للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاستخفاف بآيات الله وما عظم الله أمره
ودعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة

(٣٨ و ٣٩) من صاحب الإمضاء في الجزائر.
ما قولكم في كاتب يكتب في الجرائد تحت عنوان (النفخ في الصور)
والإمضاء (إسرافيل) هل ينطبق عليه ما ذكر الشيخ (القاضي) عياض في كتاب
الشفاء في مفتتح فصل من فصول آخر الكتاب ولفظه:
(وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل
لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه، أو تمثل في بعض الأشياء
ببعض ما عظم الله من ملكوته ... إلى أن قال: وهذا كفر لا مرية فيه) اهـ.
قلت: أليس التمثيل بالنفخ في الصور وإمضاء إسرافيل - عليه السلام -
بعض ما عظم الله من ملكوته؟ أفيدوا الجواب، ولكم الأجر والثواب، من مُنزل
الكتاب، الذي جعله الله حكمًا بين العباد إلى يوم المآب.
ثم نذكر لكم سخافة وحديث خرافة ذكرها الشيخ عليش في فتاويه في باب
الأصول من كتابه ذلك فقال: إن الشعراني نقل عن علي الخوَّاص أن الأئمة
المجتهدين لا يثبتون حكمًا إلا إذا شاوروا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة،
وأنهم معصومون من الخطأ، إلى غير ذلك مما لا يقبله الشرع ولا العقل، وأن
السيوطي ذكر عن نفسه كما في ورقة بخطه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم
خمسًا وسبعين مرة يقظة، حسبما تقفون على ذلك في كتابه المومأ إليه في باب
الأصول.
ثم إنا لما أنكرنا ذلك وكتبنا فيه نقدًا في بعض الجرائد هنا قام بعض من يزعم
أنه على علم ما، فأنكر علينا إنكارنا على من يدعي رؤية النبي صلى الله عليه
وسلم يقظة بعد وفاته بثمانمائة سنة، إلى غير ذلك مما تقفون عليه من المدهشات
بل المخزيات.
والآن نطلب منكم عملاً بالأصول وقواعدها وانتصارًا لطريقتنا الإصلاحية
السلفية أن تشيروا إلى ذلك في عدد من أعداد المنار المقبلة، وذلك يكون خدمة للعلم
والفقه الصحيح إذ لا تتقرر الأحكام الشرعية بما ذكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الزواوي)
(جواب المنار)
إننا لم نطَّلع على شيء مما كتب في بعض جرائد الجزائر بالعنوان والإمضاء
المذكورين، فنعلم هل هو صريح فيما أراده القاضي عياض رحمه الله من
الاستخفاف أو الاستهزاء بالله أو بآياته، أو بما عظم أمره من ملكوته بما يدل على
ذلك دلالة واضحة، وهو قد ناط الحكم بالكفر بقصد الكفر والاستخفاف، أو
بالتكرار الدالِّ على ذلك، فإن نص عبارته فيما جزم بأنه كفر (فإن تكرر هذا منه
وعُرف به دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته
وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه، وكذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف
والنقص لربه) اهـ.
والمدار في الحكم بالكفر في أمثال هذه الأقوال على دلالتها القطعية على
الاستخفاف والاستهزاء الذي لا يصدر من مؤمن عادة أو قصده ذلك، فإذا كان
الناس يفهمون من عبارات ذلك الكاتب الاستهزاء بالقيامة وملك الصور استهزاء من
لا يؤمن بهما فلهم أن لا يعاملوه معاملة المؤمنين، ولكن بعد أن ينصحوا له برفق
بأن يرجع عن ذلك ويتوب إلى الله منه، وأن يقبلوا قوله إذا قال أنه لا يقصد به
ما فهموه من الدلالة على الاستخفاف أو الاستهزاء، ويحتجوا عليه بأن فهمهم ذلك
منه كافٍ في وجوب تركه، وإن كان الناس لا يفهمون هذا مما يكتبه بل يفهمون أنه
يقصد الوعظ، وبأسلوب مؤثر ينبه الأذهان فلا وجه للقول بكفره مطلقًا، وهنالك
صورة ثالثة وهي أن تختلف أفهام الناس فيما ذكر، وحينئذ يتجه أن يكون ما يكتبه
معصية لا كفرًا، والغالب على ظني أنه لا يقصد الكفر، ولا يعتقد أن ما يكتبه
محظور شرعًا، ولكن يجب عليه والحالة هذه أن يراعي ما يفهم الناس من كلامه،
ولا يقف موقف التهمة عند من يستنكر ذلك، وأرجو أن يترك ذلك إذا بلغه هذا
وصح حسن ظني فيه، فهذا ما اتجه عندي في مسألة الاستفتاء.
