للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استفتاء في كلمة للملك فيصل
في الأديان السماوية

(س٣٧) نشرت جريدة الخلافة (خلافت) التي تصدر في بمبى (الهند)
في عددها الذي صدر في ٢٢ صفر من هذه السنة (١٣٤٤) الاستفتاء الآتي،
وقد نشر في كثير من جرائد الأقطار الإسلامية، ولهج كثير من الناس بعد اطلاعهم
على ما قاله الملك فيصل عن الأديان والأنبياء بأنه ردَّة عن الإسلام، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العلماء الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها:
(عقيدة الأمير فيصل ملك العراق ابن الملك حسين بن علي المكي في
الأديان السماوية) .
هذه خطبة للأمير فيصل ابن الشريف حسين، ألقاها في الحفلة التي أقامها
اليهود في دار الرئاسة الحاخامية لليهود في بغداد، ونشرتها جريدة دجلة التي تصدر
هناك في عددها الثاني والعشرين تاريخ ١٢ ذي القعدة سنة ١٣٢٩ هـ ١٩ تموز
سنة ١٩٢١ ننقلها للقراء بحروفها، ليطلعوا على حقيقة معتقد هذا الأمير في الأديان
السماوية، وأنه كوالده في اعتماده في كل أموره على الإنكليز لا على الله.
***
الخطبة بنصها
(إني أشكر مواطني الإسرائيليين العراقيين لإقامتهم هذه الحفلة الكريمة التي
أعربت عن شعورهم نحو البلاد، وإني أسأل الله تعالى أن يوفقني إلى الأعمال التي
تزيد ثقتهم بي، واعتمادهم علي) .
(إني لا أرى في هذا الاحتفال مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، وإني أعتقد
(أنه) لو جاء موسى وعيسى ومحمد إلى هذا الاحتفال، وشهدوا منا ما نقوله من
يهود ونصارى ومسلمين [١] لغضبوا علينا غضبًا شديدًا، أنا أريد أن يقول الجميع:
إننا ساميون عراقيون نرجع إلى جد واحد، وما الاختلاف [٢] الدينية والمذاهب إلا
دسائس دنيوية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية، ومتى عرفنا ذلك يرفع
من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين، وإني لا أرى لزومًا لتكرار القول، فإنا
أولاد جدٍّ واحد، إننا أولاد سام، وآباؤنا سكنوا العراق مدة طويلة، وقاموا بأمر
تعميره مشتركين، قال أحد الخطباء الآن: إن للأمة العربية أيادي بيض (؟) على
اليهود في جزيرة العرب، وأنا أقول: ما قام العرب تجاه اليهود إلا بالواجب
المفروض الذي لا يطلبون مقابله حمدًا ولا شكرانًا. إن البلاء قد نزل باليهود
والمسلمين [٣] على حدٍّ سواء، إني أرغب أن يتزايد الاعتماد في هذه الأيام لننقذ
البلاد من الخراب الذي أنزلته بها أيادي الظلم والاستعمار السابقة التي عاثت
بأرض العراق فسادًا) .
(فإني لم أزل أتذكر كلمة لأكبر رجل في العالم - وهو المستر لويد جورج
زعيم الحكومة الإنكليزية - قالها في مانشستر على ما أظن، وهي قوله: نحن
دخلنا العراق ونرغب أن نرجعها إلى حالها حال جنات النعيم) .
(نحن لا نستطيع أن نبلغ بالبلاد العراقية إلى درجة جنات النعيم في خمسين
عام أو أكثر، ولكننا نقول: كل من سار على الدرب وصل، إن لي الأمل العظيم
في نجاحنا في هذه المسألة؛ لأننا اليوم بعهدة أكبر دولة وأعظم أمة ألا وهي
بريطانيا العظمي، فإن المراحل البعيدة لا نستطيع قطعها، ولكن بمساعدة بريطانيا
ومعاضدتها ستكون المراحل قصيرة، فإنا نبلغ مُنانا إذا ساعدتنا بريطانيا كما هي
تساعدنا اليوم، فبسعي الإنكليز ومعاضدتهم سيكون النجاح قريبًا، إني أرغب أن
أرى هذا النجاح، ولكن من أين لي ذلك العمر الطويل، فإننا إذا لم نراه (؟) فإن
أبناءنا سيشهدوه (؟) ويشكرونا على ذلك العمل، وفي الأخير أقول: إن ليس لي غاية
سوى تقدم البلاد، وليس لي حزب إلا الجميع، وأملي وطيد بأن إخواني
الإسرائيليين سيبذلون جهدهم لرقي البلاد العراقية كما هو شأنهم في البلاد الأخرى
اهـ، انتهت بحروفها.
فنوجه رجاءنا إلى علماء الإسلام أن يفتونا في رجل يعتقد ويصرح على
رءوس الأشهاد بأن الديانات والمذاهب ما هي إلا دسائس دنيوية دسها بعض
الأشخاص أو الأمم الخارجية، وأنه لو جاء موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة
والسلام، وسمعوا كلامه يغضبون عليه غضبًا شديدًا، ومع ذلك هو لا يبالي بهم،
ويريد أن يرفع اسم اليهود والنصارى والمسلمين من بين أفراد الشعب الذي يحكمه،
هل هذا الرجل (يُعد) مسلمًا؟ أفتونا مأجورين اهـ، الاستفتاء.

