للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وهب بن منبه وكعب الأحبار

بيَّنا في الجزء الأول ما رأيناه كافيًا في إثبات جرح كعب الأحبار والرد على
المنتقد الذي ذهب إلى أن جرحه يشين السنة المحمدية (برأها الله وأغناها عن كعب
الأحبار وعن وهب بن منبه أيضًا) .
وأما وهب بن منبه فقد كان تابعيًّا عابدًا، ولم يُتَّهم في شيء من دينه إلا
بالقول بالقدر، وذكروا عنه أنه رجع عنه، وقد ضعفه عمر بن الفلاس، واغترًّ
به الجمهور؛ لأن جل روايته للإسرائيليات، ولم يكونوا يدققون النظر في نقدها
تدقيقهم في نقد روايات أصول الدين وفروعه، وقلما كان أحد من رجال الجرح
والتعديل يعرف شيئًا من كتب أهل الكتاب ليصح حكمه على الرواة عنها، على أن
البخاري رحمه الله تعالى لم يَروِ عنه حديثًا في صحيحه مرفوعًا ولا قصة إسرائيلية،
ولا مسألة علمية، وإنما روى عنه أثرًا واحدًا، وهو ما حدَّث به عن أخيه همام
عن أبي هريرة من قوله: ليس أحدٌ أكثر مني حديثًا إلا عبد الله بن عمرو بن
العاص، فإنه كان يكتب ولا أكتب. ولم ينفرد به وهب بل تابعه عليه معمر عن
همام، فلا يصح أن يعد وهب من رواة صحيح البخاري الذين ائتمنهم على سنة
الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا، وإن ما نقلوه عنه من الرجوع عن عقيدة القدر لرمي له بعقيدة الجبر
المحض وهي شر منها، فكانوا بذلك كمن يغسل الدم بالبول، وهو مع ذلك يدل
على كذبه فيما يرويه عن كتب الأنبياء عليهم السلام، فقد ذكروا عنه أنه قال:
كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابًا من كتب الأنبياء في كلها (من
جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر) فتركت قولي. اهـ. من تهذيب
التهذيب ومقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر.
أقول (أولاًً) : إن كتب الأنبياء التي بأيدي أهل الكتاب لا تبلغ هذا العدد.
(ثانيًا) إننا تصفحنا أشهرها فلم نجد هذا القول فيها، ولا رأينا أهل الكتاب
ينقلونه في مجادلاتهم في هذه المسألة.
(ثالثًا) إن هذا القول باطل قطعًا بدليل الآيات الكثيرة في القرآن، المثبتة
لمشيئة الإنسان، كقوله تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:
٢٩) {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} (التكوير: ٢٨) {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت: ٤٠) {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} (النور: ٦٢) {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: ٦٧) وفي معنى الآيات أحاديث كثيرة أيضًا، ولا ينافي
هذه الآيات قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: ٣٠) ،
بل يقررها ويؤكدها إذ هو صريح في أن الله تعالى شاء أن يكون للبشر مشيئة
خلقها لهم فيما خلقه من صفاتهم وغرائزهم وقواهم.
(رابعًا) إن وهبًا قد انتقل من بدعة القدرية إلى بدعة الجبرية التي هي شر
منها وأضر، وأدهى وأمر، فهي التي أماتت قلوب المسلمين وهممهم التي فتحوا
بها البلاد، ودكوا بها الأطواد، وأرضتهم بالذل والهوان، وتعبدتهم للظلمة منهم،
ثم للمستعبدين لهم من غيرهم.
إن المشيئة هي أعظم الصفات التي يتفاضل بها بعض البشر على بعض،
وإن عقائد الإسلام وعباداته كلها مبنية على صحة المشيئة، ومربية لقوة الإرادة
التي أعمل الجبرية فيها معاول التأويل لهدم الإسلام بهدمها، وقد فعلت في إضعاف
المسلمين ما لم يفعله جميع أعدائهم منذ وجدوا إلى هذا اليوم، وإنما راجت دسائسها بما
كانت تنفثه مواعظ العُبَّاد الجاهلين أو الخادعين الدساسين من سمومها القاتلة، أي أن
الإنسان لا مشيئة له ولا إرادة، وإنما هو كالريشة الملقاة تقلبها الرياح باختلاف
مهابها، وأن هذا هو المراد بالقدر الوارد في الكتاب والسنة، وقد بيَّنا بطلان ذلك
مرارًا، وأن التقدير هو النظام والسنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية في الخلق.
