للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحجاز والعرب
بين السلطان العامل الصامت
وملوك الدعاية القوَّالين

{إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: ١٢٨) .
ابتُلي العرب بالترك المتعصبين لجنسهم، يحاولون هدم لغتهم فدينهم، أو
يكونوا تركًا فكان من أمرهم ما كان ... ثم ابتلوا بالشريف حسين بن علي أمير
مكة، فظنوا أنهم ينالون بالنهوض معه استقلالهم فنهضوا، فإذا به وبأولاده يتخذون
العرب سلعًا تجارية يبيعونها للإفرنج؛ ليكونوا ملوكًا في ظل دولتي الاستعمار
الكُبريين، ففقدوا بسوء سياستهم مهد الحضارتين الأموية والعباسية، وقد ظل
بعضهم مخدوعًا باستقلال حسين فولده علي في الحجاز، من حيث كان يسعى
آخرون من أعقلهم وأعلمهم بالحقائق إلى القضاء عليهما قبل أن يفعلا فيه ما فعل
عبد الله في شرق الأردن وفيصل في العراق، وقد قضى الله على الأولين قبل أن
يقضيا على خير تراث للعرب والإسلام، ونسأله تعالى أن يكفيهما الآخرين.
ثم ابتُلي العرب الآن في مهد أمتهم، والمسلمون في مأرز دينهم بزعيم هو في
نفسه خير مما كان يعرف عنه ويقال فيه، كما كان أولئك شرًّا من كل ما كان
يعرف عنهم ويقال فيهم، وهو عبد العزيز بن السعود سلطان نجد، فالمرجو أن
يكون هذا من الابتلاء بالحسنات بعد السيئات وبالخير بعد الشر، كما قال تعالى:
{وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: ١٦٨) وقال:
{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: ٣٥) وعسى أن
تكون عاقبة ما ذكر من الابتلاء الرجوع إليه تعالى بإقامة سنته في السياسة
والاجتماع، وشرعه في الحق والعدل والفضل.
ولما كان بعض السوريين وغيرهم مرتابًا في أمر ابن في السعود إما للجهل
بتاريخه وسيرته، وإما لقياسه على حسين وأولاده، وإما لتأثير دعايتهم الطاعنة
فيه، وتأثير دعاية أجدادهم مع الترك في الطعن بسلفه وقومه المنبوزين بلقب
الوهابية، رأيت أن أختم مقالاتي الكثيرة في هذا الموضوع بخلاصة من سيرة
الفريقين.
***
السلطان ابن السعود
لما بلغ أمير نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أشدَّه رأى
نفسه مع والده وأهل بيته ضيوفًا عند ابن الصباح صاحب الكويت؛ إذ كان
ابن الرشيد أمير شمر قد غلبهم بمساعدة الدولة العثمانية على أمرهم، وأخرجهم
من الرياض عاصمة إمارتهم، فماذا فعل هذا الشاب الناشئ؟
عزم على استعادة ملكهم، فاستنفر زهاء ثلاثين رجلاً من قومه، فركب كل
منهم ذلولاً، وخرجوا من الكويت إلى نجد يستنفرون من مروا به من عشائرها في
طريقهم، وهو كما قال الشاعر:
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونقَّب عن ذكر الحوادث جانبًا
فحارب ابن الرشيد المجهز بمدافع الترك ورشاشاتها وقهره، واستعاد إمارة
آبائه وأجداده منه، ثم إنه غزاه بعد ذلك، وكان قد نزل له والده عن إمارة نجد،
فأحسن الإدارة، ونظم القوة، وهجم على عشائر (شمَّر) في جبلهم المنيع،
فحصرهم فيه في أيام الحرب الكبرى وشدة الغلاء، وكان قادرًا على أخذهم عنوة
بالمناجزة، ولكنه على شجاعته يكره سفك الدماء، فيقف فيه عند حد الضرورة،
وما زال يضيق عليهم الخناق حتى نزلوا على حكمه وخضعوا لأمره، فأزال
إمارتهم بضمها إلى إمارته، وحجته أن قطرًا واحدًا يتفق أهله في اللغة والدين
والعادات لا يجوز شرعًا ولا مصلحة أن يكون فيه حكومتان تتقاتلان وعَلَمَان
يتنافسان، وقد وضع من بقي من أسرة آل الرشيد عنده في الرياض، يعاملهم فيها
معاملة أولاده وأهل بيته سواء.
