للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استيلاء ابن السعود على جميع الحجاز
وثائق تاريخية

(١)
تسليم المدينة المنورة
جاء في العدد الحادي والخمسين من جريدة (أم القرى) الذي صدر بمكة
المكرمة في٢جمادى الثانية سنة ١٣٤٤ الموافق ١٨ ديسمبر سنة ١٩٢٥ ما نصه:
لقد كان أكبر هَمٍّ عظمة السلطان - أيده الله - في حربه مع الشريف حسين
وأولاده أن يبذل كل وسعه ومجهوده لمنع حدوث أي حادث مكدر بجانب البلدتين
المقدستين مكة والمدينة، وكان لمَّا تم أمر مكة، ودخل جند عظمة السلطان لها،
قدم بعض أهل المدينة يطلبون الأمان على المدينة وما حولها، ويطلبون إرسال عدد
قليل لاستلام البلدة المقدسة، فأرسل عظمة السلطان قوة قليلة من جنده بقيادة صالح
ابن عدل إلى حوالي المدينة، ولما وجد الحامية التي فيها لا تنوي الاستسلام سِلمًا
أصدر أمره الكريم بعدم مهاجمة المدينة، والاكتفاء بحصارها عن بعد، ولكن ذلك
الحصار لم يكن شاملاً حتى لا يعظم الضيق على تلك البلدة المقدسة، ولما طال أمد
الحرب، ووجد أن ترك أمر المدينة بدون تدبير مرتب يطيل الأمر، بعث عظمة
السلطان قوة تحاصر المدينة، فتمنع وصول الأرزاق لحمايتها، وأرسل لأهلها أن
يخرجوا من البلدة، وأمَّنهم على أرواحهم وأموالهم، واستقبلهم جنده أحسن استقبال،
وسد عوزهم، وحمل قسمًا منهم إلى مكة، وأكرم مثوى الباقين، وإذ ذاك بدأ
الضيق الشديد في المدينة على الحامية، وبدأت فكرة التسليم تسري إلى رجال
الحامية، وقد بعث فريق منهم مصطفى عبد العال يكتب لعظمة السلطان، يطلبون
التسليم على شروط اشترطوها، فأجابهم عظمة السلطان إليها إذا وفوا بشروط
التسليم، وعلى ذلك أمر نجله سمو الأمير محمد بالتوجه لاستلام المدينة، فلما
وصلها لم يوفِّ الذين كاتبوا بالأمان عهدهم في حينه، فازداد الحصار شدة على
الحامية، وهذا نص البرقيات التي تبودلت بين جدة وحامية المدينة بشأن مصطفى
عبد العال، عثرنا عليها في دائرة البرق اللاسلكي في المدينة المنورة، وهذا نصها:
***
البرقيات التي تبودلت بين حكومة جدة وحامية المدينة
المدينة ١ ربيع الثاني - قائد المدينة وكيل الأمير مصطفى عبد العال وصل
مكة بالكتب، صادروا جميع أمواله وأملاكه في الحال.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة ١ (ج١) إلى الملك
نحن لا نشك بأن شحات كاتب ابن سعود بواسطة عبد العال، بعد أن قرأنا
صورة الكتاب المرسل منه، ومختوم بختمه الخاص، وبعد أن حسَّ بمصادرة
أموال مصطفى أخذ جميع صناديقه وذهبه الذي كان وضعه عند مصطفى سابقًا،
ونحن نريد من الله أن يكون هذا ليس له صحة.
... ... ... ... قائد المدينة ... ... ... وكيل الأمير
المدينة ١ج١ - قائد المدينة - وكيل الأمير
إذا ظهر لكم منه حركة اقبضوا عليه هو ومن يلوذ به.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
المدينة ٢٠ ربيع الثاني - قائد المدينة - وكيل الأمير
قرأنا في أم القرى أن مأمورين المدينة طلبوا الأمان، وكاتبوا ابن السعود؛
لأجل التسليم ألحقوا المسألة وكذبوها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة ٢٢ربيع الثاني (كذا في أم القرى) إلى الملك
غدًا سنرسل برقية للعالم الإسلامي ولابن سعود نفسه نكذبه بأن المدينة ما
طلبت التسليم، وسنختمها باسم عموم المأمورين والقبائل وأعيان البلاد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة
جدة ١٠ج١ إلى الملك
اليوم كتَّبنا الشريف شحات كتابًا إلى ابن سعود وإلى النشمي، وإلى الصعيدي
مصطفى يكذبهم فيه جميعًا بأنه لم يكاتب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة

(نشرنا هذه البرقيات ليعلم الناس أن هؤلاء القوم يعملون العمل ويعرفونه
ثم لا يعتذرون عنه، بل يميلون للكذب فيه ليماروا على الناس، ومما يدل على
ذلك برقية أرسلها الشريف علي لقائد المدينة ليرسلها إلى عمان ليموه على الناس
فيها، وهذا نصها) :
جدة ١٥ربيع الثاني- وكيل الأمير والقائد وقائد الخط ورئيس الديوان
برقياتكم لشرق الأردن بخصوص إلحاق المدينة إلى الشرق العربي تناقلتها
الصحف العربية الإسلامية، وستضر بموقفنا الحالي جدًّا، الْحَقُوا المسألةَ وكَذِّبوها
في هذه البرقية، اكْتُبوها للأخ عبد الله بعمان تبتدئ (كنا سابقًا نظرًا للضيق الذي
كنا فيه طلبنا معاونتكم لنا فقط، والآن الحمد لله العدوُّ انسحب من أمام خطوطنا،
وقد وصل ٣٥٠ حمل، ونحن ما زلنا مجاهدين ومدافعين عن قبر الرسول بأرواحنا،
ونبذل الغالي والرخيص في هذا السبيل) عسى ولعل ترتق ما حصل في الأذهان
والأفكار العمومية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
***
المراوغات
لما نشر الشريف علي في الأنحاء الأكاذيب عن المدينة المنورة، وجاءت
الوفود لرؤيتها أخذ يعمل الأساليب المتعددة لخداعهم في المدينة أيضا، وهذا نص
البرقيات التي أرسلها من أجل قنصل إيران.
