للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جمعية منكوبي الإعانة السورية

أُلِّفَتْ في القاهرة جمعية لتنظيم جمع الإعانات لمنكوبي سورية على إثر
الدعوة التي أذاعها الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، وافتتح باب التبرع لها هو
وأهل بينه وأعضاء الوفد المصري، وكان المؤسسون للجمعية قد ارتأوا أن تكون
تحت رعاية عالية ورياسة سامية، فطرقوا أبواب بعض كبار الأمراء، فألفوا
آذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وقد آن للناس أن يعرضوا عن ضخامة الألقاب وسمو
الأنساب، ولا يعولوا إلا على أولي الألباب، فإن قيمة النسب الصحيحة لا تعدو
حسن تأثير الوراثة في لب الإنسان وجوهره وهو العقل والقلب، على أن الجمعية
قد أُلِّفَتْ من خيار البيوت المصرية والسورية حسبًا وأدبًا وأمًّا وأبًا، وقد أظهر
الأعضاء السوريون لإخوانهم المصريين رغبتهم في إسناد رياسة الجمعية إلى واحد
منهم، فقال صاحب المعالي فتح الله باشا بركات: بل الأولى أن تختاروا واحدًا
منكم؛ لأن المصاب واقع على شعبكم، وإن كنا نحن والسوريون أمة واحدة باعتبار
آخر، وليس المقام هنا مقام مباراة في رياسة، بل مقام تعاون على تخفيف آلام
نكبة نشعر بها كلنا، وأنا مستعد للعمل معكم تحت رياسة أصغركم سنًّا، فحبذ قوله
هذا أصحاب السماحة والسعادة والعزة عبد الحميد البكري وأحمد شفيق باشا وعبد
الحميد بك سعيد، فلم يسعنا معشر السوريين إلا اتباع إجماعهم، فاعتزلنا الجلسة
وانتخبنا الأمير ميشيل لطف الله لما له من السابقة الحسنة في أمثال هذه الجمعيات
الخيرية سعيًا وإدارة ومساعدة.
هذا وإن شاعر مصر أحمد شوقي بك الملقب بأمير الشعراء بغير منازع
وشاعر الشام خير الدين أفندي الزركلي قد نظم كل منهما قصيدة في كارثة دمشق
وثورة سورية، أنشدتا في حفلة حافلة لجمعية الإعانة، فرأينا أن ننشرهما في
المنار وهذا نص الأولى:
سلام من صبا (بَرَدَى) أرق ... ودمعٌ لا يكفكف يا دمشقُ
ومعذرةُ اليراعة والقوافي ... جلال الرزء عن وصف يدق
وذكرى عن خواطرها،لقلبي ... إليك تَلَفُّتٌ أبدًا وخفقُ
وبي مما رَمَتْكِ به الليالي ... جراحات لها في القلب عمق
دخلتُكِ والأصيل له ائتلاقٌ ... ووجهكِ ضاحك القَسَمات طلق
وتحت جنانكِ الأنهار تجري ... وملء رُباكِ أوراقٌ ووُرْق
وحولي فتيةٌ غرٌّ صِباحٌ ... لهم في الفضل غاياتٌ وسبْقُ
على لَهَوَاتِهم شعراءُ لُسنٌ ... وفي أعطافهم خطباء شُدق
رواةُ قصائدي فأعجب لشعر ... بكلِّ محلة يروية خَلْقٌ
غمزت إباءهم حتى تلظت ... أنوف الأسد واضطرم المدق
وضج من الشكيمة كل حرٍّ ... أبيٍّ من أمية فيهِ عِتق
***
لحاها الله أنباءً توالت ... على سمع الولي بما يَشُقُّ
يفصِّلها إلى الدنيا بريدٌ ... ويُجملها إلى الآفاق برْقُ
