للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الثورة السورية والحكومة الفرنسية
والتنازع بين الشرق والغرب
(تابع لما نشر في الجزء الثامن ص ٥٨٥)

(٦)
(تقاليد السياسة الاستعمارية، والجامعات العربية والدينية والشرقية)
إن للأوربيين تقاليد في السياسة والاستعمار قد جمدوا عليها، وإن لهم فيها
حججًا داحضة قد ألفوها، لا يزالون يلوكونها بألسنتهم، وتقطر سمومها من أقلامهم،
وهم لا يشعرون بأنها لا تصلح لهذا الزمان ولا تروج فيه كما راجت في أزمنة لا
تشبهه، كأنهم على سعة علومهم واختبارهم لم يشعروا بما طرأ على الشعوب والأمم
من التبديل والتحويل، وما تنقَّلت فيه من الأحوال والأطوار، فهم بالجمود على
التقليد يقعون فيما يفرون منه، وينقضون ما بنوا، وينكثون ما فتلوا.
إنهم يخافون عاقبة كل اجتماع في الشرق تستفيد به شعوبه وملله من تظاهرها
على دفع الظلم والضيم عنها، وتعاونها على الارتقاء في أسباب الحرية والعمران،
فإنكلترة وفرنسة تخشيان الجامعة الإسلامية والجامعة العربية وهما اللتان تسعيان
في تكوينهما بدون تنبه منهما ولا شعور، وهما اللتان بثتا في بلاد الشرق فكرة
الجامعة الوطنية بالأقوال، فلما استمسك المصريون والسوريون بعروتهما لم يجدا
من رجال الدولتين إلا المقاومة.
إن أوربة لم تتحول مع الزمان عن السياسة الصليبية بقدر ما تحولت عن
الديانة الصليبية، فبهذه السياسة انتزعت من الدولة العثمانية الممالك الأوربية التي
أكثر سكانها من النصارى، وبعد الفراغ من العمل (للأكثريات) المسيحية تصدت
لحقوق الأقليات، فكانت إنكلترة أول من أطمع الشعب الأرمني بتأسيس دولة
مسيحية له في الأناضول بين أنياب الأسد التركي وبراثنه، وقد كان هذا الشعب
أسعد الشعوب العثمانية في دولة آل عثمان، ومحل الثقة لدى سلاطينهم ووزرائهم
وأغنيائهم، كان هو الذي يدير مالية الدولة بوزراء من أفراده، وكان هو الذي
يتولى شؤون الوزارة الخارجية، إذ كان أكثر سفراء الدولة منهم أيضًا، وكان
ساسة أوربة يتعجبون من هذه الثقة ويعدونها من جهل الدولة، صرح بذلك أكبرهم
شأنًا في عصره وهو البرنس بسمارك لأحمد مختار باشا الغازي وقال له: أنا لا
يمكنني أن أعد رجلاً أرمنيًّا ممثلاً عندي لدولة إسلامية يعد سلطانها خليفة نبي
الإسلام! وقد أفسد الإنكليز الأرمن بهذا الإغواء وحرموهم من تلك السعادة
والهناء، حتى جعلوهم من أشقى شعوب الأرض على ذكائهم ونشاطهم واستعدادهم
لكل حياة هنيئة إلا تأسيس ملك من أقلية ضعيفة بين دولتين حربيتين - دولة الترك
ودولة الروس - فقتل الترك مئات الألوف من رجالهم الخونة وغير الخونة ومن
نسائهم وأطفالهم أيضًا؛ لأن الشر إذا وقع لا يقف عند حدود العدل، والانتقام بعد
الإحن والحقد لا يراعى فيه شعور الرحمة، وأجلَوْا الألوف الكثيرة من ديارهم
فمزقوهم كل ممزق، وصاروا آلة الشر والعدوان لغيرهم، كما فعلت السياسة
الفرنسية فيمن آوتهم إلى سورية منهم، فهي تسلحهم وتغريهم بقتال ثوار السوريين
الذين يسكنون بلادهم ويشاركونهم في خيراتها، وليتهم وقفوا عند هذا الحد بل هم
يقتلون النساء والأطفال أيضًا، وينهبون كل البيوت التي يقدرون على نهبها ...