١ج١- قائد المدينة وكيل الأمير، قائد الخط رئيس الديوان
نبشركم، العدو انسحب من أطراف ينبع، أرسلوا من يتجسس وعرفونا،
وأظن أن العرافة رئيسهم توجه لعندكم، وكذلك محمد ولد ابن سعود توجه لطرفكم،
بناء على الكتب التي أرسلت لأجل التسليم، ومعه قنصل لإيران وعبد الله الفضل،
وهذا الأخير هو عدونا، فلا تخلوه يختلط بالناس، ولا يمشي بنفسه، راقبوه كل
المراقبة، واعرفوا كيف تشتغلوا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
٨ج١- المدينة، الشريف شحات
اجْمَعُوا جميع النخاولة والأهالي المظلومين، وخذوهم إلى القنصل الإيراني
ويحكوا له الذي حصل عليهم من الفظائع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ناصر بن علي
جدة ٩ج١ - ناصر بن علي
عرضت عليهم جميع الأهالي والنخاولة المظلومين فلم يعملوا بمشورتي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شحات
(وهذا نص البرقية التي أرسلها الشريف علي لمنع دخول وفد جمعية
الخلافة الهندي إلى المدينة المنورة) .

٨ ج١ قائد المدينة، وكيل الأمير
بلغنا أكيدًا أن وفد جمعية الخلافة الهندية وصل رابغ، ومنها لمكة، ومنها
سيتوجه لطرفكم، فإذا وصل وأراد دخول البلدة، فاطلبوا منه هل جبتوا أمر من
الحكومة الهاشمية، فإذا ما معهم أمر فلا تدخلوهم، وإذا قالوا: معنا قولوا لهم:
تفضلوا لأن هذا الوفد هو عدونا، وقريبًا سيصل جدة وفد آخر هندي ضد هذا
الوفد فلا يهمكم ذلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
***
دور الشدة
ومن تاريخ ١٠ جمادى الأول وبدأت المشادة بين حامية المدينة والشريف علي
وهناك خرج الشريف علي عن جميع الحدود، فأباح في الحرم المدني المقدس
السلب والنهب، وبيع المجوهرات، وهذا نص البرقيات التي عثرنا عليها في هذا
الصدد ننشرها للتاريخ بحروفها وأغلاطها:
جدة٥ج١- إلى الملك
نحن لا يهمنا لا ابن السعود ولا السعود بنفسه، إنما الذي يهمنا هو الأرزاق
للجند، الجند بعد ما انتهت من تخريب البيوت بالخارج بدأت تنهب بيوت الداخل،
وعدتونا بإرسال الطيارة بالدراهم المتيسرة، إلى الآن لم نر لها أثرًا دبروا وأرسلوا
لنا الدراهم ولو ببيع إحدى البواخر، وترون منا ما يسركم.
... ... ... ... ... رئيس الديوان ... ... قائد المدينة

المدينة ١ج ... وكيل الأمير ... قائد المدينة
ج جاوبوا ولد السعود بأشد ما يمكنكم حتى لا تجعلوا له باب للمخابرة معكم
قطعيًّا، وهكذا يقطع أمله منكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة ... ... إلى الملك ... ... ١٠ ج١
تأكد لدينا أن محمد ولد السعود واجه أحد من أهل المدينة في رابغ، وحكوا
له قضية بيع مجوهرات الحرم، ولكن تداركنا الأمر وكذبناها أمام القنصل الإيراني،
بالطبع أم القرى ستنشرها يكون معلومكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة
جدة ١٣ ج إلى الملك
أمضوها وخلصونا
فهمنا أنكم أنتم الذين مؤخرين إنهاء المسألة بسبب عدم إمضائكم المعاهدة
للإنكليز انقضى الأمر ولا بقي في اليد حيلة، ووقعنا في الذي نخشاه، الجنود ما
عندهم أرزاق إلا ثلاثة أيام، التحويل لا يمكن أخذه من البلدة، العدو الذي جانا قبل
مدة لم يزل باقي هنا ينتظر الدراهم، وقصارى القول: إنه إذا للغد لم ترسلوا
الطيارة في الساعة السادسة سنفاوض العدو.