وكان قبل ذلك قد وجه عزمه إلى أخذ سواحل نجد التي على خليج فارس
المعروفة بالحسا من الترك (ويسميها الترك متصرفية نجد) ففاز بذلك، ولكن
الترك رأوا أن يصالحوه كما صالحوا إمام اليمن، ويجعلوه صديقًا لهم بدلاً من
الاستمرار على سفك دماء جيوشهم في بلاد العرب هدرًا من غير فائدة سياسية ولا
اقتصادية كما جربوا في القرون الماضية، فعقدوا معه اتفاقًا رسميًّا اعترفوا له فيه
بأن بلاد نجد إمارة مستقلة، وأن الحكم فيها له ولذريته من بعده بالإرث،واشترطوا
فيه شروطًا هي نافعة له غير ضارة، ككونه إذا احتاج إلى ضباط ينظمون
جيشه أو سلاح ونحوه يطلبه من الدولة دون الأجانب إلخ.
صارت نجد في أيامه إمارة كبيرة أحسن إدارتها، وحفظ الأمن فيها ونظم
الدعوة لنشر الدين والحضارة في قبائلها والقبائل المجاورة لها، كما نظم فيها القوة
المقاتلة تنظيمًا كافيًا لحفظها والأمن من اعتداء أحد من المجاورين لها عليها،
ولكنه ليس تنظيمًا فنيًّا كجيوش دول الحضارة المعروفة، على أن كبرى الدول
صارت تحسب لقوته في البلاد المجاورة له ألف حساب، وخطبت مودته الدولة
البريطانية، وحاولت أن تستعين به على قتال الترك في العراق فأبى، وعقدت معه
اتفاقًا اعترفت له فيه بسيادته على نجد وملحقاتها، ومنها ما كان بيد الدولة العثمانية،
وفي ذلك الاتفاق تقييد لاستقلال نجد الخارجي لا تشعر به حكومتها إلا إذا أرادت
الخروج من عزلتها ومعاملة العالم، فإن لم يكن أُلغي فقد صار إنفاذه اليوم أسهل مما
كان بالأمس؛ لأن الدولة البريطانية أحوج إلى موادة ملك الحجاز وسلطان نجد اليوم
منها إلى سلطان نجد وحدها بالأمس، ولا تزال حريصة عليها في الظاهر، وإن
كانت تكيد له في الباطن، على أنه هو قد صرح في مكة بأن استقلاله مطلق لا
نفوذ عليه ولا في بلاده لأجنبي قط.
فعل كل هذا عبد العزيز آل سعود، وما هذا بقليل على مثله في هذا الزمن
القصير، وهو مع هذا في منتهى التواضع في معيشته وحكمه ومعاشرته للناس من
أهل بلاده وغيرهم، لم تجنح نفسه للترف والنعيم، ولا للزينة والزخرف غير
المعتاد أو المحظور شرعًا، ولا للعظمة والكبرياء، ولا للتمتع بالألقاب الضخمة،
ولا لتسمية أعوانه بالوزراء والحجاب، ولا للإنعام عليهم بالرتب وشارات الشرف
كما فعل الملك حسين، وكذا ولده عبد الله في إمارته الصغيرة الحقيرة التي هو
فيها تحت سيطرة الأجانب وخدمتهم - ولا بثّ دعاية لنفسه ولا لقومه في البلاد
العربية، ولا غيرها من البلاد الإسلامية، لا باسم الوحدة العربية ولا بعنوان
الجامعة الإسلامية، ولا اصطنع جريدة ولا بذل للمادحين ولا للناقدين درهمًا ولا
دينارًا، وهو لا يبالي بالأقوال، وإن كان يبالي بها ويهتم بأمرها ساسة الدول
الكبرى، ويبذلون في سبيلها الملايين. ومن المعلوم أن حاله غير حالهم، وماله
غير مالهم، وبيئته غير بيئتهم، وقد سخّر الله له كثيرين يعملون للمصلحة التي
يبغيها لا له، فأغناه عن استئجار الأقلام المنافقة.
