للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: مهاتما غاندي


كتاب الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي [١]

مقدمة
إني مهتم بمسألة الصحة منذ عشرين سنة اهتمامًا خاصًّا، حتى إنني في زمن
إقامتي بإنكلترا كنت أقوم بنفسي بإعداد طعامي وشرابي؛ ولذلك أتجرأ على القول
بأن تجاربي في هذه المسألة مما يصح الاعتبار به، وقد حصلت بتلك التجارب
على نتائج نهائية جمعتها في الصفحات التالية للقراء.
لقد صدق المثل القائل (الوقاية خير من العلاج) فإن الابتعاد عن المرض
بمراعاة قوانين الصحة أسهل وأسلم من مداواة الأدواء التي لا تصيبنا إلا لجهلنا
وعدم مبالاتنا بتلك القوانين، فعلى هذا يجب على سائر الناس أن يعرفوا قواعد
الصحة معرفة صحيحة، وهذا هو الغرض من تسويد هذه الصفحات لتكون بيانًا
لتلك القواعد، هادية إلى الطرق المثلى لمعالجة الأمراض الكثيرة الوقوع.
قال ملتون: إن الذهن هو الذي يقلب الجنة جحيمًا والجحيم جنة؛ لأن الجنة
ليست في مكان فوق السموات العلى، ولا الجحيم في الدرك الأسفل من
الأرض [٢] ! وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه المثل السنسكريتي القائل (تتوقف
عبودية المرء وحريته على حالته الذهنية) هكذا الصحة والمرض منوط أمرهما
بذهن الإنسان نفسه، فالمرض لا يكون نتيجة لأعمالنا وإهمالنا وتفريطنا فقط،
بل لشعورنا وميولنا، وأفكارنا النفسية أيضًا، وقد قال قائل من مشاهير الأطباء:
(الناس يموتون جزعًا من الأمراض، كالجدري والهيضة والطاعون، أكثر مما
يموتون بهذه الأوبئة نفسها) لقد أصاب القائل في قوله، فإن مما لا ريب فيه أن
الجبان أكثر ما يلقى حتفه قبل أجله [٣] .
إن الجهل بقواعد الصحة علة من العلل الأساسية للأمراض، فكثيرًا ما نجزع
ونضطرب من مرض تافه جدًّا، ثم نزيده خطرًا وشدة لجهلنا به وبأسبابه وطرق
علاجه، وهذا الجهل نفسه يسوقنا إلى اتخاذ التدابير الخرقاء أو الالتجاء إلى
المتطببين الدجالين، ما أعجب هذه الحالة! ولكن ما أصدقها. فإن علمنا بالأشياء
القريبة منا أقل من علمنا بالأشياء البعيدة، فما أقل ما نعلمه عن قريتنا التي ولدنا
فيها، والتي نعيش فوق أرضها وتحت سمائها طول عمرنا، ولكنا نستطيع أن نعيد
عن ظهر القلب أسماء أنهار إنكلترا وجبالها، ما أشد رغبتنا في معرفة أسماء
النجوم المتلألئة في السماء، على حين أننا قلما نبالي بمعرفة الأشياء التي يحتوي
عليها بيتنا، إن حب المراسح والألعاب الصبيانية المتكلَّفة قد ملك قلوبنا، ولكنا قلما
يخطر في بالنا أن نجيل نظرنا في هذا الملعب الأكبر الذي تلعب فيه الطبيعة أمام
أعيننا لعبها الذي هو فوق كل جد؟
نحن لا نستحي مطلقًا من جهلنا المخل ببنية جسمنا، وكيفية نشوء العظام
والعروق والأعصاب ونموها، وكيفية دوران الدم وتحوله إلى الفساد، وكيفية
سريان الأفكار الخبيثة والأهواء الشيطانية إلى قلوبنا، بل ما هو أعجب من كل ذلك
كيفية قطع ذهننا للمسافات الشاسعة، والأزمان الطويلة (اللانهائية) بينما الجسم لم
يزل ساكنًا! إلى غير ذلك من العجائب التي تحير الألباب! أجل، لا شيء أقرب
إلينا من جسمنا، ولكن ربما لا يوجد شيء نجهله أو نعرض عنه مثل ما نجهل
ونعرض عن جسمنا.