... ... ... ... ... ... ... عزت عمير، عبد المجيد أحمد

المدينة ١٣ج١ - وكيل الأمير قائد المدينة قائد الخط رئيس الديوان
ج باكر الثلوث تجيكم الطيارة هل تريدون انتحاري؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي

جدة ١٤ ج ١ إلى الملك
تزييدًا لقوة معنوية الجيش وتنشيطًا لهم وإرهابًا للعدو لا بد من إرسال الطيارة
إلى المدينة، ولو تحوم مؤقتًا وترجع حالاً، لا بد من ذلك، وليس لدينا غير هذا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن عمير
المدينة ١ ج ١ - رئيس الديوان
ج. لعدم وجود البنزين عندنا لا يمكننا إرسالها إلا بعد عشرة أيام لبينما
نحضر لها البنزين في الباخرة مع ذلك سأجتهد أنا والطيارين في ذلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
المدينة ١٤ج١- رئيس الديوان
برقياتكم أمس وملحقاتها أزعجتني للغاية، ما أدس عليك يا عبد الله، الحال
واقف معانا بالمرة من شهر وزيادة، وأنا أتشبث لقرض برهن أو ببيع أملاك فلم
نتوفق، الأجانب محتجين بأنهم على الحياد، لولا اعتمادي عليك ما أطلعتك على
هذا، تبصر بالأمر أنا في حيرة بسبب إرسال الطيارة، قلت لكم: بيعوا الذهب
والفضة التي بالحرم قلتو (؟) لما نحتاج فهل بقي احتياج بعد ما تقولوا إلى الغد
للساعة السادسة، إن لم تروا الطيارة فنحن نفاوض العدو، الحالة التي أنتم بها
تجيز لكم عمل كل أمر، انهبوا وكسروا ولا تهددوني بمثل هذا، الحالة التي نحن
فيها لا تقل عن حالتكم، ارحموني دخيلكم، اصبروا مقدار عشرة أيام حيث يصلنا
دراهم من سيدنا نرسل لكم منها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
المدينة ١٧ ج١ وكيل الأمير، قائد المدينة
بلغنا من نجاب ورد اليوم من مكة أن ولد السعود محمد توجه من طرفكم إلى
رابغ، حققوا وعرِّفونا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة ١٧ ج١ إلى الملك
ج ولد ابن سعود هنا قائم بتخريب وتجميع العربان، والتضييق علينا.
... ... ... قائد المدينة ... ... ... ... وكيل الأمير
جدة ١٧ ج١ إلى الملك
ج كررت الشرهة علينا وبالنتيجة تقول: كلوا المحرمات فلا بأس ولكن فيها
مضرة، ولا نرى منكم إلا إشارة الإهانة، بحيث صرحنا للعالم الإسلامي ولا
حصلت فائدة، وهذه من جملة إشارات ما عرضنا لكم ولا عاد فينا صبر بعد ذلك
ونحن بدنا دولة مستقلة، وأنتم استقليتم بها في أول الوقت فكيف تشرهوا علينا في
الآخر.
رئيس الديوان ... قائد الخط ... ... ... ... قائد المدينة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وكيل الأمير ... والقائد ... وعزت ... ... وعبد الله
المدينة ١٧ ج١ وكيل الأمير والقائد وعزت وعبد الله
ج لولا غلاكم وغلاء من أنتم بجواره، وأعتقد أنكم تقولوا: إني ما شرهت
عليكم، وأكل المحرمات مباح عند الضرورات، مع هذا ما قلت: كلوا حرام وأما
الإهانة منكم ولو صدر مني شيء فبرقياتكم أمس تجعلني مثل المجنون، أقول ولا
أدري عن الذي أقوله وله الحمد الذي ما ضيعت شعوري الغاية هي أن بعد الله أنتم
استنادي اشتغلوا شغل العقال، ونحن ندبر الذي ييسره الله ونرسله لكم إما تحويل
وإما بالطيارة، واستعينوا بالله والصبر، والشدائد لا بد لها من فرج ومثلكم يعرف
كل شيء، وأما شرهتي كما تقولوا في مخابرة الأجانب فأنتم أعرف بذلك، فإذا
فكرتوا تعرفوا محذورها، وقد حررنا على شحات في لزوم تأدية الدراهم لكم مع
استشارتكم في تدبيرها، ولا تقصروا في جهدكم بشيء، وأيضًا أمرنا ناصر يؤكد
عليه في ذلك هل استلم الحوالة من الخجا يكفي ما لقيته يا مسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة ١٧ ج إلى الملك
من يشك في ثباتنا الذي نوهتم عنه ببرقياتكم المتعددة نحن لا نزال محافظين
على عهدنا ووعدنا حتى نفقد موجودنا، ولكن الدرجة وصلت اللحم، وبعد كل هذا
هل عندكم أمل؟ نحن نريد منكم تأمين معيشة الجند الذي منذ ثلاثة أيام محروم
الطعام، هل رأيتم من يصبر على هذا، وهل كان هذا بمساعدة الأمة التي
تنصرونها، أم بحسن تدبيرنا ودرايتنا، أين الوزراء الذين قلدتهم الأمور؟ أين
الوكلاء؟ أين رجال الدولة؟ أين الذين أوعدوك المعاونة عند الشدائد؟ أين الذين
أشاروا عليك بتطويل المواعدة؟ هذا يومهم أجمعوهم إن استطعتم يفكروا في أمرنا
لأنك تعلم بأن دوام الملك موقوف علينا والله ثم والله نكتب لكم هذا ونحن على ثقة بأن
اليوم هذا هو آخر عهدنا بكل صراحة نقول إذا لم تتوافقوا مع الذين زاحموكم
وأوقعوكم بهذا الموقف الحرج، وتتوسلوا بتخليصنا إذا كان مرادكم حياتنا وحياة
البلاد، وإلا فغيركم بالنتيجة يأخذ الجميل وهذا واقع لا بد منه، تحاويلكم
رفضوها، شحات يجاوبكم، دبرونا اليوم وإلا نسلم عليكم.