وقد ناصبه الشريف حسين وأولاده العداء منذ صار أمر الحجاز بأيديهم،
وكادوا له وتحرشوا به مرارًا، كان أقواها زحف الشريف عبد الله على (الخرما
وطربة) بأعظم قوة منظمة وُجدت في الحجاز عقب استيلاء حسين على المدينة
المنورة، وخروج الجيش التركي منها بانكسار دولته ودول أحلافه، فكسره الإخوان
شر كسرة، ومزقوا شمل جيشه المنظم، وفرَّ هو منهزمًا يحاكي الإخوان من
الوهابية في زيهم وكلامهم، حتى صرح له والده بأنه كان يفضل قتله على نجاته
بهذه الصورة المزرية، ولم يكتفوا بخزي هذه الكسرة الشائنة، فتحرشوا بالنجديين
بعد ذلك مرارًا، ومنعهم الملك حسين من أداء فريضة الحج، وضيق على تجارتهم
حتى منعها من الحجاز، وأسرف في الكيد والدسائس لسلطانهم، والسعي لإعادة
إمارة ابن الرشيد في نجد، وإمارة آل عايض في (عسير) وضمهما إلى الحجاز،
بل وضع بناء سياسته في جزيرة العرب على أساس تقسيم السلطنة النجدية والبلاد
اليمنية إلى عدة إمارات، تابعة لملك واحد (أي له) في السياسة والعسكرية،
والشؤون العامة، وبالغ هو وأولاده في احتقار السلطان عبد العزيز بن السعود،
حتى إن أضعفهم أجير الإنكليز في مديرية شرق الأردن، لا يعبر عنه إلا بشيخ
عشائر نجد، دع طعنهم في دينه ودين قومه على حد تعيير مادر لحاتم الطائي
بالبخل،.
وقد عاملهم هو بالحلم الواسع فلم يزدهم حلمه إلا بغيًا وغرورًا، حتى إذا
قامت عليه الحجة بوجوب إنقاذ الحجاز من ظلم حسين وإلحاده في الحرم على ما
أفتينا به، بناء على الأخبار التي تواترت برواية الكثير من الحجازيين والآفاقيين
من الحجاج وغيرهم، وقرر ذلك مؤتمر الشورى الذي عقد في الرياض عاصمة
نجد - أمر بالزحف على الطائف الني هي أمنع معاقل الحجاز، ومركز أكبر
قوته العسكرية، فزحف الإخوان من مُتَديِّنَة الحجاز ونجد، فأخذوا الطائف عنوة،
ثم ما وراءه من المعاقل الحصينة، وأعظمها (الهدى وكرى) وفر الشريف
عليّ القائد العام وولي عهد الحسين، كما فرَّ أخوه قبله من بأس الإخوان،
واستأذن قائد الجيش - وهو الشريف خالد بن لؤي أحد شرفاء مكة - من السلطان
بالزحف بمن معه على مكة المكرمة وغيرها، ولو أذن لهم لاستولوا على كنوز الملك
حسين وذخائره كلها، وانتهى أمر الحجاز كله في شهر أو شهرين.