يجب على كل واحد منا أن يزيل هذا النقص المخزي، ويرى من أكبر
وظائفه المحتمة عليه أن يعلم شيئًا من الحقائق الأساسية المتعلقة بجسمه، كذلك
يجب أن يدخل هذا القسم من التعليم في مدارسنا ويجعل إجباريًّا، إن حالتنا الآن
لمخجلة جدًّا، فإنه إذا أصابنا جرح خفيف أو حرق طفيف، فإنا لا نعرف ما نفعل
إذًا، وإذا شاكتنا شوكة في قدمنا نقعد متحيرين لا ندري بم ننقشها؟ وإذا لسعنا
ثعبان عادي فلا تسأل عن جزعنا وفزعنا! أجل، إن هذه الحالة لمخجلة، لو
نتدبرها بجد لنختنقن حياء وخجلاً، ومن يزعم أن جميع الناس عامتهم وخاصتهم لا
يمكن أن يعرفوا هذه الأمور فزعمه باطل، وإني أقدم الصفحات التالية إلى جميع
أولئك الذين لا يحبون المعاذير، بل ينشدون المعرفة والعلم والعمل.
إني لا أزعم أن الحقائق التي أودعتها في هذا الكتاب لم يسبق إليها أحد قبلي،
ولكن سيجد القراء فيه لباب كتب كثيرة في هذا الموضوع، فإني ما أقدمت على
التأليف إلا بعد درس هذه الكتب درسًا وافيًا، وبعد المرور على سلسلة من التجارب
الجدية الشخصية، وعدا هذا فإن قرائي الذين ليس لهم سابق معرفة بالموضوع
سيسلمون من التحير والارتباك في تمحيص الحق من الآراء المتضاربة المتناقضة
التي شحن بها الأطباء كتبهم، فبينما يقول كاتب: إن الماء الساخن يجب استعماله
في حالة خاصة، إذا بالآخر ينقض قوله زاعمًا أنه يجب استعمال الماء البارد فيها،
ولكني قد درست هذه الآراء المتناقضة درسًا وافيًّا بكل تنبه ويقظة، حتى أمكنني
أن أؤكد لقرائي أنه يحسن بهم الاعتماد على أفكاري الخاصة.
لقد تعودنا دعوة الأطباء حتى في أخف الأمراض، وإن عجزنا عن دعوتهم
عملنا بإشارات المتطببين الجاهلين، وما ذلك إلا لأنا قد خدعنا بخداع فظيع،
فأصبحنا نعتقد أنه لا يمكن شفاء المرض إلا بالدواء، إن هذا الوهم لشر الأوهام،
وهو العلة لأكثر متاعب النوع البشري ومصائبه، نعم يجب معالجة الأمراض التي
تعترينا، ولكن ليس (بالأدوية) التي لا يقتصر أمرها على عدم الفائدة، بل قد
تكون ضارة أيضًا، إن انكباب المريض على العقاقير والأدوية حماقة لا تقلُّ عن
حماقة الذي يحاول تنظيف البيت بتغطية الأوساخ المتراكمة فيه عوضًا عن إزالتها،
فكلما ازداد عناية في تغطيتها تزداد هي عفونة ونتنًا، وهكذا تغطية الأمراض
بالأدوية في الجسم الإنساني.
إن المرض ليس إلا (إنذارًا) من الطبيعة بأن الأوساخ قد تراكمت في جزء
من أجزاء البدن، فمن الكياسة إذًا أن نترك الطبيعة تزيل الوسخ بنفسها [٤] لا أن
نحول بينها وبين وظيفتها بتغطية المرض بالأدوية، إن الذين يستعملون الأدوية إنما
يضاعفون صعوبة وظيفته الطبيعة، مع أنه من السهل جدًّا أن يعينوها في مهمتها
برعاية القواعد الأولية اللازمة للصحة، كالصوم الذي يمنع تراكم الوسخ،
وكالرياضة المتعبة في الهواء الطلق التي تزيل بعض الأوساخ وتخرجها في صورة
العرق، وإن هناك أمرًا هو رأس الأمور وعمادها في جميع الأحوال وهو أن نظل
دائمًا ضابطين لعقلنا وشعورنا.
