للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد السابع والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي العربي خاتم رسل الله،
وآله وصحبه ومن والاه، ولعنة الله والملائكة والنبيين، وجميع عباد الله الصالحين،
على جميع فرق المبتدعين في هذا الدين، الذين فرقوا كلمة الموحدين، وأضعفوا
جماعة المسلمين، فكانوا شرًّا عليهم من جميع فرق المشركين، ونالوا من الإسلام
ما لم ينل أحد من أعدائه الكافرين.
أما بعد فإن المنار يبتدئ هديه في مجلده السابع والعشرين، وقد تجدد في
العالم الإسلامي أمر عظيم أيّ عظيم، وهو استيلاء الدولة الإسلامية السُّنية السلفية
الوحيدة على الحجاز، وتمكنها من مهد الإسلام، وظهور أمارات أعلام النبوة
المصرحة بأن الإسلام سيأرز بين المسجدين (الحرمين الشريفين) كما تأرز الحية
في جحرها. ويعتصم من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل فقد صار للإصلاح
الإسلامي دولة مسلحة تقاوم البدع التي فتكت بالمسلمين ففرقت كلمتهم، ومزقت
شملهم، وجعلتهم باتباع شياطين الأهواء أعداء بعد أن ألف الله قلوب سلفهم
بالقرآن فأصبحوا بنعمته إخوانًا.
وإننا نعرض على قراء المنار أهم شؤون الإسلام الحديثة في فاتحة هذا المجلد
كعادتنا كما في سوابقه فنقول:
حال الإسلام والمسلمين في هذا العهد:
بالأمس خسر الإسلام دولة كانت منذ الأجيال الوسطى من تاريخه أشد دولة
بأسًا - وهى آل عثمان - وخلفتها دويلة تركية هي أشد دول الأرض عداوة له،
واليوم تجدد له دولة جديدة هي أرجى دولة لتجديد هدايته وإعادة مجده إلى شبيبته،
إذا عرف سائر المسلمين كيف يؤيدونها وينصرونها، ويفيدونها ويفيدون بها،
وهي الدولة العربية السعودية التي قامت في مهد الإسلام، ويرجى أن تكون مظهر
أنباء الرسول عليه الصلاة والسلام.
فأين مسلمو هذا الزمان منها ومن الإسلام؟
إننا نقرأ ما كتب أئمة الدين في خير القرون من إنكار البدع والمحدثات التي
شوهت الإسلام، ثم نجد الشكوى من ذلك قد تضاعفت في القرون الوسطى، ثم
تفاقمت وطغى طوفانها في القرون الأخيرة. حتى صرنا نسمع خطباء المساجد في
هذا العصر -على جهل أكثرهم وابتداعهم- يقولون على منابرهم: لم يبق من
الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وإن المعروف قد صار منكرًا،
والمنكر قد صار معروفًا، ومن المصائب أن هذه الأقوال تصدُق عليهم وعلى
أمثالهم من المتصدرين للتعليم والوعظ والإرشاد، فالذي يحذرك من البدع
والمنكرات هو من أشد أنصارهما.
فرض الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكد أمره، ولعن تاركي
التناهي عن المنكرات التي يفعلها بعضهم في كتبه، وعلى ألسنة رسله، لئلا يترك
المعروف، ويفشو المنكر فيصير كالمعروف، فيختل أمر الفضائل ويفسد نظام
الآداب، بل قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (من رأى منكم منكرًا فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه
أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وإذا كان إنكار المنكر بالقلب وحده - وهو كراهته واستقباحه والنفور منه
ومن أهله - أضعف الإيمان، وكأن أقواه وأكمله لا يكون إلا بإزالته بالفعل، فما
القول إذًا في الذين لا ينكرونه بقلوبهم لألفتهم له وأنسهم به؟ وما القول فيمن هم شر
منهم وهم الذين مرنوا على المنكر واستحلُّوه واستعذبوه حتى استحلُوه، أو
اعتقدوا أنه معروف وليس بمنكر؟
ترك المسلمون تغيير المنكر بالفعل بضعف الخلافة وصيرورتها لقب تشريف،
ثم تركوا إنكاره بالقول لفشوّه في الحكام المستبدين والزعماء الظالمين وضعف
الدين في جماعات المسلمين، إلا قليلاً منهم كانوا يظهرون حينًا ويخفون أحيانًا،
ولا يجدون لهم شوكة ولا سلطانًا، حتى ظهر في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة
وأول ما بعده الإصلاح الوهابي في نجد.