***
دعوى التلقي عن النبي صلى الله
عليه وسلم بعد وفاته
وأما ما نقله الشيخ عليش عن الشعراني عن علي الخوّاص من استشارة الأئمة
المجتهدين للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة في كل حكم أثبتوه، ومن القول
بعصمتهم، فهُما من الباطل الذي لا يقبله إلا الخرافي الجاهل، فالمسلمون قد
أجمعوا على عدم عصمة العلماء المجتهدين، وصرحوا بجواز الخطأ عليهم، إلا أن
بعض الشيعة قد قالوا بعصمة بعض الذين خلَوْا من أئمة أهل البيت كالأئمة الاثني
عشر عند الإمامية، وقد كان المجتهدون يقولون القول ثم يظهر لهم أنه خطأ
فيرجعون عنه، ولو لم يثبتوا حكمًا إلا بالتلقي الصحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم لما رجع أحد منهم عن قول قاله في إثبات حكم أو نفيه، ولَما أوصى مَنْ
أوصى منهم (كالشافعي) بأن من صح عنده حديث يخالف قوله فليتبع الحديث
ويضرب بقوله عرض الحائط، وكتب الشعراني مشحونة بالخرافات، وقد أطال
القول في هذه المسألة في كتاب (الميزان) وسيأتي ما فيه.
هذا، وإن أولئك المجتهدين لم يدَّعِ أحد منه هذه الدعوى، بل كانوا يستنبطون
الأحكام من أدلتها ويتناظرون فيها، ويرد بعضهم قول بعض بالدليل، ولم يدَّعِ أحد
منهم العصمة ولا ادعاها لهم أصحابهم ومؤيدو مذاهبهم، بل اعترفوا بأنهم يخطئون،
وأن كل أحد يؤخذ من كلامه ويُرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم كما كان
يقول مالك، ولو صحَّت الدعوى لكانت أقوالهم كلها على تعارضها وتناقضها
كنصوص الكتاب والسنة، والواقع أن أكثرها اجتهادًا يحتمل الخطأ والصواب وهذا
معنى وصفهم بالمجتهدين، والصحابة كانوا أعلم بدين الله من أئمة الفقه، ولم يقل
أحد بعصمتهم ولا بأنهم كانوا يرون النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ويستفتونه
فيما أشكل عليهم. والروايات في اختلافهم وتشاورهم فيما اختلفوا فيه في عهد
الراشدين كثيرة، ولو كان كبار الصحابة والتابعين الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة
يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ويتلقَّون عنه الأحكام لعَرِف هذا عنهم
الخوّاص والعوام، ولما وقع المسلمون فيما وقعوا فيه من الاختلاف العلمي والعملي.
ثم إن الذين ادعوا أنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ويسألونه
عن الأحاديث المروية عنه وعن الأحكام والحقائق والحلال والحرام والكفر
والإيمان، ويختلفون في كل ذلك اختلافًا يدور بين النفي والإثبات - فكيف يمكن أن
تصح دعواهم؟ روي عن السيوطي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه ليس
في جامعه الصغير حديث موضوع، أي مكذوب عليه صلى الله عليه وسلم، وروي
عن غيره أنه سأله صلى الله عليه وسلم عن عدة أحاديث من هذا الكتاب فأنكرها،
وصرح بأنه لم يقلها، وهي من غير الأحاديث التي قال رجال الحديث كالمناوي
وغيره بوضعها.
ومن مفاسد هذه الدعوى أنها فتحت للدجالين باب الإفساد في هذا الدين، وبث
العقائد الباطلة المخالفة لنصوص القرآن القطعية الدلالة والمجمع عليها في الملة،
دع مخالفتها للأحاديث الصحيحة عند جميع حفاظ السنة، وتجد الكثير منها في كتب
المتصوفة كالشيخ أحمد التيجاني الذي ضل بطريقته الألوف والملايين من أهل
إفريقية، ولا سيما الجزائر، ولولا أن في كتب بعض المشهورين بالولاية والعلم
كالشعراني إثباتًا لهذه الدعوى بدعوى أخرى هي ما يسمونه بالكشف لكُفِي المسلمون
هذا الشر المستطير.