... ... ... ... عبد الله عمير ... عزت عبد المجيد ... أحمد
فأجابهم الشريف علي على هذه البرقية برقية حماسية يطلب منهم الصبر
والجلد.
وأعقب الشريف علي هذه البرقيات بالبرقية الآتية:
المدينة ١٧ وكيل الأمير والقائد ورئيس الديوان وقائد الخط:
لم تجيبوني على برقياتي لأعلم أي ذنب جنيته؛ لتعذيبي بهذه الصورة، ليس
لي رغبة أو مطمع سوى حفظ كيان البلاد وشرفها، ولكن هذه بلية قدرها الله وهو
عالم بالسرائر وبالأعمال، وأملي أنكم تسعوا في حفظ شرف البلاد مهما كانت الحال،
وأما الحياة التعيسة والذليلة فالله لا يحكم بها علينا، كونوا على يقين عند أول
حركة تعملوها تكونون سبب ضياع حياتي وبعده أنتم والبلاد وأنا خصيمكم يوم
القيامة، وأطالبكم بضياع ديني. ... ... ... ... ... ... ... علي
وفي أثناء هذه الزوبعة من البرقيات يرسل الشريف شاكر من ينبع للشريف
علي البرقية الآتية:
جدة ١٧ ج إلى الملك
استرحم صدور الأمر في إرسال تحويل باقي المرتب من أرز وسمن وبن،
وأيضًا إرسال شيء باسم المملوك خاصة وأرزاق الفداوية والحروب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شاكر
***
دور تسليم
ولما تيقن رجال حامية المدينة أن لا فائدة من إطالة القول مع الشريف علي،
وقد بلغ منهم الضيق مبلغه قرروا التسليم، فبعث قائد المدينة عبد المجيد، وعزت
مدير الخط كتابًا إلى سمو الأمير محمد يطلبان ملاقاته، وأنهما سيخرجان الساعة
الرابعة من صباح الجمعة في ١٨ جمادى الأولى من المدينة، ويطلبان من يستقبلهما،
فأجاب سمو الأمير طلبتهما، وأرسل إليهما خيالة استقبلتهما، ولما حضرا بين
يدي سموه، فاوضاه في التسليم على شرط إعطاء الأمان لجميع الجنود والضباط
والأهلين، وإعلان عفو عام عما مضى، وأنهم في مقابل ذلك يسلمون المدينة وما
فيها. وفي صباح السبت دخل الأمير ناصر بن سعود وعبد الله الفضل وعزت قائد
الخط إلى المدينة مع فريق من الجنود فاستلموا قلعة سَلْع وما فيها من ذخائر وعتاد،
ووضعوا فيها قوة عسكرية، ثم مروا بجميع المراكز العسكرية والملكية للحكومة،
فاستلموها ووضعوا في كل منها قوة من الجيش النجدي، ولم يأت مساء السبت
حتى كان جندنا قد انتهى من استلام كل شيء في البلدة، وأمن الناس أجمعين.
وفي صباح الأحد تحرك ركاب سمو الأمير بجنوده وراياته قاصدًا المدينة
فوصل دائرة البرق حيث توضأ فيها، ثم سار توًّا لمسجد الرسول - صلى الله عليه
وسلم - فصلى فيه ثم أتى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم [١] ثم رجع فأمر
بمواساة الأهلين، وقد استحضر من (رابغ) ثلاثة آلاف كيس دقيق وأرز لتوزع
على الأهلين.
ولدينا تفاصيل كثيرة عن هذا الفتح ضاق النطاق عنه فنرجئه لفرصة أخرى
إذا احتاج الأمر إليه اهـ.
(ثم نشرت الجريدة في هذا العدد البلاغ العام الذي أذاعه السلطان عقب
فتح المدينة المنورة، وهذا نصه) :
***
(٢)
استسلام جدة وبه تم الاستيلاء على الحجاز
(صدر العدد الثاني والخمسين من جريدة (أم القرى) الغراء في جدة في
١١ جمادى الآخرة ١٣٤٤ الموافق ٢٧ ديسمبر ١٩٢٥) مفصلاً لما ذكر، وهذا
نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
بلاغ عام
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود إلى إخواننا أهل الحجاز
سلمهم الله تعالى: السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: فإني أحمد الله إليكم وحده الذي
صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأهنئكم وأهنئ
نفسي بما مَنَّ الله به علينا وعليكم من هذا الفتح الذي أزال الله به الشر، وحقن دماء
المسلمين، وحفظ أموالهم، وأرجو من الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يجعلنا
وإياكم من أنصار دينه ومتبعي هداه.