هذا وإن عمدتنا في جرح رواية وهب ما جاء به من الإسرائيليات التي نقطع
ببطلانها وهو آفتها كروايات كعب فيها، وقد شوَّها تفسير كتاب الله بما بثَّا فيها من
الخرافات، وبما أدخلا فيها من العقائد الباطلة، ومن تأييد عقائد أهل الكتاب
والشهادة لكتبهم التي بين أيديهم بالصحة.
ونكتفي في هذه وهي شرها بما نقله الحافظ ابن كثير عنه في تفسير قوله
تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ
الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} (آل عمران: ٧٨) قال: قال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل
كما أنزلهما الله تعالى لم يُغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل،
وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ
اللَّهِ} (آل عمران: ٧٨) فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول، رواه ابن أبي
حاتم.
(قال ابن كثير) : فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها
التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ
كبير وزيادات كثيرة، ونقصان ووهم فاحش، وهو من باب تفسير المعرب
المعبَّر [١] وفهْمُ كثير منهم - بل أكثرهم بل جمعيهم - فاسد. وأما إن عنى كتب
الله التي هي كتبه من عنده، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء) اهـ.
أقول: إن ابن كثير قد علم من حال كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلم أئمة
الجرح والتعديل ممن فوقه كأحمد وابن معين والبخاري ومسلم الذين لم يروا هذه
الكتب كما رآها، ولم يطَّلعوا على ما بيّنه المطَّلعون عليها قبله من تحريفها
وأغلاطها ومخالفتها لما نقطع به من أصول الإيمان بالله ورسوله إلخ، كابن حزم
وابن تيمية أستاذه، ولو علم أولئك ما علمه هؤلاء من ذلك لجزموا بأن وهبًا كان
كذابًا غاشًّا للمسلمين بصلاحه، ولم يقبلوا له رواية قط، كما كانوا يجزمون بجرح
من يقول في الدين بدون ما زعمه من كون التوراة والإنجيل اللذين في أيدي أهل
الكتاب كما أنزلهما الله تعالى لم يتغير منهما حرف واحد. وإن تحريفهم لهما إنما
كان في تأويلهما، وفي نسبة بعض المسائل التي ليست فيهما إليهما، أي كما يفعل
المبتدعون في الإسلام والمتعصبون للمذاهب في تأويل القرآن والحديث لإثبات
بدعهم ومذاهبهم، وكما أراد ابن كثير عفا الله عنه أن يلتمس لوهب تأويلات
كتأويلات متعصبي المذاهب لمشايخهم، ولو نقل هذا القول عن جهمي أو معتزلي
أو شيعي لقطع هو وأمثاله بخروجه به من الملة، فهذا التأويل بديهي البطلان؛ لأن
كل أحد يجزم بأن وهبًا يتكلم عن التوراة والإنجيل الموجودين في الأرض لا عن
اللوح المحفوظ، ولا عن علم الله عز وجل، وعن كلامه الذي هو صفة من صفاته.
ولو أردنا أن نجمع من تفسير ابن كثير وحده ما فيه من الإسرائيليات وغيرها عن
وهب نفسه وعن صنوه في روايتها كعب الأحبار، وننتقدها لألَّفنا في ذلك كتابًا
خاصًّا، مع العلم بأن ابن كثير رحمه الله تعالى يحترس مما لم يحترس غيره منها،
وأما إذا رجعنا إلى كتب القصاصين والمفسرين الذين جمعوا كل ما سمعوا فإننا نجد
هنالك العجب العجاب والذي يقال فيه: إنه لا تلبس عليه ثياب، ويا حسرتا على
من يظنون أن سنة النبي المختار، تزول الثقة بها بجرح وهب وكعب الأحبار
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))