للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبده


التربيةالتي يكون بها الإنسان إنسانًا
والجماعة الكبيرة أمة
للأستاذ الإمام

ملخص خطاب ألقاه في احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية
سنة ١٣١٤ هـ
إن الجمعية لم تأخذ على عاتقها أن تساعد كل عائلة فقيرة في الأمة؛ لأن ذلك
فوق استطاعتها، بل وضعت لها قانونًا اتفق عليه جميع أعضائها، وهو قد اشتمل
على شروط معينة يجب أن تراعيها الجمعية عند إعانة من تريد إعانته من الفقراء.
ثم جعلتْ - كما قدمتُ - أهم مقصد لديها إصلاح حال الناشئين من أولئك
الضعفاء المساكين بالتربية والتهذيب، إذ الواجب علينا أن نعتني قبل كل شيء بما
تعتني به الأمم الأخرى الناجحة قبل غيره، وهي لم تعتن بشيء أكثر من التربية
وتحسين أخلاق العامة، وها نحن أولاء نرى فساد الأخلاق عامًّا ومصائبه مشاهَدة
للجميع.
إذا رأينا مجالاً للفخار افتخرنا بآبائنا وأجدادنا الأولين، وإذا حاسبنا أنفسنا
رجعنا بالملامة والذم على آبائنا الأقربين، وفي ذلك الفخار كبير العار، وفي هذا
اللوم عظيم اللوم؛ لأننا نحن قد أهملنا وقصرنا وأضعفنا أهم ركن وهو التربية.
أهملنا فتركنا ذلك الفخار التالد يذهب هباءً منثورًا، فلم نتدارك من آثاره شيئًا،
وزدنا الطينة من إهمال أسلافنا الأقربين بلة بإهمال آخر، فقوضنا ما كان باقيًا من
آثار ذلك الفخار، فكان لنا ذلك العار وهذا الشنار.
إن الإنسان لا يكون إنسانًا حقيقيًّا إلا بالتربية، وليست هي إلا عبارة عن
اتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الأحكام والحِكَم والتعاليم، وهي
عبارة عن السعادة الحقيقية، تعلم الإنسان الصدق والأمانة ومحبة نفسه، فإذا تربى
أحب نفسه لأجل أن يحب غيره وأحب غيره لأجل أن يحب نفسه.
إذ تربى الإنسان أحس في نفسه أنه سعيد بوجود الآخر معه، ولكن نحن في
وسط لا يحس فيه أحدنا إلا بأنه شقي بوجود غيره، وقد ذهبت الثقة بيننا أدراج
الرياح، وخلفتها الشكوك والريب والظنون الأثيمة المولِّدة للوساوس والأوهام، ولا
شقاء للمرء أعظم من وجود ضميره في مثل هذا الشقاء والحسبان.
ولكن لو كنا مُتَربين لانبثَّ فينا إحساس واحد يؤلف بين شعورنا وحاجاتنا،
وحينئذ يحس كل فرد منا بأن عليه وظيفة يؤديها لنفسه ولغيره.
إن بلادنا ليست بلاد الجوع القتَّال، ولا بلاد البرد القارس المميت، ولا بلاد
الشقاء التي لا ينال الإنسان فيها قوت يومه إلا بالعذاب الأليم، بل نحن في بلاد
رزقها الله سعة من العيش، ومنحها خصوبة وغنى يُسهِّلان على كل عائش فيها
قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكنها ويا للأسف مُنِيَتْ مع ذلك بأشد ضروب
الفقر: فقر العقول والتربية.
ليست القوانين التي تفرض العقوبات على الجرائم وتقدِّر المغارم على
المخالفات هي التي تربي الأمم وتصلح من شؤونها، فإن القوانين لم توضع في
جميع العالم إلا للشواذ والهفوات والسقطات، وأما القوانين العامة المصلحة فهي
نواميس التربية الملِّيَّة لكل أمة.
ونحن على نموذج هذه التربية قد جرينا في خطة التعليم بمدارس الجمعية
الخيرية [١] ، ونتمنى أن يصبح هذا النموذج يومًا ما عامًّا بين جميع أفراد الأمة
المصرية، وإذا لم توجد التربية على مثل هذا النمط فلا حياة للأمة ولا سعادة.
إن العلم الحقيقي هو الذي يعلم الإنسان العلاقة الموجودة بينه وبين غيره من
أفراد جامعته، فهو إذًا يُعلم الإنسان من هو ومن معه، فيتكون من ذلك شعور واحد
وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد.
وسنة الله في خلقه أن توجد الروابط في العائلات و (تنتقل) منها إلى
الفروع ومنها إلى الأصول القومية ومنها إلى مجموع الأمة التي هو منها، إذا
فلابد من الوقوف على كُنه هذه الروابط ومعانيها، وإذا تمكن هذا العلم من نفس
الإنسان تعلم كل شيء، وبحث عن طرق النجاح في كل شيء. ولكن كيف يوجد
الاتحاد مع هذا الفساد الذي نشاهده عامًّا في أخلاق الأمة، وقد انعكست آية
الوجدان فإذا الإنسان أجفى ما لديه الأقرب فالقريب فالبعيد فالأبعد؟
ألا إن الاتحاد ثمرة لشجرة ذات فروع وأوراق وجذوع وجذور هي الأخلاق
الفاضلة بمراتبها، فعلى المسلمين إذا أردوا الاتحاد أن يربوا أنفسهم تربية إسلامية
حقيقية ليجنوا تلك الثمرة، وبغير ذلك كل أمل باطل، وكل الأماني أحلام أو أوهام
وكل احتجاج بغير سعي عجز.