إخواني: تفهمون أني بذلت جهدي وما تحت يدي في تخليص الحجاز لراحة
أهله وأمن الوافدين إليه طاعة لأمر الله، قال جلَّ من قائل: {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ
مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: ١٢٥) ، وقال تعالى:
{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: ٢٥) .
ولقد كان من فضل الله علينا وعلى الناس أن ساد السكون والأمن في الحجاز
من أقصاه إلى أقصاه بعد هذه المدة الطويلة التي ذاق الناس فيها مر الحياة وأتعابها.
ولما مَنَّ الله بما مَنَّ من هذا الفتح السلمي الذي كنا ننتظره ونتوخاه أعلنت
العفو العام عن جميع الجرائم السياسية في البلاد، وأما الجرائم الأخرى فقد أحلت
أمرها للقضاء الشرعي؛ لينظر فيها بما تقتضيه المصلحة الشرعية في العفو.
وإني أبشركم - بحول الله وقوته - أن بلد الله الحرام في إقبال وخير وأمن
وراحة، وإنني - إن شاء الله تعالى - سأبذل جهدي فيما يؤمِّن البلاد المقدسة
ويجلب الراحة والاطمئنان لها.
لقد مضى يوم القول ووصلنا إلى يوم البدء في العمل، فأوصيكم ونفسي
بتقوى الله واتباع مرضاته، والحث على طاعته، فإنه من تمسك بالله كفاه، ومن
عاداه - والعياذ بالله - باء بالخيبة والخسران، إن لكم علينا حقوقًا، ولنا عليكم
حقوقًا، فمن حقوقكم علينا النصح لكم في الباطن والظاهر، واحترام دمائكم
وأعراضكم وأموالكم إلا بحق الشريعة، وحقُّنا عليكم المناصحة والمسلم مرآة أخيه،
فمن رأى منكم منكرًا في أمر دينه أو دنياه فليناصحنا فيه، فإن كان في الدين،
فالمرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في أمر الدنيا
فالعدل مبذول - إن شاء الله - للجميع على السواء.
إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون؛ لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا
للراحة والطمأنينة، وإني أحذر الجميع من نزعات الشياطين والاسترسال وراء
الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار، فإني لا أراعي في هذا الباب
صغيرًا ولا كبيرًا، وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره، هذا ما يتعلق
بأمر اليوم الحاضر، وأما مستقبل البلد فلا بد لتقريره من مؤتمر يشترك المسلمون
جميعًا فيه مع أهل الحجاز؛ لينظروا في مستقبل الحجاز ومصالحها.
وأني أسأل الله أن يعيننا جميعًا، ويوفقنا لما فيه الخير والسداد، وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ... ... الفيصل آل سعود
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن
تحريرًا بجدة في ٨ جمادى الثانية سنة ١٣٤٤
... ... ... ... ... ... ... ... ...
***
كيف تم تسليم جدة بين الهجوم والوجوم؟
يعلم الجميع ما كان من عظمة السلطان واختياره خطة الحصار على خطة
الهجوم لإنهاء هذه القضية، ونشرنا مرات عديدة أن السبب في ترجيح هذه الخطة
هي الرغبة في حقن الدماء، وخشية أن يسبب الهجوم فوضى في البلدة تُنتج إصابة
الأبرياء بما لم تكسبه أيديهم.
ولكن في المدة الأخيرة تراءى للناس أن الفوضى ستقع في البلدة هجم الجيش
أو لم يهجم - للانحلال الذي أصاب حكومة جدة في ماليتها ونظامها، ولما رأى عظمة
السلطان ذلك بعث مناشيرًا للجند في جدة يحذرهم من عاقبة التمادي في الباطل، ثم
أقام ينتظر النتائج، ولكن لم يتوسط شهر جمادى الأولى حتى وصل إلى القيادة
العليا أن قسمًا من رجال الحول والطول في حكومة جدة يتآمرون على إحداث
الفوضى في البلدة ونهبها والإخلال فيها، ولما وصل هذا الخبر وتحقق
أمره تقريبًا رأى عظمة السلطان أن ما كان يخشاه سيقع، وأن الحزم
يقضي بتعجيل الهجوم قبل أن تذهب الفوضى بالبلد وأهلها، فأمر مساء الثلاثاء في
٢٩ جمادى الأولى القوة التي وصلت جديدًا من الديار النجدية، وخيمت في الأبطح أن
تتحرك إلى الرغامة، وأمر فريقًا من الجيش الذي بدأ في المسير إلى ينبع أن يعدل
عن طريقه ويرجع إلى جبهة جدة، وأصدر أمره العالي لأخيه سمو الأمير عبد الله
ونجله سمو الأمير فيصل أن يكونا على قدم الاستعداد للعمل، وفي ظهر الأربعاء
ركب عظمة السلطان سيارته الخاصة ومشى إلى الجبهة، وقرر القيام بالهجوم
يوم الجمعة.
***
مفاوضة التسليم
ولكن لم تبلغ السيارة السلطانية (بحرة) حتى شوهد في الطريق سيارة قادمة
من جدة، وشوهد فيها المنشي إحسان الله أحد موظفي دار الاعتماد البريطانية في
جدة يحمل من سعادة المعتمد الكتاب الآتي نصه:
جدة في ١٦ ديسمبر سنة ١٩٢٥
حضرة صاحب العظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود
سلطان نجد.
