانتبهت فقامت
وسارت سير التقدم والرقي، ألا ترون أنها بعدما صدمت بصدمات غارات التتر
والحروب الصليبية جمعت بعد زمن يسير تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية،
وساقت الجيوش إلى أنحاء العالم، ودوخت البلاد، وأرغمت أنوف السلاطين،
حتى دانت لها الدول الإفرنجية، ونفذت أوامرها في الشرق والغرب؟ لا ريب في
أن هذه الأيام كانت للأمة المسلمة أيامًا بيضاء حسانًا، كأنما رجع لها الدهر بأيام
الخلافة العباسية التي لا نظير لها في تاريخ الأمة، ثم بعد ذلك بحكم {وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: ١٤٠) قلب لها الدهر ظهر المجن، فأخذت
تنزل من منزلتها الرفيعة، ودست لها الدول الإفرنجية الدسائس، فتفرقت كلمتها،
وتمزقت جمعيتها، حتى ما بقيت دار من دور المسلمين إلا فيها الأمر والحكم
للأجانب إلا ما شاء الله.
ومع هذا كله ارجعوا البصر إلى ما وقع في زماننا هذا من انتصار الجيوش
الإسلامية القاهرة تحت قيادة سيف الله المسلول، آية من آياته الكاملة، الغازي
مصطفى كمال باشا أيده الله بنصر مزيد، فإنها لما سمعت انتصاره على اليونان،
وانتزاعه الدولة العلية من مخالب الأعداء، فاهتزت لها نفوسها، وأحدث هذا الفوز
حركة قوية في طباعها، حتى خافت عواقبها الدولة التي هي أقوى دول العالم
وأعدى عدى الإسلام والمسلمين، وجعل يسعى أربابها في تسكين جأشهم بقولهم
الزور أن نعوذ بالله أن نكون من أعداء الإسلام والمسلمين (والله يعلم ما يسرون
وما يعلنون) .
نعم قلت: إن الأمة المسلمة هي قوية الرجاء، ولها ميل شديد إلى الوحدة كما
هي اجتمعت بعد الانتشار تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية، فقويت بها
شوكتها، وارتقت ارتقاءً نهائيًّا، مع هذا كله نقول: مما لا ريب فيه أنه كان ما
كان لها من جهة دنياها لا من جهة دينها، والحق أن سر ضعفها الحقيقي كان
مضمرًا في دينها؛ ولأجل ذلك ما مضت من أيام شوكتها أيام تذكر، حتى حصل
السبات ونامت، فكأنما كان لها ذاك الحراك تحولاًً من شق إلى شق آخر في نومها
فأقول لكم يا مولانا قول خبير بصير: إنه لا نجاح لمن يريد خدمة الأمة المسلمة إلا
بدعوتها إلى الاعتصام بحبل دينها، والاقتداء بأحكام شريعتها، فإن لدين هذه الأمة
وشريعتها سلطانًا على أنفسها لا يماثله سلطان الحمية الوطنية والنعرة الجنسية،
فكلما دعيت إليها تحركت لها جؤوشها، واهتزت لها نفوسها، ولبَّتْ واجتمعت،
فحينئذ تتنزل الملائكة عليها، ويؤيدها الله بروح منه، ويتحقق معنى الآية المباركة
{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: ٧) .
فالشريعة مورد هذه الأمة ومصدرها، والمسلمون كلهم بحكم شريعتهم
ونصوصها الصريحة مجبولون على الوحدة، والجبلة لا تزول، وإن كانت الجبال
عن مقامها تزول، وكيف يمكن هذا والقرآن يتلى بينهم، فيتلون منه صباحًا ومساء
الآيات المحرضة على الوحدة والوفاق {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: ٤٦) ، وأمثالها كثيرة لا حاجة إلى سردها هنا.
فإن قال قائل: [٦] مع تلك الآيات البينات المحكمات المحرضات على الوحدة
والوفاق، ما في المسلمين من التشتت والافتراق، وهم هم في شدتهم في الدين،
والتمسك بعقائدهم الدينية، والإحساس بداعية الحق في نفوسهم فأقول:
إن الأعمال وإن يكن منشؤها العقائد والأفكار، ولكن يكون صدورها موقوفًا
على ضرورة وداعية تدعو الإنسان إلى إصدارها، فلا يمكن الارتياب في هذا أن
عقيدة المسلمين بالأخوة الدينية، ثابتة موجودة في نفوسهم، وما طلعت الشمس
عليهم يومًا واحدًا وهم عنها غافلون، وأما العلل الحقيقية في تباطؤهم عن ارتباط
بعضهم مع بعض، ونصرة إخوانهم في الدين فهي عديدة:
(منها) زوال كل جامعة بين المسلمين في الأغلب ما عدا العقيدة الدينية
المجردة عما يتبعها من الأعمال، فهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل، وانقطع
التواصل، وانعدم التعارف بينهم، فمسلمو الهند في غيبة عن أحوال مسلمي المملكة
العربية والتركية، ومسلمو العرب وفارس في غفلة عن شؤون مسلمي الجزائر
ومراكش.