ولكن هذا السلطان العاقل الحليم الصبور أمر بوقف الزحف حتى يحضر
بنفسه، إذ بلغه أنه قد وقع من الإخوان في الطائف شذوذ مخالف للشرع؛ بقتل
بعض الأهالي غير المقاتلين وسلب بعض الأموال، فخاف أن يقع مثل ذلك في
أرض الحرم، ولأنه لا يستحل القتال في الحرم على ما فيه من الخلاف كما بيَّناه
في الفتوى المشار إليها آنفا، فأمر بانتظاره حتى يحضر هو بنفسه، وكان يمكن
الزحف على جدة، أو قطع الطريق على الملك حسين بينها وبين مكة
المكرمة، ولكنه لم يأذن بذلك أيضًا، وقد شرحنا ذلك من قبل.
ثم إنه - أي السلطان - جاء بنفسه وأمهل الملك حسينًا حتى فَرَّ بأمواله
وذخائره إلى جدة، فاستولى على مكة سلمًا، ودخلها هو ومن معه محرمين بالعمرة،
ثم أفرط في التأني والتريث حتى كان ما كان من تحصين الشريف علي لجدة،
ووضع حامية في حصون المدينة المنورة، وكان قد تألف فيها حزب وطني نصبه
ملكًا دستوريًّا على الحجاز بإذن والده، وقد اختار السلطان عبد العزيز حصار جدة
على مناجزتها خلافًا لأكثر أنصاره وأوليائه من النجديين وغيرهم، وصابرها أكثر
من سنة حتى سقطت من تلقاء نفسها، وكان قد حاصر حامية المدينة المنورة أيضًا،
فاستسلمت قبل استسلام جدة بأيام كما علمه الخاص والعام، فكانت العاقبة حَسَنة
على ما كان في الوسائل من الأغلاط، وَتَمَّ (لشيخ عشائر نجد) الاستيلاء على
جميع الحجاز مع عسير، وصار ملكه ممتدًّا من البحر الأحمر إلى خليج فارس،
ولم يزده هذا كله إلا خشية لله تعالى وتواضعًا للناس، وتنزهًا عن الدعوى والتنفج
والتبجح الذي عهدناه من غيره.
***
(٢)
الشريف حسين وأولاده
وأما حسين بن علي شريف مكة وأميرها فملكها، فمدعي ملك العرب،
فمنتحل الخلافة الإسلامية - فقد فُتن هو وأولاده بحب المجد الكاذب،والمُلك الصوري
في ظل الأجانب. فأجمعوا أمرهم على جعل البلاد العربية تابعة للدولة البريطانية؛
ليكونوا خلفاء وملوكًا في ظلها، لعلمهم بأنهم من حيث هم هم كالهباء أو كالعدم لا
ظلَّ لهم، وأنه ليس لهم عصبية قومية يتملكون في ظلها وأنه لم يكن لهم ولا
لسلفهم من أمراء مكة حسنة في الحرمين الشريفين في علم ولا عمل يستميلون بها
أهل الحجاز ولا غيرهم من العرب أو المسلمين بتمنيتهم العود إلى مثله، بل لا
يحفظ التاريخ عنهم منذ بضعة قرون إلا الظلم والإلحاد في الحرم، وإنما كان أمراء
مكة يُنصَّبون من قبل الدولة المصرية ثم الدولة العثمانية، ويظلمون الناس من
حجاج وحرميين في ظلهما.