كذلك خلقت إنكلترة في العراق أقلية نصرانية من بقايا الآشوريين، وسلحتهم
وأطمعتهم بتأسيس ملك لهم في العراق؛ لتجعلهم أعداء وخصومًا للمسلمين من
العرب والكرد لا للترك وحدهم، فإذا رسخ فيهم تغرير هذه السياسة الخادعة فربما
تكون عاقبتهم شرًّا من عاقبة الأرمن؛ لأنهم أقل منهم عددًا وبأسًا وذكاءً وعلمًا،
فخير لهم أن يكونوا كقبط مصر مع مسلميها من أن يكونوا كالأرمن مع الترك،
وأنى لهم ذكاء القبط وعلمهم بدسائس أوربة التي تتجر بالمسيحية والمسيحيين.
وأما فرنسة فإن سياستها في كاثوليك سورية معروفة والمعروف لا يعرَّف،
وقد كان أول قائد من قوادها ولَّتْه أمر سورية بعد الحرب - وهو الجنرال غورو -
قد ذكر السوريين في أول صوت رفعه فيهم بأنه من سلالة الصليبيين، وكان أول
عمله تقسيم البلاد إلى ممالك دينية مذهبية، وقد جرى على ذلك وتابعه من جاء بعده:
دولة مسيحية، ودولة إسلامية، ودولة درزية، ودولة عَلَوية، كل ذلك في القسم
الشمالي من سورية التي هي وطن واحد يسكنه شعب متحد اللغة والعادات والمرافق،
لا يمكن أن تستغني فيه دويلة من هذه الدويلات الصغيرة الحقيرة عن الأخرى،
وهم يبذلون كل ما أوتوا من دهاء ومن سلطان لإيقاع الشقاق بين طوائف هذه
الدويلات، فإذا تقرب إليهم فرد أو أفراد من أهلها بكلمة نفاق تؤذن بحب الافتراق
وكراهة الاتحاد، ترتفع بنقلها أصواتهم، وتهتف بها صحفهم وبرقياتهم، حتى تعم
الخافقين، وأما أصوات الأحزاب والجماعات والصحف التي تعبر عن الرأي العام
في طلب الاتحاد الوطني، وكراهة الاقتراق الديني والطائفي والسياسي، فكلما
سمعوا منها صوتًا أسكتوه، وإذا وصل شيء منه إلى أوربة كذبوه.
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
إن أهالي سورية غير مرتاحين ولا راضين بإسكان طُرَدَاء الأرمن في سورية؛
لأنهم يزاحمونهم في رزقها الذي لم يعد يكفيهم ببركة عمران الانتداب، وإن
المسلمين يسيئون الظن في هذا الإسكان وما في معناه بنظر آخر، إذا كان
الفرنسيس لا يبالون بهم فيه لضعفهم، ولا يحسبون حسابًا لعطف أبناء جنسهم
وإخوان دينهم عليهم لجهلهم؛ فلا ينبغي أن يغفلوا عن كونه قد يكون سببًا من
أسباب التهمة التي يشكون منها، ولا يدرون أنهم يشكون مما يفعلون.
فيا ليت شعري كيف يغفل الفرنسيس والإنكليز - الذين يهتدون في سياستهم
واستعمارهم بفلسفة التاريخ وعلوم النفس والاجتماع - عن نتائج أعمالهم في اللَّهج
بالجامعة المسيحية ووجوب حماية المسيحيين وتأسيس الممالك لهم، مع ذم الجامعة
الإسلامية والطعن فيها؟ وكيف يقاومون جامعة الجنسية العربية ويخشون عاقبتها
في سورية ثم يمنعون السوريين من النهوض بالجامعة الوطنية؟ أيحسبون أن
مسلمي سورية وهم الأكثرية العظمى فيها يرضون أن تسلبهم فرنسة كل حق من
حقوق الحياة الاجتماعية والسياسية وطنية كانت أو جنسية أو دينية، وأن يُعدُّوها
مع ذلك مصلحة لشؤونهم فيخضعوا لها طوعًا، ويطرونها مدحًا، ويسبحون بحمدها
بكرة وأصيلاً؟ وأن يرضى أبناء جنسهم وإخوانهم مسلمو أفريقية وآسية منها بذلك،
ويعدون دعوة الجامعة الإسلامية عبثًا لا حاجة إليه؛ لأن جميع الشعوب الإسلامية
في غنى عنها بعدل المسيطرين عليها وإنصافهم، بما ادعته فرنسة من صداقتها
وحبها للمسلمين عند إظهارها الرضا والارتياح لتعيين خليفة تركي تنحصر سلطته
فيما لا يفهمه من أمور الدين؟
إن دهاقين السياسة الاستعمارية هم الذين علموا الشرقيين ما كانوا يجهلون من
واجبات فطرتهم وحقوق أممهم ومللهم وأوطانهم الجامعة، فعلموا بعد جهل إذ كانوا
قد فقدوا العلم، ولكنهم لم يعملوا بعلمهم هذا إذ كانوا قد فقدوا الهمة والعزيمة الرافعة
إلى العمل؛ فهم الآن يسوقونهم إلى العمل سوقًا، بل يدُّعونهم إليه دعًّا، كما فعل
الترك بتعليم العرب العصبية العربية، ثم دفعوهم إلى النهوض بها وهم يشعرون،
فكل ما اتهم به ساسة أوربة أهل الشرق - من جوامع وطنية وقومية ودينية وشرقية
عامة - كان باطلاً فأصبح حقًّا، هم خلقوه خلقًا وهم يربونه جهلاً منهم وحمقًا، فقد
حَبَا حبوًا، ثم مشى مشيًا، وهم يأبون عليه إلا أن يعدو عدوًا، وسيعدو طوعًا أو
كرهًا.