الناس في كل الأمم أكفاء في التمثيل ولا نقص في الدنيا إلا من جهة العقول
والأخلاق وهي لا تكمل إلا بالتربية، وما وراء ذلك من العلوم لا يَبُثُّ فينا غير
اللقلقة والهذيان.
وإن الجمعية الخيرية الإسلامية قد شرعت في طريقة ابتدائية للتربية، ولديها
أمل أن تصل إلى الطريقة الانتهائية، طريقة العمل لا طريقة العلم المعيبة التي
نرى مثالها في الذين يأتون إلينا كأساتذة عندما نعلن عن حاجتنا لمعلمين وليس لديهم
ما يؤهلهم للتربية والتهذيب، ولست أقول ذلك قدحًا في طريقة التعليم الجارية بين
ظهرانينا، ولكنني أقول بالإجمال: إنها غير ملائمة لمنهاج جمعيتنا التي تحسب أن
تصلح شؤون الناشئين من الطبقات النازلة.
نحن نتمنى تربية بناتنا، فإن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: ٢٢٨) {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (الأحزاب: ٣٥) الآية، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تُشرك الرجل
والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية، فكان بذلك ترك البنات يفترسهن الجهل،
وتستهويهن الغباوة من الجُرم العظيم.
انظروا إلى المرأة حين تقول لابنها مثلاً إذا أرادت أن تمنحه شيئًا: خذ هذا
وأخفه عن الأعين حتى لا يراك أخوك، فكم من نقيصة علمته بمثل هذا القول؟
علمته ثلاث خصال هن الموبقات المهلكات: الأثرة والدناءة والسرقة، وربما
توصيه بإنكار ما أعطته إذا سأله أخوه، فتعلمه بذلك أقبح خصال السوء والفساد
وهو الكذب، وقد لا يتعلم الطفل عندما يراد تمرينه على النطق والكلام غير ألفاظ
السباب والشتائم القبيحة، فيشب الطفل متعودًا على أن تلفظ شفتاه كل كلام قبيح،
لا يعبأ بماذا ينطق ولا يبالي بما يقول.
وإنني أذكر حديثًا شريفًا أو أثرًا بمعناه هو: (إن الرجل لينطق بالكلمة لا يرى
لها بالاً فيهوي بها في النار أربعين خريفًا) [٢] .
فتأملوا في فظاعة الأخلاق التي يشب عليها أبناء وبنات العامة من الأمة، ولا
خلاص لنا من هذه الورطة الشنيعة إلا بالتربية الكاملة الشاملة للأبناء والبنات، وأن
النساء الجاهلات والرجال الجاهلين لا يمكن أن تتكون من بينهم أمة ولا جمعية
وعلى الخصوص إذا أصبحت العلائق والروابط الطبيعية مُهدَّة بين الناس كما
نشاهده بيننا الآن.
ولقد استنتجت بالاستقراء منذ كنت قاضيًا في إحدى المحاكم الجزئية أن نحو
(٧٥) في المائة من القضايا بين الأقارب بعضهم مع بعض بما لم يَحمِل عليه غير
التباغض وحب الوقيعة والنكاية، فهل من المعقول أن يكون الفساد في العلائق
الطبيعية إلى هذا الحد من التصرم، ونتساءل عن تصرم العلائق الوطنية؟ هل
يمكن بعد أن نفقد الروابط الضرورية بين العائلات أن نبحث عن الروابط للجامعة
الكبرى، أو ليس هذا كمن يطلب الثمر من أغصان الشجر بعد ما جذَّ أصولها
وجذورها، وقطع أوصال عروقها، وغادرها قطع أخشاب يابسة.
اللهم إن كنا نريد الحياة الطيبة والسعادة الدائمة فلنعمل لإصلاح شؤون
الناشئين بالتربية المثقِّفة المهذِّبة، ولنجهد أنفسنا في طريق استكمال الأخلاق
الفاضلة، وكلما زدنا في سبيل ذلك سعيًا توَفَرَ لدينا حب تعضيد هذه الجمعية ونَمَتْ
ثروتها، فأدت وظيفتها للأمة كما ينبغي، ونسأل الله أن يصلح ما بيننا من فساد،
وأن يوفقنا جميعًا إلى ما به نجاحنا وفلاحنا وسعادتنا. اهـ.
(المنار)
في هذا الخطاب حجة على المفسدين المقطِّعين لروابط الأمة بدعوتها إلى ترك
الزي الوطني وتقليد الإفرنج حتى في لبس البرنيطة وحرية الفسق والفجور.