وقد انتفخوا في هذا الزمن كبرًا وعتوًّا وغرورًا بما كان من ميل الإنكليز
الخادع لهم، حتى لم يبقَ في أدمغتهم ولا قلوبهم أدنى ولا أصغر موضع لنصح
ناصح ولا تذكير مذكر، فقد نصحنا ونصح غيرنا لكبيرهم ولصغيرهم بأنه لا رجاء
لهم في حفظ سلطانهم في الحجاز إلا بقوة أمتهم واتحادها وتضمانها، وأن هذا
الاتحاد لا يمكن حصوله في جزيرة العرب إلا على قاعدة الحلف بين حكوماتها
المسلحة، وأعظمها وأقواها حكومتا نجد واليمن، وضمنَّا لهم إقناعهما بذلك إذا
رضي به حسين، ولكن حسينًا لم يرض أن يتنزل درجة من عرش سماء عظموته
وجبروته، ولا أن يتحول خطوة عن جعل جميع البلاد العربية وفي مقدمتها اليمن
ونجد خاضعة لإمبراطوريته وخلافته، كما أشرنا إلى ذلك آنفًا، وإنما كان قصارى
تواضعه أن يعد بالسماح لكل من إمامي اليمن ونجد باستقلال إداري في بعض البلاد
الخاضعة لهما الآن، وهو ما كان خاضعًا لهما قبل الحرب الكبرى، وهو على هذه
الكبرياء والغرور والدعوى لم يتخذ لملكه قوة عسكرية تكفي لحفظ الحجاز من
التعدي عليه، ولم يقدر أن يُخضِع قبائله لطاعته، بل اكتفى من عظمة الملك
بالألقاب والرتب الدولية وأسماء الوزارات الصورية، والموسيقى الملكية، فكان
كما قال الشاعر:
كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد
غر حسينًا وعودُ الإنكليز الخادعة؛ لأنه يجهل تاريخ الهند وما هو أقرب
منه إليه وهو تاريخ مصر الحديث.
ثم غر حسينًا مبايعةُ جمهور من الفلسطينيين والسوريين بالخلافة العظمى،
فظن أنه صار إمام المسلمين الأعظم، وكان قبلها يحتقر إمام اليمن وسلطان نجد،
فصار بعدها يحتقر مصر والهند، ويقول فيهما ما قال مالك في الخمر، بل صرح
بتكفير المصريين وشبههم بالأنعام، وصدَّ حكومتهم عن إرسال ركب الحج وما
يتبعه من الأموال والأرزاق إلى أهل الحجاز، وألف لجنة لتضع له المطاعن في
بعض الكتب الإصلاحية ومؤلفيها من المتقدمين والمتأخرين ليبلغ العالم الإسلامي
الامتناع من قراءتها، بما له من السيطرة الدينية بزعمه لانتحاله لمنصب الخلافة،
وللدعاوى العريضة التي كان يمتع بها نفسه بما ينشره في جريدته (القبلة) .
ومما زاد حسينًا غرورًا بنفسه تلك الكنوزُ التي كنزها من مال الرشى الذي
أفاضه عليه الإنكليز وعلى أولاده في عهد الحرب، فقد بلغ - كما روي عن (مستر
لورانس) المستشرق الذي كان يدير دفة سفينة الشرفاء في لجج الصحراء -
ثمانية وأربعين مليونًا من الجنيهات الذهبية، وما كان يبتزه من مال السحت في كل
عام من الحجاج وأهل الحجاز جميعًا، وقد بينا أنواعه في الخطاب العام الذي نشرناه
في المنار.
ومما زاده وزاد أولاده غرورًا تزلف كثير من المنافقين لهم، واصطناعهم
لبعض الجرائد العربية التي تطريهم وتدافع عنهم وتغش الناس بهم، وتجعل
سيئاتهم حسنات، وتهوَّن أمر خصمهم وتنفر العرب والمسلمين منه، ولا سيما
سلطان نجد وقومه، وفي مقدمة هذه الجرائد (المقطم) الذي ثبت على إمداد حسين
فَعَلي في الغي والغرور، ونصره دعايتهما بالإفك وقول الزور. فصبرا وصابرا
إلى أن قضى الله عليهما، وأدال لخصمهما منهما، ولم يستفيدا من هذه المصابرة
إلا خسارة القناطير المقنطرة من الذهب التي جمعاها من السحت والظلم،
وفضيحتهما فيما اختلقا واختلق لهما أنصارهما من الطعن في ابن السعود وقومه.