لقد جربنا أن قارورة واحدة من الدواء إذا دخلت مرة في البيت لا تخرج منه
أبدًا، بل لا تزال تدعو وتجلب من أخواتها قوارير أخرى، لقد وجدنا جمًّا غفيرًا
من الناس يشكون أمراضًا طول عمرهم مع شدة شغفهم بالأدوية وتهافتهم عليها،
فتراهم يقرعون اليوم باب هذا الطبيب، وغدًا يجرون وراء ذلك الطبيب، وهكذا
يقضون أعمارهم في البحث عن نطاسي يعالجهم ويشفيهم من أوصابهم، ولكن
هيهات أن يفوزوا ببغيتهم وينالوا الصحة والعافية! لقد صدق جوستيس اسطفان
Stephen Justice في قوله: (إن من العجب العجاب أن يعالج الأطباء
الأبدان التي يجهلونها بالعقاقير التي قلما يعرفون حقيقتها!) ، وقد أيد عدد من أعظم
أطباء الغرب هذا الرأي نفسه فاعترف الدكتور إستلي كوبير Cooper istLei
مثلاً بأن علم الأدوية أكثره تَخَرُّصٌ محض وقال الدكتور جوهن فيوربس
Feorbes n. Jot Sir: (إن معظم الأمراض تشفى بعوامل الطبيعة أكثر
من شفائها بالأدوية) وقال الدكتور باكير Baker والدكتور فرانق Frank:
(إن عدد الذين يموتون بالأدوية أكثر من عدد الذين يموتون بالأمراض)
وقد توسع الدكتور موزونغود Mosongood. حتى قال: (إن ضحايا
الأدوية أكثر من ضحايا الحروب والجدوب والأوبئة بمجموعها!) .
وكذلك مما قد جُرِّب أنه إذا كثر الأطباء في بلد ازدادت فيه الأمراض انتشارًا
على قدر عددهم [٥] . وقد قويت الرغبة في الأدوية هذه الأيام وازدادت ازديادًا
عظيمًا حتى إن أحقر الصحف السيارة أيضًا قد أصبحت تعتقد أنه إذا لم يسعدها
الحظ بإعلانات أخرى، فإنها لا بد من أن تفوز بإعلانات الأدوية.
لقد قيل لنا في كتاب حديث عن الأدوية المسجلة بأن فرويت سولت [٦]
SoLts - Fruit وغيره من المسهلات التي يبلغ ثمنها من روبيتين إلى خمس
روبيات لا تكلف أصحابها إلا بضع مليمات! فلا عجب إذا بالغ أصحابها في
إخفاء طرق تركيبها هذه المبالغة الشديدة.
وعلى هذا نحن نؤكد لقرائنا بأنه لا حاجة لهم أصلاً إلى الأدوية والأطباء،
وكذلك نقول للذين لا يتجرأون على مقاطعة الأطباء والأدوية مقاطعة تامة: تثبتوا
وتصبروا وتبصروا، واستغنوا عن الأطباء ما استطعتم، وإن اضطررتم وفقدتم
كل حيلة، فالحذر كل الحذر من المتطببين، بل عليكم بطبيب حق تتبعون أوامره
بكل دقة، ولا تراجعون طبيبًا غيره إلا بإذنه، ولكن اعلموا وتذكروا دائمًا وقبل
كل شيء بأن الشفاء بيد الله تعالى وحده لا في يد الطبيب.
موهن داس كرم شند غاندي ***
القسم الأول
في الصحة وأسبابها وفيه تسعة أبواب
الباب الأول
الصحة
إن من يأكل ويشرب كثيرًا، ويمشي ويتنقل هنا وهناك على إرادته ولا
يضطر إلى الطبيب يُحسب - عادة - صحيح الجسم سليم البدن. ولكنك إذا دققت
النظر قليلاً في هذا الحسبان ظهر لك سقمه، فإنه قد شوهد كثير من الناس يأكلون
كثيرًا ويغدون ويروحون بحُرِّية، وهم في الحقيقة مصابون بأمراض خفية، وقد
ينخدع هؤلاء الناس أنفسهم بحالتهم فيزعمون أنهم أصحاء من كل الوجوه، وذلك
لعدم مبالاتهم بأمر الصحة وبمعرفتهم إياها معرفة صحيحة.