تكاد لرَوْعةِ الأحداثِ فيها ... تُخالُ من الخرافةِ وهي صدقٌ
وقيل معالم التاريخ دُكَّت ... وقيل أصابها تَلفٌ وحرقُ
ألستِ دمشق للإسلام ظئرًا ... ومرضعةُ الأبوَّة لا تُعقُ
صلاح الدين تاجك لم يُجمَّلْ ... ولم يُوسَم بأزين منه فرْقُ
وكل حضارة في الأرض طالت ... لها من سرحك العلويِّ عرق
سماؤك من حلى الماضي كتابٌ ... وأرضكِ من حلى التاريخ رَقٌّ
بنيتِ الدُّولة الكبرى وملكًا ... غبارُ حضارتيه لا يُشقُّ
له بالشام أعلامٌ وعرسٌ ... بشائرهُ بأندلس تدق
***
رباع الخلد ويحك ما دهاها ... أحقٌّ أنها دَرَست أحقُّ
وهل غرف الجنان منضَّداتٌ ... وهل لنعيمهنَّ كأمس نسقُ
وأين دُمى المقاصر من حجال ... مُهتكة وأستار تُشَقُّ
برزْن وفي نواحي الأَيْكِ نارٌ ... وخلف الأَيْكِ أَفْراخٌ تُزَقُّ
إذا رُمنَ السلامة من طريقٍ ... أتتْ من دونه للموت طرقُ
ليلٌ للقذائف والمنايا ... وراء سمائه خطفٌ وصعقُ
إذا عصف الحديد احمرَّ أفقٌ ... على جنباته واسودَّ أفقُ
على من راع غيدك بعد وهن ... أبين فؤاده والصخر فرق
وللمستعمرين وإن ألانوا ... قلوب كالحجارة لا تَرقُّ
رماكِ بطيشه ورمى فرنسا ... أخو حرب به صلفٌ وحمقٌ
إذا ما جاءه طلابُ حقٍّ ... يقول عصابة خرجوا وشقوا
***
دمُ الثوار تعرفه فرنسا ... وتعلم أنه نورٌ وحقُّ
جرى في أرضها فيه حياةٌ ... كمنهل السماء وفيه رزقُ
بلادٌ مات فتيتها لتحيا ... وزالوا دون قومهم ليبقوا
وحُرِّرتِ الشعوب على قناها ... فكيف على قناها تُسترقُّ
***
بني سورية أطَّرحوا الأماني ... وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
فمن خِدَعِ السياسة أن تغروا ... بألقاب الإمارة وهي رقٌّ
وكم صَيَدٍ بَدَا لك من ذليل ... كما مالت من المصلوب عنقُ
فتوقُ الملكِ تحدُثًُ ثم تمضي ... ولا يمضي لمختلفين فتقُ
نصحتُ ونحن مختلفون دارًا ... ولكن كلنا في الهمِّ شرقُ
ويجمعنا إذا اختلفت بلادٌ ... بيانٌ غير عطف ونطقُ
وقفتم بين مَوْتٍ أو حياةٍ ... فإن رُمْتمْ نَعيم الدَّهرِ فاشقوا
وللأوطان في دم كل حرٍّ ... يدٌ سَلَفَتْ ودَينٌ مستحقٌ
ومن يَسفي ويشربُ بالمنايا ... إذا الأحرار لمْ يُسقَوْا وَيسقوا؟
ولا يَبني الممالكَ كالضحايا ... ولا يُدني الحقوقَ ولا يحقُّ
ففي القتلى لأجيال حياة ... وفي الأسرى فدى لهمو وعتق
وللحرية الحمراء بابٌ ... بكل يد مضرجة يُدَقُّ
جزاكم ذو الجلال بني دمشق ... وعز الشرق أوله دمشق
نصرتم يوم محنته أخاكم ... وكلُّ أخ بنصر أخيه حقُّ
وما كان الدروزُ قبيلَ شرٍّ ... وإن أُخذوا بما لَمْ يَستحقُّوا
ولكن ذادةٌُ وقراةُ ضيف ... كينبوع الصفا خَشنوا ورَقُّوا
لهم جبلٌ أَشَمٌّ له شِعافٌ ... مواردُ في السحابِ الجونِ بُلْقُ
لكلِّ لبوءة ولكلِّ شِبل ... نِضال دون غابتهِ ورَشقُ
كأن من السموأل فيه شيئًا ... فكلُّ جهاتهِ شرفٌ وخُلُقُ