***
دعاية المقطم لحسين وأولاده
أسرفت جريدة المقطم في الدعاية الحجازية، وسمحت لأحد محرريها بلقبه
المنوط به التوسع في المسائل الشرقية أن يرخي لنفسه العنان في هذا الميدان،
فيقول ما شاء من أنباء معزوّة وغير معزوّة، وآراء معقولة وغير معقولة، ولم تعد
تحسب لما يكشفه المستقبل حسابًا، فكانت في الدعاية لهؤلاء الجاهلين مثلهم على ما
أوتي أصحابها من علم وخبرة وتجارب، ولا نبحث هنا عن علة ذلك وسببه من
سياستهم، ولا فيما هنالك من معاملة مالية بينها وبينهم.
دع ما أذاعوه عن موت ابن السعود بالسل، ودع تأويل أكذوبتهم بعد ظهورها
بأنه مسلول في الدرجة الأخيرة التي لا تطول معها الحياة، فإن هذا وذاك مما
عددناه نحن مُحتمِلٌ للصدق، حتى كذبته لنا أنباء البرق، وتذكَّر إن كنت ناسيًا ما
كانت تنشره من أخبار قوة الملك عَلي الحربية، من جيوش نظامية وبدوية،
وأسلحة لا تقل عن أسلحة الجيوش الألمانية، من سيارات مدرعة ودبابات مروعة،
وطيارات مسلحة تحلق في الجَواء، وأساطيل مواخر في الدأماء، وجحافل تترى
حتى يكاد يضيق بها رحب الفضاء، ومن سعي الملك علي الدستوري تارة للصلح
على ما أوتي من قوة وبأس شديد، كراهة لسفك الدماء وإيثارًا للمودة على البغضاء،
واحترامًا لأرض الحرم المقدسة، وعزمه تارة أخرى على مطاردة الوهابيين
وانتزاع الحرم منهم بالقوة، ثم الزحف على بلادهم، أو يدخل بلدة الرياض عاصمة
سلطنتهم،
هذا من جهة أو من الجهة الواحدة، ومن جهة أخرى - كما تعبر (المقطم)
أن ما عليه الإخوان الوهابيون من الفقر والعوز، وقلة السلاح والذخيرة، والحرمان
من النظام والدربة، ومن وقوع الشقاق بينهم، وخروج بعض القواد على سلطانهم،
واشتعال نيران الفتن في عقر دارهم، والأخطار التي تساورهم من القبائل التي
في جوارهم - كل ذلك من آيات خذلانهم وسوء عاقبة سعيهم.
ومن جهة ثالثة - وإن لم تكن من هجيرى الكاتب - أن ولي عهد إمام اليمن قد
خطب قومه يغريهم بالوهابيين المخالفين في الدين، والمنابزين للزيديين، وأن
هبوات الزحف اليمانية وقسطل سنابك الخيل الزيدية، ستغشى بلاد الحجاز من
الجنوب، فتتلاقى مع جحافل الحجاز من الشمال، وتلتف حول هؤلاء الشراذم من
الإخوان ذات اليمين وذات اليسار، فتحيط بهم من كل مكان، حتى لا يتفلت منها
إنسان.
ومن مزاعم المقطم في هذه الجهة أن سلطان نجد لم يدعُ الإمام يحيى إلى
مؤتمر الحجاز، والحق أنه دعاه، وأنه أول من أجاب الدعوة.
ومن جهة رابعة أن العالم الإسلامي سيكون إلبًا واحدًا على هؤلاء الوهابية
تشيُعًا للأسرة الهاشمية، كما تقتضيه معارف محرري " المقطم " الإسلامية، ولا
سيما بعد أن اتهمهم الصادق المصدوق الصدِّيق الملك علي الهاشمي الدستوري
وكتاب دعايته بهدم القبة الخضراء، المظللة لقبر أفضل من أظلت السماء،
وأقلت الغبراء، صلوات الله تعالى عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأولياء،
وبهدم قبر سيد الشهداء (حمزة رضي الله عنه) إلخ.