بعد الاحترام: مراعاة للإنسانية ولأجل تسهيل عودة السلام والرفاهية بالحجاز
أكون مسرورًا إذا تفضلتم عظمتكم بالموافقة على مقابلتي بالرغامة غدًا يوم الخميس
قبل الظهر أو بعد ذلك بأسرع ما يمكن هذا، وتفضلوا بقبول وافر التحية وعظيم
الاحترام.
... ... ... ... ... ... نائب معتمد وقنصل بريطانيا العظمى
... ... ... ... ... ... ... ... ... وكيل قنصل جوردن

ولما اطلع عظمة السلطان على هذا الكتاب أرسل لسعادة المعتمد البريطاني
الجواب الآتي:
الرغامة في ٣٠ جمادى الأولى سنة ١٣٤٤
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى سعادة المعتمد البريطاني المستر
جوردن المفخم
تحيةً وسلامًا: أتشرف بأن أخبر سعادتكم بأني تناولت كتابكم المؤرخ ١٦
ديسمبر سنة ٩٢٥، وفهمت ما تضمنه، حالاً حضرنا في (العرضي) لمقابلة
سعادتكم في المحل الذي يخبركم به المنشي إحسان الله،هذا وتفضلوا فائق احتراماتي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم السلطاني

وفي الساعة الرابعة من نهار الخميس وصل المعتمد البريطاني إلى مقر
عظمة السلطان وأخبره بأن الحكومة البريطانية لا تزال على موقفها الحيادي في
قضية الحجاز، ولكن بالنظر لما عليه الموقف الحاضر في جدة ولمعرفتي بمحبتكم
للسلم وراحة المسلمين وحقن دمائهم وحقن دماء الأجانب، تقدمت إليكم بناء على
طلب الشريف علي وحكومته في التسليم، وأن توسطي في تقديم هذه الشروط لغاية
إنسانية بحتة ليس إلاَّ.
فأجاب عظمة السلطان على ذلك بأنني ممنون في هذا على شرط أن تكون
الشروط موافقة لنا، فأجاب المعتمد بأن الشروط نعرضها عليكم حتى إذا وافقت
رغباتكم يمكنكم قبولها، وبعد أن اطلع عظمة السلطان عليها قبلها مبدئيًّا بعد إدخال
شيء من التعديل عليها وهذا نصها:
***
اتفاقية التسليم
(١) بالنظر لتنازل الملك علي ومبارحته للحجاز وتسليم بلدة جدة يضمن
السلطان عبد العزيز لكل الموظفين الملكيين والحربيين والأشراف وأهالي جدة
عمومًا والعرب والسكان والقبائل وعوائلهم سلامتهم الشخصية وسلامة أموالهم.
(٢) يتعهد الملك علي أن يسلم في الحال جميع أسرى الحرب الموجودين
بجدة إن وجد.
(٣) يتعهد السلطان عبد العزيز بأن يمنح العفو العام لكل المذكورين أعلاه.
(٤) يجب على جميع الضباط والعساكر أن يُسلَّموا في الحال إلى السلطان
عبد العزيز بجميع أسلحتهم من بنادق ورشاشات ومدافع وطيارات وخلافه، وجميع
المهمات الحربية.
(٥) يتعهد الملك علي وجميع الضباط والعساكر بأن لا يخربوا أو يتصرفوا
في أي شيء من الأسلحة والمهمات الحربية جميعها.
(٦) يتعهد السلطان عبد العزيز بأن يُرحِّل كافة الضباط والعساكر الذين
يرغبون في العودة إلى أوطانهم، ويتعهد بإعطائهم المصاريف اللازمة لسفرهم.
(٧) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يوزع بنسبة معتدلة على كافة الضباط
والعساكر الموجودين بجدة مبلغ خمسة آلاف جنيه.
(٨) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يبقى جميع موظفي الحكومة الملكيين
في مراكزهم الذين يجد فيهم الكفاءة في تأدية واجباتهم بأمانة.
(٩) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح الملك علي الحق في أن يأخذ معه
الأمتعة الشخصية التي في حوزته بما في ذلك أتوموبيله وسجاجيده وخيوله.
(١٠) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح عائلة آل الحسين جميع
ممتلكاتهم الشخصية في الحجاز، بشرط أن هذه الممتلكات تكون فعلاً من الموروثة،
ولا تشتمل على الأملاك الثابتة المحولة من الأوقاف بمعرفة الحسين إلى شخصه،
ولا على المباني التي يكون الحسين قد بناها في أثناء ملكه لما كان ملكًا على الحجاز.
(١١) يتعهد الملك علي أن يبارح الحجاز قبل يوم الثلاثاء المقبل مساء.
(١٢) جميع البواخر التي في ملك الحجاز وهي (الطويل ورشدي
والرقمتين ورضوى) تصير ملكًا للسلطان عبد العزيز، ولكن السلطان يصرح إن
لزم الأمر للباخرة رقمتين أن تستعمل لنقل الأمتعة الشخصية التابعة للملك علي
المتنازل ثم ترجع.
(١٣) يتعهد الملك علي ورجاله وسكان جدة بأن لا يبيعوا أو يخربوا أو
يتصرفوا في أي شيء من أملاك الحكومة مثل اللنشات والسنابيك وخلافه.