قام عالم نجدي اسمه محمد بن عبد الوهاب يدعو إلى التوحيد الخالص، وهو
عبادة الله تعالى وحده بما شرعه للناس في كتابه وعلى لسان رسوله، ويأمر
بالمعروف من السنن، وينهى عن المنكرات من المعاصي والبدع.
قاومه الناس وآذوه كما آذوا من قبله ومن بعده كل داع إلى الحق والخير،
وسخر الله من الزعماء الأقوياء من آزره حتى تأيد القول بالفعل، وكان أول منكر
من منكرات الشرك أزيل بالفعل قطع شجرة كانت تعبد في تلك البلاد كذات أنواط
في الجاهلية، وشجرة الحنفي وشجرة المنضورة في بلدنا هذا (مصر) فقامت
البلاد وقعدت، وعزم عباد الشجرة على الفتك به، فحماه زعيم هذا البيت السعودي
ومنعه من كل من يريد به سوءًا، وانتشرت دعوته الإصلاحية بقوه سيوف هذا
البيت الكريم في جزيرة العرب حتى استولوا على الحجاز، وكادوا يجددون للإسلام
مجده وحضارته بمثل نهضته الأولى، كما صرح بذلك كل من عرف كنه حالهم من
الشرقيين والغربيين، لولا أن تصدت لهم الدولة العثمانية، فحاربتهم من جهة
العراق والحجاز، ولما عجزت عنهم استعانت عليهم بدولة مصر الفتاة، فحاربهم
محمد علي حتى أخرجهم من الحجاز.
ولم تكتف الدولة التركية وأعوانها حتى من العرب بهذه الحرب، بل أثارت
عليهم حربًا شرًّا منها وأشأم، وهي حرب الدعاية بالطعن في عقائدهم وأعمالهم،
وتسمية سنتهم بدعة، وخيرهم شرًا، عرفهم نكرًا، بل إيمانهم كفرًا - أيضًا،
وكتب المتزلقون في ذلك الكتب والرسائل الكثيرة وأودعوها من فنون الكذب
والبهتان ما لايخطر إلا في بال الشيطان، حتى إن بعض زنادقة العراق،
وملاحدته المجاهرين بالتعطيل والإلحاد، ألف كتابًا في الافتراء عليهم تزلفًا إلى
الوالي التركي والدولة التي كانوا يدهنون لها بوصفها بحامية السنة، وإنما كانت
تريد حماية ملكها وسلطانها وقطع الطريق على الأمة العربية، حتى لا تتجدد لها
دولة قوية، وإلا فإن بلادها كانت مملوءة بالبدع والضلالات وهي لم تُزل منها شيئًا،
وكانت تعترف بإسلام بقايا طوائف الباطنية حتى الإسماعيلية الذين يعبدون آغا
خان المشهور.
وقد ألقى رجال السلطان عبد الحميد الأخير الشقاق والعداوة بين آل سعود وآل
رشيد في نجد، وما زالوا يمدون ابن الرشيد بالسلاح والمال إلى أن تمكن من
إخراج آل سعود من نجد، واستولى على الرياض عاصمة إمارتهم، حتى كان ما
كان من نهضة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل المؤيد بنصر الله وتوفيقه،
واستعادته لنجد، ثم استيلائه على إمارة ابن الرشيد وعلى بلاد الإحساء وكل ما كان
بيد الدولة العثمانية من تلك البلاد، ثم على بلاد عسير، ثم على المملكة الحجازية
برمتها.