ومن جهة خامسة أن مما انفرد به (المقطم) دون أُجَرَاء دعاة البيت الهاشمي
على الاختلاق، تلك المواد التي صورها للمؤتمر الذي عقد بين السلطان والجنرال
جلبرت كلايتن ومن معه من مندوبي العراق لتسوية الحدود بين نجد وبين العراق
وشرق الأردن، فقد ادّعى المقطم أنه وقف على ما تقرر فيها، ونشر مواد تُنفِّر
العالم الإسلامي من سلطان نجد. كذبتها الحكومتان الإنكليزية ثم النجدية، ولكن بعد
أن صدقها الكثيرون في الشرق والغرب ونقلتها عنه صحف كثيرة، لا يخطر في بال
أصحابها أن المقطم تكذب كذبًا صريحًا في أمثال هذه المسائل التاريخية
الرسمية.
ويشبه هذه المواد في ظهور كذبها بعد نشرها تلك المواد التي لفّقتها،
والشروط التي زورتها، في شأن تسليم الملك علي للسلطان ابن السعود في جدة،
وكانت إحدى الجرائد ظنت أن المقطم تلقاها من الوكالة العربية فنقلتها وعزتها إلى
الوكالة، فنفاها الشيخ عبد الملك الخطيب وتبرأ منها، ثم جاءت جريدة أم القرى
المكية ناشرة للشروط الرسمية، فعُلم كذب شروط المقطم الفاضح، وأنا لا أعتقد
أنها لُفقت في إدارة المقطم، وإنما الراجح أن رجال الملك علي الذين فروا من جدة
لقنوهم هذه، كما أن مندوب الملك فيصل في مؤتمر بحرة هو الذي اختلق لهم
شروط مؤتمر (بحرة) وذنب (المقطم) أنه أباح لهم صفحاته على ما يعلم من
كذبهم وحمل تبعته بنشره باسمه، وجعله من معلوماته الثابتة عنده.
ومن جهة سادسة - والجهات الحسية ست - أنه كان مثلهم يجمع بين النقائض
والأضداد؛ فينشر لهم ما يغشون به أمتهم العربية وملتهم الإسلامية من إيهام
استقلالهم وعملهم لاستقلال الأمة وذم الوهابية وسلطانهم، ثم ينشر بعض الأخبار
ولا سيما الرسمية المكذبة لهم، ويكتم ما يمكن كتمانه من التصاقهم بالدولة
البريطانية وجعل الحجاز تحت حمايتها، حتى إن حسينًا لم يتربَّ بخروجه من
الحجاز مذءومًا مدحورًا، ثم من العقبة ملومًا محسورًا، وانتباذه في قبرص مغمورًا
مثبورًا، وخذلان (العظمة البريطانية) له كأن لم يكن شيئًا مذكورًا، لم يتربَّ بهذه
العاقبة السوءى، فظل يأوي إلى ظل ما سماه (مقررات النهضة) من حماية
الإنكليز لمملكته الوهمية من الداخل والخارج، ولا سيما بعض (الأمراء الحاسدين)
فكتب إلى رئيس الوزارة البريطانية يعاتبه ويطالبه بإخراج ابن السعود من
الحجاز، وقد رد عليه الوزير ردًّا شديدًا، ونشر المقطم كتاب الملك المخدوع ورد
الوزير عليه، فأين هذا مما كان قد نشره من تصريحه بأن استيلاء ابن السعود على
الحجاز آثر عنده من تدخل الإنكليز في شؤونه؟
وكذلك كان فعل ولده علي صرَّح فقد بمثل هذا التصريح، ونشر له المقطم
وغيره أقوالاً توهم حرصه على الاستقلال المطلق دون الأجانب، وتفضيل ابن
السعود عليهم، كما أنه قد ثبت أنه كان يسعى لجعل الحجاز تحت حماية الإنكليز
رسميًّا بشرط أن يخرجوا ابن السعود منه، سمعنا هذا أولاً من الوفد الهندي الذي كان
في جدة، وقد عرفوه من قنصل الإنكليز فيها، ثم سمعناه ممن قدم بعد ذلك من
جدة: كالدكتور خالد الخطيب الذي كان رئيس مصلحة الصحة عند علي.