لقد كان الضرر والفساد لهذه الدعوى كبيرين، ولم نر لها أدنى فائدة توازي
أدنى غائلة منها، وعلماء أصول الدين وعقائده وأحكامه متفقون على أن الكشف
والإلهام ليس من أدلة الشريعة، ولا يثبت به حكم، ولا تقوم به حجة، قال في
جمع الجوامع وشرحه: لعدم ثقة من ليس معصومًا من الأولياء بخواطره، لأنه لا
يأمن دسيسة الشيطان فيها، وأهل السنة لا يقولون بعصمة أحد في إلهامه وغيره إلا
الأنبياء عليهم السلام كما تقدم.
وأما مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أي رؤية روحه
الشريفة القدسية، متشكلة بصورته الكاملة الجسدية - فقد اختلف العلماء فيها، فنفاها
قوم، وأثبتها آخرون ممن يدّعونها أو يُصدقون من ادّعوها من الصوفية، ومن
الثقات من قال بإمكان حصولها في حالٍ بين النوم واليقظة، ونظم بعضهم هذا
الرأي بقوله:
ومن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقًّا فقد فاه مشتطا
ولكن بين النوم واليقظة الذي ... يحاول هذا الأمر مرتبة وسطى
ويجد القارئ هذا البحث في المواهب اللدنية وشرحها، وفي الإبريز، وفي
بحث الكرامات من طبقات الشافعية الكبرى للسبكي وغيرها، وقد كنت قرأت هذا
وغيره وكتبت في المسألة بحثًا طويلاً في كتاب (الحكمة الشرعية في المحاكمة
بين القادرية والرفاعية) الذي ألفته في أثناء طلبي للعلم بطرابلس الشام.
ويعلل النفاة لرؤية اليقظة ما روي عن بعض كبار الصوفية من ادعائها،
ومنهم الأتقياء العدول، والعلماء الفحول، الذين يجلّون عن تهمة الكذب والافتراء؛
يعللون ذلك بأنهم هؤلاء لم يفتروا تلك الدعوى افتراء، وإنما كان ما يرونه نوعًا
من المثال، يتجلى عند استغراق الفكر في الخيال، على حد قول الشاعر:
يمثلك الشوق الشديد لناظري ... فأطرق إجلالاً كأنك حاضر
ولكن كبار الصوفية على إثباتهم للرؤية الخيالية يقولون أن لهم رؤية أخرى
هي جمعية روحية تكون في حال التجرد من الجسم المادي الكثيف، والانسلاخ من
سلطان الحس، فهي مشاهدة الروح للروح في شكل الجسد، ولا تتوقف على فتح
العينين ولا على وجود النور، بل هي تكون مع عدمهما أكثر، ومن الفرق بينهما
وبين الرؤية الخيالية، أن الذي يتمثل في الخيال هو ما نقش في مركز التصور لما
كان شاهده هذا الرائي أو تخيله، فهو يختلف باختلاف الأشخاص كالأحلام،
والرؤية الروحية ليست كذلك، وآية صحتها أنها لا تتضمن أخذ شيء عنه ينافي
القرآن أو غيره من أصول الشريعة أو فروعها القطعية.
وقد ذكر صاحب الإبريز عن شيخه الدباغ من أمثلة الرؤية الخيالية جزارًا في
مدينة فاس مات ولده؛ فوجد عليه وجدًا عظيمًا، فتمثل له وهو يمشي مع الجزارين
في السحر يقصدون المذبح، وصار يتكلم معه، حتى نبهه أحد رفاقه سائلاً إياه عما
سمع منه؟ فأخبره أن ولده كان يمشي بجانبه ويكلمه.
وأعرف امرأة بلهاء في بلدنا كانت دائمًا تخاطب الموتى ممن لهم شأن كبير
عندها كأخ لها مات شابًّا ومن غيرهم، وهذا نوع مما ينقل في هذا العصر عن
الروحيين في بلاد الإفرنج كلها.
وربما أعود إلى التوسع في هذه المسألة وما يتعلق بها مما يسمى اليوم
باستحضار الأرواح.
وجملة القول أن رؤية الأرواح على القول بصحتها إنما تقع في حالة غيبة
عن الحس والإدراك العقلي، ومتى عاد صاحبها إلى الحالة الطبيعية يكون
كالمستيقظ من النوم، فلا يوثق بضبطه لكل ما رآه، وهي لا يثبت بها حكم شرعي،
ويجب القطع ببطلان كل ما ينقل في هذه الحالة عن روح النبي صلى الله عليه
وسلم أو غيره من الأنبياء والمتقين مخالفًا لما ثبت شرعًا أو وجودًا بدليل قطعي والسلام.