هذا هو الطور الجديد المرجو للإسلام، وهذه هي الفرصة السانحة لتجديد
هدية وإعادة مجده، فهل يضيعها المسلمون كما أضاعوها أول مرة؟ وما موقف
حزب الإصلاح الإسلامي المنتشر في جميع الأقطار مع هذا الزعيم الشاكي السلاح،
وقد فشل أئمة الإصلاح الذين أجرَّتهم الرماح؟ ثم ما موقف الأمة العربية معه
وهي قد عرفت نفسها، وطفقت تنشد زعيمًا تجدد تحت لوائه حضارتها ومجدها؟ .
ثم ماذا يكون عمل المبتدعة، وسدنة القبور المعبودة، والخرافات المستغَلَّة -
وعمل المتفرنجيين واللادينيين من ناحية أخرى - في مقاومة الدولة الجديدة،
والنهضة العتيدة؟
إن بين مسلمي هذه الأيام ومسلمي أول القرن الثالث عشر (الذي طفت فيه
الدولة الوهابية الأولى ورسبت) وبين عرب القرنين أيضًا وبين الأحوال العامة
فيهما فروقًا كثيرة نعد منها أهم ما يتعلق به الرجاء من إيجابية وسلبية ونقفي عليه
بما يعارض هذا الرجاء من الخوف - فنقول:
آيات الرجاء في الدولة الجديدة:
(١) إن الدولة العثمانية التي كانت بالمرصاد للأمة العربية تمنعها من كل
نهوض قد زالت من الوجود، والدولة التركية المحضة التي خلقتها لا شأن للإسلام
ولا للعرب عندها، وليس لها أدنى مصلحة أو فائدة من عداوة الدولة السعودية، بل
موادتها خير لها من محادّتها.
(٢) إن الدولة المصرية لا تزال تجاهد في سبيل استقلالها، فلا هي
دولة عسكرية مستقلة يغريها حب التوسع في السلطان بفتح الحجاز ونجد، ولا
هي حكومة شخصية استبدادية يتصرف فيها حاكم مطلق بهواه كما كانت في عهد
محمد علي، فيخشى أن يدُعَّها إلى فتح الحجاز وغيره تلذذًا به، أو اقتفاء لأثر جده،
ولم تبق آلة جامدة صامتة في أيدي الأجانب يدفعونها إلى ما شاءوا بغير معارض،
بل هي دولة أمة عربية مسلمة من مصلحتها التواد مع الدولة الجديدة والاكتفاء
منها بتأمين الحرمين الشريفين ليؤدي شعبها مناسكه وزيارته براحة واطمئنان،
بل مصلحتها في التواد والتعاون مع الحجاز ونجد فوق ذلك وليس من غرضنا بيانه
هنا.
(٣) إن مسلمي هذا العصر أوسع علمًا بالإسلام ومصلحة المسلمين من أهل
ذلك العصر، فلا تروج فيهم الدعاية الظاهرة البطلان، التي راجت منذ قرن
ونصف بأكاذيب أحمد زيني دحلان وأمثاله ومقلديه العميان، أو الطامعين بنوال
السلطان، وقد كانت الدعاية التي أذاعها الشريف حسين وأولاده في الطعن في
الوهابية وسلطانهم أوسع من كل ما سبقها نشرًا، ولكن كان جل تأثيرها الخيبة
وخسران ألوف الدنانير أنفقت عبثًا، وقد كتبنا في إبطالها بضع مقالات نشرناها في
جريدة الأهرام ثم في المنار، كان لها من حسن التأثير وقوة البرهان، ما يصح أن
يسمى هدمًا لما كان بني في قرن ونصف قرن من الإفك والبهتان، لا لما بناه دعاة
هذا الزمن وحده.