كلما صرخ مكلوم أو صاح مظلوم من جورهم واضطهادهم له في قومه وعقر
داره استعْدَوا عليه أوربة كلها والولايات المتحدة الأميركية أيضًا: يا للغرب مِن
الشرق! إن الحضارة الغربية على خطر، إن نصارى الشرق على خطر، إن
سيادة الجنس الأبيض في الشرق على وشك الزوال، إن السلمين يريدون حكم
القرآن، فالغوث الغوث، هذا آن التناصر والتظاهر، هذا وقت التحالف
والتكانف ... كما قالوا في مسألة الريف المغربي واتهام الأمير محمد عبد الكريم
بإحياء منصب الخلافة، ولم يستحيوا من جعل ثورة سورية إسلامية أيضًا، بل هم
يقولون ذلك ليجعلوها إسلامية، ولو أراد الثوار جعلها جنسية أو إسلامية لوجهوا
دعوتها إلى جميع العرب المجاورين لهم، ولا سيما الوهابية أولي العصبية الدينية
الحقيقية، ولو استنصروهم في الدين بأدلة الدين لنصروهم، ولعجزت السياسة
أن تحول دون نصرهم لهم، ولكانت الطامة الكبرى على المتعصبين على الإسلام
والمسلمين من أهل وطنهم، ولظهر لفرنسة أن هذه السياسة العتيقة لم تعد صالحة لهذا
الزمان، وأن مودة المسلمين الصحيحة خير لها في سورية ولبنان.
***
(٧)
السلطان الديني بين الإسلام والنصرانية
قضى عليَّ الاستطراد أن أكتب هنا كلمة وجيزة في هذه المسألة بعد أن كنت
أنوي ترك الإلمام بها فأقول:
من المعلوم من الدين بالضرورة عندنا أن الإسلام دين سيادة وسلطان وتشريع،
ومن المعلوم عن أوربة وأعوانها في الشرق ذم الجمع بين الدين والحكم،
ووجوب الفصل بين الدين والسياسة، ووجوب نسخ الجامعة الدينية بالجامعة
الوطنية، وقد راجت هذه الدعاية الأوربية في الشرق العربي بأقلام محرري
الجرائد العربية من أبناء وطننا السوريين واللبنانيين المسيحيين، حتى صارت من
المسَّلمات عند الجماهير من المسلمين في سورية ومصر وغيرهما من البلاد العربية،
دع إلقاء بذورها وغرس فسيلها في المدارس العصرية في الشرق كله من مسيحية
ورسمية، حتى في البلاد التركية والإيرانية، وقد بلغ من أخذها بالتسليم في مصر
أن بعض مسلمي الإسكندرية كانوا أنكروا على المنار بعض ما كتبه في شأن الدولة
العثمانية وسلطانها، فرغبوا إلى الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أن يكلمني في
ترك مباحث السياسة في المنار؛ لأنها مجلة دينية، فقال لهم: وإذا قال لي إن
الإسلام دين سياسة فماذا أقول له؟
نعم راجت هذه الدعاية في البلاد الإسلامية ذات الحكومات الإسلامية من
عربية وعجمية فكان الغبن والغرم فيها على المسلمين والغُنم لغيرهم، وقد بلغ من
تأثيرها أن تجرأ رجل من اللادينيين معمم متخرج في الأزهر وقاضٍ في محكمة
شرعية على تأليف كتاب مستقل في الدعوة باسم الإسلام إلى جعل الحكومة فيه
(لا دينية) وإنكار التشريع الديني والإمامة الإسلامية العظمى، والطعن فيها،
وأيدته في ذلك أكثر الجرائد التي تسمى إسلامية كالجرائد الإفرنجية سواء.