(جواب المنار)
هذه الكلمة التي قالها فيصل ملك العراق البريطاني هي هِجّيرَى فريقين من
الناس: دعاة اللادينية، وأعداء الرابطة الإسلامية، الذين يرى القارئ بعض
مقاصدهم في مقالنا الخاص بالمسألة السورية - وقد فصلناه من قبل في مقالات
كثيرة - ولقد كان فيصل في غنى عن اتباعهم وعن الحكم بهواه على ما يرضي
رسل الله صلواته وسلامه عليهم وما يغضبهم، لو كان حريصًا على مظاهر الدين
الذي نشأ فيه، نعم كان يسعه أن يدعو اليهود إلى الاتفاق مع المسلمين والنصارى
في التعاون على ترقية العمران في العراق، فإن ذلك لا ينافي استمساك كل منهم
بدينه.
إن كان فيصل يعرف عقائد الإسلام وقواعده التي يكون بها المسلم مسلمًا،
ويؤمن بما جاء في كتاب الله تعالى وبما أجمع عليه المسلمون منها، فعليه إذا لم
يقل بها ويدعُ إليها أن يسكت عنها، أو أن لا يصرح بمخالفتها، وهذا أقل ما يباح
له في مثل ذلك الموقف.
إن حكم الإسلام في الاختلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في الدين هو
أن دين الله تعالى على ألسنة رسله واحد وهو الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ
اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: ١٩) الآيات، وهو واحد في العقائد والمقاصد، ولكنه مختلف في
الشرائع العملية والمناهج، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: ٤٨) ، ومن أصول الإسلام أن محمدًا خاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم وأن بعثته عامة، وأنه لا يعتد بدين أحد بلغته دعوته
إلا إذا اتبعه، وأن موسى صلى الله عليه وسلم لو كان حيًّا ما وسعه إلا اتباعه،
وكذا غيره من الرسل {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ
إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: ٨١) .
إن كان فيصل ملك العراق البريطاني مؤمنًا بما ذكر فالواجب عليه أن يقول:
لو جاء موسى وعيسى ومحمد - عليهم صلوات الله وسلامه بالرغم من كل منافق
وكافر مجاهر - لغضبوا غضبًا شديدًا من ترككم لوحدة الإسلام، وعدم اتباع خاتم
الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام، الذي بعث هاديًا لإزالة الاختلاف
والاختصام، وناسخًا لما كان من الاختلاف في الشرائع والأحكام، وداعيًا إلى ما
يحبه الله ويرضاه من الإخاء الإنساني العام، ومحرمًا لعصبيات الأجناس والأوطان
والآيات والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، والتفرقة بين من يؤمن بخاتم الرسل ويتبعه ومن يكفر به ويخالفه معلومة بالضرورة، لا يسع مسلمًا جهلها، ومن أنكرها وخالفها لا يعد مسلمًا، ولا أن يعامل معاملة المسلمين في ولاية عامة ولا خاصة ولا زواج ولا إرث ولا غير ذلك، ولولا أن أهل العراق خانعون لسلطة أجنبية قاهرة لطالبه علماؤهم من السنة والشيعة جميعًا أن يصرح بعقيدته، ويتبرأ مما تبادر
إلى أذهان الناس الذين قرأوا خطبته في كل قطر من مخالفة ما ذكر، ويعتذر
عنه بأنه لم يكن يريد بما ذكر في الخطبة ما يخالف شيئًا من تلك الأصول الاعتقادية
القطعية في الإسلام، ولكن العبارة كانت قاصرة - مثلاً - أو يجدد إسلامه.
إذا كان فيصل يجهل ما لا يسع مسلمًا جهله من عقائد الإسلام وأصوله، فهو
بدين اليهود والنصارى وتاريخهما أجهل؛ لأنه لم يتلق علوم الدين ولا غيرها عن
العلماء فيتكلم عن علم، وجل ما يعلمه مقتبس من الجرائد وأحاديث المجالس، ليس
له قاعدة يرجع إليها فيها، فيكون على بينة من مراد قائليها منها، فيظهر أنه سمع
أو قرأ قول بعض أهل العلم والرأي: إن اختلاف المذاهب الذي كان مثار الشقاق
والتفرق بين أهل الدين الواحد كالإسلام، إنما كان سببه البدع والأهواء، والتنازع
على الملك أو الجاه، ثم استغلته الأمم والدول الطامعة في ملك أهله واستعمار
بلادهم كما فعل الإنكليز في الهند، وكما يفعلون الآن في العراق؛ ففهم الكلام مقلوبًا
أو حرفه بهواه فحمله على اختلاف الأديان، جاهلاً أو غير مكترث بالإجماع
ونصوص القرآن، ولو كان كلامه في الخلاف المذهبي بين أهل السنة والشيعة
بقصد جمع كلمتهم لكان يكون له وجه، وكلامه نص في الخلاف بين المسلمين
واليهود والنصارى فلا وجه له.