وثبت أيضًا أنه كان يسعى لرهن جمرك جدة لدولة أجنبية تقرضه مليون جنيه
لمتابعة قتال ابن السعود، وثبت أيضًا أن أخاه الملك فيصلاً سعى له هذا السعي
لدى الدولة البريطانية ثم الدولة الفرنسية عند زيارته لهما في الصيف الماضي، وقد
خاب السعي لديهما ولدي الدولة الإيطالية أيضًا، ولو تم لكان سببًا لعبث الدولة
المستولية على الجمرك باستقلال الحجاز، واحتلالها لثغره الأعظم الذي هو مدخل
أكثر الحجاج.
وقد كان كل انتصار لهما خذلانًا ووبالاً عليهما، ونكالاً وفضيحة لهما وسببًا
لخسارتهما أكثر ما جمعا من مال السحت والخيانة.
ونذكر ههنا على سبيل الاستطراد زيارة الملك فيصل عاصمة فرنسة التي
طردته من سورية أقبح الطرد، في الوقت الذي كانت مدافعها تدمر فيه مدينة دمشق
وغيرها لأجل إقناع حكومتها بنصب أخيه زيد ملكًا عليها، وإقناعها بأن هذه هي
الوسيلة الوحيدة لتوطيد سلطانها الاستعماري فيها.
هذه جملة موجزة من سيرة الملك العربي الفعال، وسيرة ملوك الدعاية
القوالين، وسماسرة الاستعمار الأوربي في البلاد العربية، ولما نشره المقطم من
الدعاية الباطلة لهم، لخّصْتُها وأوردت بعضها بعبارة شعرية أو كالشعرية؛ لئلا
تمج الأسماع قراءتها، إذا هي ذكرت بعبارتها بعد أن اطلعوا عليها في أوقاتها،
ونحن نحفظ قصاصات المقطم الحاوية لها، وإنما كتبناها للعبرة بها، والتحذير من
مثلها، فإننا نرى أن دعاية الإفساد الهاشمية لم تنته بانتهاء أمر الحجاز، وبلغنا أن
رئيس حكومتي حسين وعلي الساقطتين نقل ذلك عن دار المندوب السامي بمصر،
وأن الملك عليًّا أعطى بعد وصوله إلى العراق مائة وخمسين ألف جنيه لتنظيم
دعاية جديدة، فننصح لمن يعنيهم أمر الحجاز من العرب وسائر المسلمين أن يكونوا
على حذر، ويتكاتفوا ويتعاونوا على وقاية مهد أمتهم ودينهم من الخطر، وأن
يقارنوا بين تينك السيرتين بالأعمال، فإنها لا تقبل التضليل كالأقوال، ويفكروا
فيما يجب في الحال، لحسن العاقبة والمآل.
خاتمة كتاب (ملوك العرب) لأمين الريحاني الكاتب الشهير
وهي خلاصة اختباره الشخصي سنة ١٣٤٣هـ ١٩٢٤م
رعية الملك حسين تطيعه وتخافه.
رعية ابن سعود تطيعه وتحبه.
رعية الإمام يحيى تطيعه دون حب ودون خوف.
رعية الملك فيصل لا تخاف ولا تحب ولا تطيع إلا مكرهة.
فمَن مِن الملوك المذكورين في شبه الجزيرة يستحق أن يسود العرب؟