والحقيقة أنه قلما يوجد في هذه الدنيا الواسعة إنسان صحيح تمام الصحة
بمعنى الكلمة، لقد قيل حقًّا: إن الصحيح تام الصحة إنما هو ذلك الذي يملك عقلاً
صحيحًا كاملاً في جسم صحيح كامل؛ وذلك لأن الإنسان ليس إلا الروح، وأما الجسد
فبمنزلة الظرف للروح [٧] ، إن العلاقة بين الروح والجسد قوية جدًّا، حتى إنه إذا
أصيب أحدهما بشيء تأثر به الآخر حالاً، لنأخذ الوردة مثالاً: إن مكان اللون من
الوردة مكان الجسد في الإنسان [٨] ومكان الرائحة فيها مكان العقل أو الروح فيه،
ولا أحد يؤثر الوردة الصناعية على الوردة الطبيعية، ويحب استبدالها بها، وسبب
ذلك ظاهر، وهو أن العطرية التي هي روح الوردة لا يمكن إيجادها في الوردة
الصناعية، وهكذا نحن نفضل الإنسان الذي يملك روحًا كبيرًا طاهرًا وأخلاقًا كريمة
عالية، على الرجل الذي لا يملك إلا جسمًا قويًّا مفتول العضلات. لا ريب أن
الجسد أيضًا ضروري كالروح بحيث لا يمكن الاستغناء عن أحدهما، ولكن الروح
أهم بكثير من الجسم على كل حال، فعلى هذا لا يصح أن يوصف الإنسان العاطل
من الأخلاق الطاهرة بالصحة التامة مهما يكن قوي الجسم، وذلك لأن الجسم الذي
يحمل روحًا مريضًا وخلقًا سقيمًا لا يكون إلا مريضًا بنفسه، فالأخلاق الطاهرة على
هذا هي الأساس الحقيقي للصحة الحقيقية، والأفكار الخبيثة والأهواء الشيطانية
ليست إلا أنواعًا وأشكالاً مختلفة للمرض.
لقد تطورت هذه العقيدة في حزب من الناس بأوربا، حتى طفقوا يقولون: إن
التقي النقي صاحب الروح الطاهرة البريئة لا يمرض أبدًا، وإن كل مَنْ يمرض
يبرأ بتطهير روحه، فإنها إذا طهرت قويت بنيته واشتد جسمه، إن هذا الرأي حق
لا غبار عليه، وإن المصلحين في الشرق قد بالغوا في العمل به، ولكننا على كل
حال نستنتج منه: أن تطهير الروح خير وسيلة لنيل الصحة، وأن الصحة لا يمكن
المحافظة عليها إلا بالمحافظة على طهارة الروح.
إن الغضب والحقد واللؤم من أمارات المرض، وقد قال بعض الأطباء: إن
السرقة وغيرها من العادات القبيحة أمراض بالحقيقة [٩] فقد وجدوا في إنكلترا نساءً
من الأسر المثرية تدخل المحال التجارية فتسرق منها ما تصل إليه يدها، فعدوا
سرقتها هذه مع غناها وثروتها نوعًا من الجنون، وكذلك يوجد أناس لا يستريحون
إلا أن يشاغبوا ويشاجروا، فهذا أيضًا نوع من المرض.
وإذا تفكرنا على هذا النهج جزمنا بأن الصحة الحقيقية لا يتمتع بها إلا من
كان شخصًا أيِّدًا [١٠] قوي الأساطين، وثيق الأركان، ليس بسمين سمنًا مفرطًا، ولا
هزيل هزالاً شديدًا، سليم الأسنان والعينين والأذنين، نظيف الأنف طاهره من
المخاط، نظيف الفم، يعرق جلده بسهولة، سليمًا من النتن، وهو فوق ذلك قابض
على أزِمَّة عقله ومشاعره بكل قوة، إن الفوز بمثل هذه الصحة صعب جدًّا، وإن
فزنا بها مرة، فالمحافظة عليها أصعب.
إن السبب الجوهري الذي يحول بيننا وبين الصحة الحقيقية هو ضعف صحة
آبائنا وأجدادنا، وقد قال كاتب شهير: إن تكن حالة الآباء حسنة فحالة أولادهم لا
بد من أن تكون أحسن وأعلى منهم، فإن كان هذا القول صحيحًا، فيضطر الذين
يقولون بأن الدنيا تتقدم إلى تغيير رأيهم. إن المتمتع بالصحة التامة لا يخاف
الموت، وإنّ جزَعنا وفزَعنا من الموت لدليلٌ قاطع على أننا لسنا بأصحاء كما
ينبغي؛ لأن الموت ليس إلا انقلابًا كبيرًا في حياتنا، فينبغي أن نعده خيرًا ونافعًا لنا
بحسب سنن الطبيعة [١١] ، وأن من الواجبات الصريحة على كل واحد منا أن ينشد
الصحة التامة، وهذا هو ما ساقنا إلى البحث في الأوراق التالية عن الطرق التي
توصلنا إلى مثل هذه الصحة، وعن الطرق التي تضمن لنا بقاءها ودوامها إذا فزنا
بها.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))