بُثت الدعاية إلى الحكومة اللادينية في مصر كما بُثت في الدولة العثمانية،
وصرح بعض الملاحدة عندنا بالدعوة إلى التصريح بذلك في الدستور المصري قبل
أن يفعل الترك ما فعلوه بخلافتهم، ولا فرق بين الفريقين كما قلنا من قبل، إلا أن
اللادينيين من الترك هم قواد الجيش وأصحاب السيوف والمدافع، وأن اللادينيين
من المصريين لا قوة لهم إلا في ألسنتهم وأقلامهم؛ لأن القوة الحربية في مصر في
يد الإنكليز وحدهم، وهم ردء لهؤلاء اللادينيين؛ لأنهم يعملون لهم في ظلمهم،
ولولاهم لقضى عليهم الرأي العام الإسلامي على ضعفه، وهم لا يُشكُّون أن
سيقضون عليه.
وأما تأثيرها العملي في سورية فكان أول مظاهره نجوم الأفكار (اللادينية)
في المؤتمر السوري العام الذي قام بأمر استقلال سورية ووضع القانون الأساسي لها،
ثم في الدولة التركية بإلغاء خلافتها، ثم تشريعها الإسلامي حتى في الأحكام
الشخصية وإبطال محاكمها الشرعية وتعليمها الديني، ثم اضطهاد كل من يدعو إلى
الدين الإسلامي أو يدافع عنه.
هذا، وإننا قد خبرنا بأنفسنا أن سياسة نصارى سورية ولبنان الوطنية قد
تغيرت لنا منذ أوائل العهد بالحرب الكبرى؛ إذ اعتقدوا أن الدولة العثمانية ستخسر
نفسها أو بلادها العربية (على أقل تقدير كما يقال) وقد عقدنا في مصر اجتماعات
كثيرة للبحث في مستقبل البلاد السورية علمنا أنهم يطلبون (أولاً) تأسيس دولة
مسيحية في سورية ولبنان (وثانيا) حماية دولة مسيحية قوية لها ولسائر البلاد
السورية.
ثم جرى العمل على هذا بعد الحرب، فرأينا جميع المساعي دينية يقودها
رجال الدين المسيحي، فكان غبطة بطرك الموارنة هو النائب السياسي عن لبنان
الصغير ثم عن لبنان الكبير، حتى حملوه على السفر إلى فرنسة المرة بعد المرة
على ضعفه وعِتيِّ شيخوخته، ولا يزال كذلك. ورأينا فرنسة قد ضمت إليه من
بلاد سورية ذات الأكثرية الإسلامية جميع سواحلها المجاورة له، وجزءًا عظيمًا من
داخليتها العامرة، وراعت في ذلك أن يكون أكثر مجموع أهله من النصارى
لتكون السلطة في أيديهم، ورأيناهم بعد هذا كله يسيرون في انتخاب المجلس
التمثيلي للبلاد على قاعدة عدد الطوائف الدينية، ويسمونها (الطائفية) .
انقلب الوضع وانعكست القضية، فكلما اشتد استمساك النصارى بالسياسة
الدينية أعرض المسلمون عنها، واستمسكوا بالسياسة اللادينية حتى إن بعض علماء
المسلمين الشرعيين ومنهم مفتي الشام رضوا بأن يكونوا أعضاء لإدارة التعليم
اللاديني، ونرى الجرائد الإسلامية تستنكر كل عمل في الحكومة يُفرَّق فيه بين
أبناء الوطن باختلاف أديانهم ومذاهبهم، فقد نال الأجانب ما سعوا له من حَلِّ رابطة
المسلمين الدينية، وصرفهم عن تشريعهم وسلطانه بإقناعهم أن الجامعة الوطنية خير
لهم من الجامعة الدينية، حتى إذا ما قنعوا قلبوا هم وبعض أعوانهم من نصارى
الوطن لهم ظهر المجن، فالفرنسيس والإنكليز هم الذين يمنعون السوريين بالقهر أن
يكونوا أمة بالوطنية، وأن تكون لهم حكومة وطنية، اللهم إلا حيث تكون الغلبة
وعزة الكثرة للمسلمين وحدهم، فحينئذ يقهرونهم على أن يساووا الأقلية الصغرى،
بل أن يعطوها أكثر مما تستحق أضعافًا.