(١٤) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح جميع السكان والضباط والعساكر
الموجودين ينبُع الحقوق والامتيازات المذكورة بعاليه، إلا فيما يختص بتوزيع
النقود.
(١٥) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح العفو للأشخاص المذكورة
أسماؤهم أدناه أيضًا ضمن العفو العام وهم: عبد الوهاب ومحسن وبكري أبناء
يحيى قزاز وعبد الحي بن عابد قزاز، وأحمد وصالح أبناء عبد الرحمن قزاز
وإسماعيل بن يحيى قزاز، والشيخ محمد صالح بتاوي وإخوانه إبراهيم وعبد
الرحمن بتاوي أبناء محمد علي صالح بتاوي، وأبنائهم وأبناء عمهم حسن وزين
بتاوي أبناء محمد نور والشيخ يوسف خشيرم والشيخ عباس ولد يوسف خشيرم
والشيخ ياسين بسيوني والسيد أحمد السقاف وعوائل وأموال جميع المذكورين آنفًا.
(١٦) إن كان الملك علي أو رجاله في حال من الأحوال يخالف أو يقصر
في تنفيذ أي مادة من المواد المذكورة بعاليه، فإن السلطان عبد العزيز لا يعتبر
نفسه في تلك الحالة مسئولاً عن تأدية ما عليه من هذه الاتفاقية.
(١٧) يتعهد الطرفان السلطان عبد العزيز والملك علي أن يُكفا عن أي
حركة عدائية أثناء سير هذه المفاوضة. اهـ.
وفي عصر الخميس ١ جمادى الثانية سنة ١٣٤٤ أمضى عظمة السلطان هذه
الاتفاقية، وفي الساعة السادسة ليلاً من هذا المساء أمضاها الشريف علي،
واعتبرت نافذة من ذلك الوقت.
***
الشريف علي في البارجة
وقد مضى يوما الجمعة والسبت بكل هدوء في جدة، وأخذ الضباط والجنود
فيها يستعدون للتسليم، وكان المنتظر أن الشريف عليًّا يغادر جدة يوم الثلاثاء ولكن
ترتيب التنظيم للتسليم قد يصعب مع وجوده؛ لذلك تقرر سفره من البلدة، وأن يقيم
في السفينة التي تقله إلى عدن ريثما يتم تدبير وسائل الانتقال الذي تحدد
لنهايتها يوم الثلاثاء، وفي الساعة الرابعة من صباح الأحد ٤ جمادى الثانية ركب
زورقًا بخاريًّا إلى البارجة البريطانية (كارن فلاور) ، ثم لحق به الشريف شاكر
وكاتبه عبد الله رشيد وبعض نفر من خدمه.
***
الاستسلام
وفي مساء الأحد عاد المعتمد البريطاني إلى الرغامة، وأخبر عظمة السلطان
بأن الشريف عليًّا قد أقام في البارجة البريطانية، وأنه قرر السفر إلى عدن، ومنها
إلى العراق حيث يقيم فيها نهائيًّا.
وأنه (أي المعتمد) يرى أن وظيفته في التوسط ستنتهي في صباح الغد،
ويقدم لعظمة السلطان رئيس الحكومة المؤقتة، وهو القائم مقام عبد الله زينل
ورئيس القوة العسكرية الضابط صادق بك، فشكر له عظمة السلطان سعيه.
وفي صباح الإثنين قدم إلى المقر العالي المعتمد البريطاني، ومعه رئيس
الملكية، ورئيس العسكرية، فدخل سرادق عظمة السلطان، وكان فيه كثير من
الضيوف ورجال الخاصة، وبعد أن استقر بهم المجلس قال سعادة المعتمد ما
يتخلص: بأن المهمة الإنسانية التي سعيت لها، وهي التوسط في حقن الدماء قد
انتهت، وإنني أقدم بصورة رسمية رئيس الملكية ورئيس العسكرية ليكونا مسئولين
أمام عظمتكم، فأجاب عظمة السلطان شاكرًا مثنيًا على همة المعتمد الذي بذلها في
هذا السبيل، ثم رجع المعتمد البريطاني إلى جدة، وأقام الرئيسان يتذاكران مع
عظمة السلطان في الترتيب الذي رتب من أجل ضبط جميع ممتلكات الحكومة
والأشياء التابعة لها.
وانقضى ذلك النهار باستقبال الوفود التي قدمت من جدة لتهنئة عظمة السلطان
بما أتم الله على يديه، ولقد كان في جملتهم الأشراف والعلماء والأعيان، وفيهم
الأستاذ الفاضل الشيخ محمد نصيف والشيخ قاسم زينل وكثير ممن لم تحضرنا
أسماؤهم، وفي جملتهم بعض رجال ديوان الشريف علي وكبار الموظفين عنده،
والكل كان مسرورًا ومستبشرًا بانقضاء هذه الأزمة على هذا الشكل السلمي، الذي
حقنت فيه الدماء وفتحت فيه السبل.