أي فيصل! إن الخلاف بين اليهود والنصارى منشؤه عدم إيمان اليهود
بالمسيح عليه السلام، وأن الخلاف بين المسلمين من جهة وبين اليهود والنصارى
جميعًا من جهة أخرى هو في التوحيد المحض والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه
وسلم والقرآن، ولم يكن هذا ولا ذاك (دسائس أجنبية دسها بعض الأشخاص أو
الأمم الخارجية) ؛ ليوقعوا الشقاق بين أبناء سام كما زعمت حتى يصح قولك:
(ومتى عرفنا ذلك يرفع من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين) ؟
ثم ما معنى قولك بعد هذا: (وإني لا أرى لزومًا لتكرار القول، فإنا أولاد جد
واحد، إننا أولاد سام) فهل انتساب الشعوب إلى جد واحد يقتضي عقلاً أو طبعًا أن
يكونوا على دين واحد؟ كيف وأولاد الأب الواحد القريب قد يختلفون في الدين،
ولو صح قولك لما وجد في الأرض دينان، فإن جميع أهل الأرض من أولاد نوح
أبي سام، ومن أولاد آدم عليهما السلام؟
على أن أهل العراق ليسوا كلهم من أولاد سام كما زعمت، فالمشهور أن
الكلدانيين - وهم أقدم أمم الحضارة في العراق - من أولاد كوش بن حام بن نوح،
وفي البلاد كثير من سلائل الفرس الآريين، ويقال: إن الكرد بدوهم، وقيل: من
عرق آخر، وقيل: بل هم من العرب، ومع هذا فقد سمح فيصل لهم بأن يحافظوا
على جنسيتهم، ثم أي حاجة إلى اشتراط انتساب أهل الوطن الواحد إلى جد واحد
من ألوف السنين، وماذا يقول في الإنكليز الذي يمهد لهم سبيل السيادة الدائمة في
البلاد بخطبته هذه وسائر أقواله وأعماله هل هم من أولاد سام أيضًا؟ وهل يقبلون
أن يرتفع اسم النصارى عنهم أو عن بقايا الآشوريين والكلدانيين الذين يتخذونهم
ذريعة لفصم عروة كل اتحاد في العراق، كيف وملك الإنكليز هو حامي الإيمان
المسيحي، وشعبه من أشد شعوب الأرض عناية وبذلاً في سبيل نشر النصرانية؟
ومما أودعه الإنكليز في المعاهدة الإنكليزية العراقية حرية دعاة النصرانية في
العراق؛ ليعملوا ما استطاعوا في تحويل المسلمين فيه عن الإسلام.
يا حسرة على فيصل وعلى أبي فيصل وعلى إخوة فيصل! يا حسرة على
أهل بيت ينتسبون إلى خاتم الرسل وسيد ولد آدم ثم يكون هذا حظ أمته وملته ومنهم!
ولماذا هذا كله؟ لأجل التمتع بلقب (ملك) في ظل الإنكليز، ألا بعدًا لملك زائل
بل لقب باطل، يتوسل إليه بهذه الوسائل، وصاحبه لا يملك به إلا تنفيذ أمر
الأجنبي فيما يهدم به سلطان أمته وتشريع ملتها.
يبشر الملك فيصل البريطاني أهل العراق بأن مستر لويد جورج الذي زعم
أنه أكبر رجل في العالم قال: (نحن دخلنا العراق، ونرغب أن نجعلها جنات
النعيم) ، وأن العوام ورعاة الإبل والغنم في العراق لترتعد فرائصهم من هذه
البشارة؛ لأنها صريحة في أن الإنكليز لا ينشئون هذه الجنات للعراقيين بل لأنفسهم؛
لأنهم ينوون امتلاك العراق وعدم الخروج منه، وفيصل يعتقد هذا ويرضاه،
ولكنه لا يعلم أن أكثر أهل العراق يفهمونه، كما يعلم أنهم إذا فهموه لا يرضونه،
ولذلك بشرهم به! كأنه لا يقرأ كما يقرءون يوم ما يفعل الإنكليز في السودان وفي
مصر أيضًا.
وجملة القول في جواب الاستفتاء أن ما تبادر إلى أفهام الناس في الهند
ومصر وغيرهما من عبارة فيصل هو عين ما عليه المعطلون للأديان، المنكرون
للوحي، الداعون إلى استبدال الروابط الجنسية والوطنية بالدين، ولا مخرج له إذا
أراد أن يحافظ على ظاهر الإسلام لاشتراطه في ملك العراق أو لذاته إلا أن يتأول
لنفسه بأنه لجهله باللغة العربية لم يستطع أن يعبر عن مراده، ويذكر نحوًا مما تقدم
في كلامنا، أو يتوب ويجدد إسلامه، ويجب على علماء العراق مطالبته بذلك،
وأن ينذروه بخلعه إذا أبى، ولا يستطيع هو ولا سادته الإنكليز أن يعاقبوهم على
هذه المطالبة، كما عللنا سكوتهم فيما تقدم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.