الفرنسيس أعطوا صنائعهم وربائبهم نصارى جبل لبنان ما هو أكبر وأعظم
من جبلهم من بلاد الأكثرية الإسلامية بالرغم من أنوف أهلها، ولم يرضوا أن
يجعلوا بقية سورية المحمدية دولة واحدة؛ لئلا تكون أكبر من (لبنان الكبير)
فجعلوها دولاً متعددة بحسب المذاهب، حتى حاولوا جعل الدويلة التي خصوها باسم
سورية دولتين دمشقية وحلبية؛ لأن السواد الأعظم من سكانها هم أهل السنة،
وطالما أغروا أهل حلب بطلب الاستقلال، ويزعمون أنهم بذلك يراعون رغبة أهل
البلاد وحريتهم لأن فرنسة أم الحرية وحاميتها، يعني بشرط أن تكون لغير
المسلمين، أو لغير مصلحة المسلمين، ثم تدعي مع هذا أن العداء بين الطوائف
الدينية في سورية هو من مساوئها الراسخة، ولا علاج له إلا خضوع الجميع
لسلطان فرنسة العادل الذي يقيم ميزان القسط بين الجميع، والحق أن فرنسة لو
أرادت أن يتفق السوريون أو لو تركت السوريين وشأنهم لاتفقوا، إلا أن تغري
بينهم دولة أخرى مثلها كإنكلترة، ولا ينجح الإغراء حيث تكون الكثرة الساحقة
للمسلمين كما هو ظاهر في مصر وفلسطين وسورية الداخلية، وقد حققنا هذه
المسألة منذ ٢٩ سنة في مقال طويل في التعصب نشرناه في السنة الأولى من المنار.
أنا لا أريد بكتابة هذا الآن الانتقاد المحض على عمل فرنسة، فإنه لا فائدة
فيه، ولا إعلام مسلمي سورية به، فإنهم يعلمون من تفصيل ما أجملت ما لا أعلم،
واعتقادهم في فرنسة أسوأ، فإنني والحق أقول: قد سمعت من بعض كبراء دمشق
قبل نكبتها أن المسلمين يعتقدون أن فرنسة وإنكلترة متعاونتان على إبادة مسلمي
سورية وفلسطين، وجعلهما للنصارى واليهود، فكيف يكون رأيهم بعد تلك، وما
جرى فيها وبعدها من الأهوال، وتقتيل النساء والأطفال؟ ولا أقصد به إغراءهم
بنبذ سلطانها المسمى بالانتداب، فإنه من تحصيل الحاصل، فهم يصارحونها بذلك،
وليس بعد الثورة الحاضرة - التي جاءت بعد ثورات كانت دونها خفاء - حجة،
وإنما أريد به إقامة الحجة على رجال فرنسة الذين تولوا والمتولين الآن لأمر سورية
بأن المسلمين يعتقدون أن كل خلاف وشقاق في البلاد ففي يد فرنسة إزالته بالحق
والعدل.
سبق أن قلت لموسيو (روبيردوكيه) على عهد الجنرال (غورو) في شهر
مارس سنة ١٩٢٠: اضمن لي النصارى وأنا على ضعفي أضمن لك المسلمين
أو المحمديين كافة ولا أستثني الدروز، وقلت مثل هذا في هذه الأيام [١] لموسيو
(جوفنيل) المفوض السامي الجديد لسورية، وقلت مثله فيما بين ذلك لسعادة سفير
فرنسة المفوض في مصر ليبلغه، وإني أذكِّر به من سمعه مني، وأبلغه
لوزارة الخارجية ووزارة المستعمرات الفرنسيتين، وكل منهما تطّلع على جميع ما يُكتب في المنار عن فرنسة، وتعلمان أن المنار لسان صدق لا لسان دعاية وفتن،
فعسى أن يظهر لأحد من المطّلعين على حجتنا خطأ سياستهم الماضية،
فيبحثوا عن المخرج فيجدوه.
بل شرحت للأول في بيروت وللأخير في مصر الوسيلة الوحيدة التي يمكن
لفرنسة أن تُرضي بها أهل سورية كافة بالحق والعدل والمصلحة المتبادلة، وتربح
بها مودة الأمة العربية والشعوب الإسلامية أيضًا، وقد قال لي موسيو (روبيردوكيه)
على غلوه في الاستعمار ووضعه لأساس التفريق والشقاق في البلاد: إن هذه الخطة
معقولة قابلة للتنفيذ لا خيالية، ولكن تحتاج إلى درس مع العقلاء في صفه تنفيذها،
وأحب أن نعود إلى البحث فيها، أقول: ولكن حال سفري دون ذلك، وسأبينها في
الفصل الأخير من هذا المقال بعد الكلام على سياسة موسيو (دي جوفنيل) .
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))