وفي صباح الثلاثاء ٦ جمادى الثانية أمر عظمة السلطان خالد بك الحكيم
وحسن بك وفقي وعبد العزيز العتيقي ويوسف ياسين مدير هذه الجريدة بالدخول
إلى جدة والمباشرة باستلام المهمات العسكرية، وترتيب إنفاذ الاتفاقية التي وضعت
من أجل الجنود وضباطهم، والنظر في الحالة العامة بالإجمال، ولقد سارت هذه
الهيئة في سيارة خاصة، ودخلت جدة الساعة الثالثة والنصف صباحًا، وفي تلك
الساعة كانت الدارعة التي تقل الشريف عليًّا تتهيأ للرحيل، وقد نزل إليها فيما بلغنا
بعض الوجهاء وقناصل الدول، فودعوه على ظهر الباخرة ورجعوا، وقد أقلعت
البارجة من ميناء جدة الساعة الرابعة من النهار.
***
دخول عظمة السلطان
وفي صباح الأربعاء ٧ جمادى الثانية سنة ١٣٤٤ تلقى فريق من جند المشاة
ورهط من خيالة الحرس السلطاني الخاص بقيادة سمو الأمير عبد الله أخي عظمة
السلطان الأمر بالمسير من المقر العالي إلى الكندرة للانتظار فيها، لاستقبال عظمته
حين دخوله إليها، وقد أُعِدَّ فيها سرادق خاص لاستقبال المستقبلين.
ولما كانت الساعة الرابعة بلغت سيارة عظمة السلطان بالقرب من الأسلاك
فنزل عن سيارته وامتطى ظهر فرسه، وسار بموكبه المهيب حتى وصل أمام
السرادق المنصوب، حيث كان الناس من كافة الطبقات وقوفًا ينتظرون، فلما نزل
عن ظهر جواده رفع العلم النجدي على باب السرادق، وأخذت المدفعية بإطلاق
مدافع التحية، فأطلقت مائة مدفع ومدفع، وقد جلس عظمته في صدر السرادق،
ومن ورائه سمو أخيه الأمير عبد الله، وبعض أمراء البيت السلطاني، وفريق من
آل الرشيد وبعض خاصته، ولما استقر بعظمته المقام استأذنه القائم مقام بتقديم
معتمدي الدول وقناصلهم فأذن، وكانوا معتمد دولة بريطانيا العظمى، ومعتمد دولة
السوفييت، وقنصل إيطاليا، وقنصل فرنسا، وقنصل مصر، ووكيل قنصل هولندا،
ووكيل قنصل إيران، وكان معهم مندوبو الشركات الأجنبية في جدة، ولما استقر
بهم المقام نهض قنصل إيطاليا، وتكلم باللغة العربية ما ملخصه: إنه بالنظر لأنني
أكبر القناصل سنًّا أتقدم بالنيابة عن نفسي وبالوكالة عن رفاقي بتقديم تهنئتنا
لعظمتكم بدخولكم هذه البلدة بهذه الطريقة السلمية، التي حقنت فيها الدماء، ونتمنى
لكم السعادة والهناء دائمًا.
فأجابه عظمة السلطان بأنني لم أبطئ في الأعمال الحربية إلا انتظارًا لهذه
النتائج السلمية، وإني أشكر سعادة المعتمد البريطاني، وأعرب عن سروري
لحضرات القناصل جميعًا، وأشكرهم على الرغبة التي أبدوها في موقف الانقلاب
الأخير، حيث تَمًّ بسلم كامل حسب الرغبة والمطلوب، وإن شاء الله تعالى سيكون
الحال في الحجاز مما يسبب الراحة لجميع أهل الحجاز وجميع الوافدين إلى هذه
الديار المقدسة.
ثم تكلم القائم مقام وشكر قناصل الدول لمساعدتهم له في الانقلاب الأخير،
ودارت بعد ذلك أحاديث خصوصية , ثم قدم عظمة السلطان أخاه سمو الأمير عبد
الله لحضرات القناصل وقال: إن (فيصلاً) تأخر في المقر لبعض تدابير عسكرية،
وبعد أن تناول الحاضرون القهوة وكؤوس المرطبات، ودَّعوا عظمة السلطان
وانصرفوا مودَّعين بمثل ما استُقبلوا به من الحفاوة.
ثم دخل الضباط العسكريون فوجًا بعد فوج وعظمته يستقبلهم بوجه طلق وثغر
بسام، وبعد ذلك تقدم علماء البلدة وأعيانها فقابلهم أحسن استقبال، وأفاض عليهم
من أحاديثه العذبة وكلامه الجميل، وقد دام وقت الاستقبال ما يقرب من الساعتين،
وأمضى عظمة السلطان يومه وليلته في (الكندرة) .
وفي صباح الخميس ٨ جمادى الآخرة قرر عظمته الدخول إلى البلدة فدخلها
ونزل في بيت العالم السلفي الفاضل الشيخ محمد نصيف، ولما وصل المنزل هرع
الناس أفواجًا أفواجًا للتحية والسلام عليه، وقد ألقى بين يديه الشاب الأديب حسين
نصيف خطابًا موجزًا جميلاً، ثم قام بعده الأديب الفاضل الشيخ محمود شلهوب فتكلم
عن الحجاز وحاجاتها نصح فيه ووعظ، ثم قدم تلاميذ مدرسة الفلاح بنشيد يحيون فيه
عظمة السلطان، وتقدم خطيبًا منهم بخطاب تحية جميل، وقد شكر
عظمة السلطان الجميع على ما أظهروه من الحفاوة والتكريم.