(ومنها) إيقاد الأعداء نار التشتت والتخالف في المسلمين وإغرائهم بعضهم
على بعض بالحقد والضغينة، حتى كاشفت الأمة الأفغانية بعداوة الأمة الفارسية،
وبارزت الأمة العربية مبارزة للأمة التركية، وهكذا جاهرت القبائل منهم مجاهرة
ضد قبائل أخرى.
فزاد الويل والعويل، وعقب خطب بعد خطب، وحدث كرب بعد كرب،
بإغفال أولي الأمر والرأي من المسلمين عن تأدية ما كلفهم الله تعالى من توحيد
كلمتهم حينما يقع التشتت فيها، وتوثيق روابطهم حينما تنفصم عروتها، حتى
قضى الدهر على المسلمين بالذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، فأصبحوا
حقراء بعد ما كانوا أجلاء، وأمسوا فقراء بعد ما كانوا أغنياء، ولا سبيل إلى
تخلص الأمة من هذه الرزايا التي حلت بها إلا بتوحيد كلمتها، وجمع شتاتها ونظم
شملها، ولم شعثها، فهذا ما عندي من الحق واليقين، وأظن أن لا يرتاب فيه
العقلاء وأرباب الفكر السليم من المسلمين.
واعلموا يا مولانا أن أكثر ما كتبت إليكم في هذا الكتاب هو من آراء السيد
المرحوم الأفغاني تغمده الله برحمة منه، وإن كانت الألفاظ في شيء من العبارات
مترادفة أو متخالفة متباينة، ففي خاتمة الكتاب مع الإطالة فيه لا يحسنني [٧] أن
أختمه، ولا أسألكم إرجاع النظر إلى عبارة واضحة حسنة كتبها السيد المرحوم فيما
نحن بصدده، فخذوا هذا نصها:
(فيا أيتها الأمة المرحومة هذه حياتكم فاحفظوها، ودماؤكم فلا تريقوها،
وأرواحكم فلا تزهقوها، وسعادتكم فلا تبيعوها بثمن دون الموت، هذه هي
روابطكم الدينية، فلا تغرنكم الوساوس، ولا تستهويكم الترهات، ولا تدهشكم
زخارف الباطل، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم، واعتصموا بحبال الرابطة
الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي، والفارسي بالهندي،
والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة النسبية، حتى إن الرجل منهم ليألم
لما يصيب أخاه من عاديات الدهر، وإن تناءت دياره، وتقاصت أقطاره، هذه
صلة من أمتن الصلات ساقها الله إليكم، وفيها عزكم ومنعتكم، وسلطانكم وسيادتكم
فلا توهنوها.
ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل، فالعدل أساس الكون وبه
قوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم، وعليكم أن تتقوا الله وتلزموا أوامره
في حفظ الذمم، ومعرفة الحقوق لأربابها، وحسن المعاملة وإحكام الألفة في المنافع
الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم، وجيرانكم من أرباب الأديان المختلفة، فإن
مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم، كما لا تقوم مصالحهم إلا بمصالحكم، وعليكم أن
لا تجعلوا عصبة الدين وسيلة للعدوان، وذريعة لانتهاك الحقوق، فإن دينكم ينهاكم
عن ذلك، ويوعدكم عليه بأشد العقاب، هذا ولا تجعلوا عصبتكم قاصرة على مجرد
ميل بعضكم لبعض، بل تضافروا بها على مباراة الأمم في القوة والمنعة، والشوكة
والسلطان، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة، والفضائل والكمالات الإنسانية،
اجعلوا عصبتكم سبيلاًً لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم، وأخذ كل منكم بيد أخيه؛
ليرفعه من هوة النقص إلى شاهق الكمال {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا
عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) .
وفي رسالة أخرى سأعجلكم ببيان جامعة بين المسلمين وطريق القيام بها
والدعوة إليها، فإن كتابي هذا قد طال، فتقبلوا مني في الختام أحسن التحية والسلام
أنا العاجز أبو الحسنات الندوي أحد رفقاء دار المصنفين
... ... ... ... ... ... ... ... ... شبلي نزل ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... أعظمكده (الهند)
(المنار)
كتبت إلى هذا العالم المصلح الغيور في مرجوع كتابه هذا بيانًا للفرق بين
الجامعتين الشرقية والإسلامية، وكون إحداهما تعزز الأخرى ولا تنافيها، وقد دعا
موقظ الشرق السيد جمال الدين إليهما معًا، ونبهته لاغترار إخواننا مسلمي الهند
بالكماليين بعد اغترارهم بالاتحاديين إثر غرورهم بالسلطان عبد الحميد، وسوغ
لي هذا ما بدأ به مصطفى كمال باشا من التمهيد لإلغاء الخلافة بالفعل، من جعلها
روحية لا سلطان لصاحبها ولا حكم، فرد على كتابي هذا بالكتاب الثاني، وسننشره
في الجزء الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))