(٤) تغير ما يسمى (الرأي الإسلامي العام) في الحكم على الوهابية
وسلطانهم حتى إن استيلاءهم على الحرمين الشريفين تُلُقي بالقبول والارتياح في
جميع البلاد الإسلامية، ولم يظهر صوت عال في استنكاره وعده مصابًا على
الإسلام في قطر من الأقطار كما كان يرجو الشريف حسين وأولاده وأعوانهم،
وإنما سمع نئيم خافت وأنين ضعيف من بعض الروافض وعباد القبور وأنصار
الخرافات.
ومن الآيات على ذلك إقبال الألوف الكثيرة من المسلمين على طلب الرخصة
بالسفر إلى الحجاز إلا دولة العجم الشيعية، فقد منعت الحج لسبب خرافي سنعود
إلى الكلام عليه.
ومن الآيات الخاصة ببعض الأقطار الإسلامية بل بأهمها وأعظمها شأنًا
وقدرًا أن صاحب السيادة والمقام الجليل الإمام يحيى حميد الدين صاحب اليمن قد
هنأ الملك عبد العزيز بن السعود على انتصاره، ووثق روابط المودة والولاء معه،
وسيكون له مندوب يمثله في المؤتمر الحجازي القريب.
ومن هذه الآيات أيضًا ما كان من روابط المودة بين ملك مصر وملك
الحجاز، وقد بدأ الأول بإرسال مندوب من قِبله في أثناء زمن الحرب، ثم تلاه
الآخر بإرسال مندوب يحمل هدايا المودة وعاد إلى مكة يحمل جزاءها. والذي يرجوه
جميع المسلمين - وإن كرهته جماعة الملاحدة واللادينيين - أن يكون التوادّ والولاء
بين مصر والحجاز مبنيًا على أقوى قواعد الصدق والإخلاص، وأن يكون التعاون
المادي والمعنوي بينهما بالكمال.
ومن هذه الآيات الخاصة بأرقى الطبقات الدينية في مصر، ذلك الاحتفال
الفخم الجميل الذي كرم به أساتذة مدرسة القضاء الشرعي الحاضرون والسابقون
وتلاميذها مندوب الملك عبد العزيز آل سعود في مصر، وهو الشيخ حافظ وهبة
المصري الذي كان من تلاميذ هذه المدرسة. فقد اشترك فيه وحضره أرقى شيوخ
التعليم وكهوله وشبابه في المدارس العليا وما دونها، وتبارى فيه مصاقع خطبائهم،
وفحول شعرائهم في مدح الملك عبد العزيز آل سعود بالدين والإصلاح ونوط رجاء
المسلمين به. وهذا محل دلالة الآية على أن أرقى رجال التعليم الديني وأساتذة
العربية من أهل السنة بمصر يعتقدون أن هذا الرجل مام مصلح في الإسلام ومجدد
لهداية الدين ومجده، لا أنه مسلم سني فحسب، بهذا كانوا يرفعون أصواتهم في
ذلك الاحتفال البهيج المهيب، وكان جمهور السامعين الكبير يصفق لهم تصفيق
الإعجاب والممالأة، وسنذكر لهم نموذجًا من ذلك في هذا الجزء.
(٥) إجابة زعماء المسلمين من أقطار الشرق والغرب لدعوة ملك الحجاز
وسلطان نجد إلى عقد مؤتمر في مكة، حتى إن بعض الوفود التي كانت انتخبت
لحضور مؤتمر الخلافة بمصر تحولت إلى مؤتمر مكة حتى من كان يمكنهم الجمع
بين المؤتمرين.
(٦) إن قبائل العرب في سورية وفلسطين والعراق صارت تستجيب
لدعوة التدين التي يقوم بها الوهابيون بالاختيار، وأما قبائل الحجاز فقد بايعت الملك
السلطان عبد العزيز آل سعود على السمع والطاعة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
والجهاد في سبيل الله، وقد انبث فيها المعلمون المرشدون كما انبثوا من قبل في
عشائر عسير وتهامة، وسيكون هؤلاء كلهم إخوانًا في الدين صادقين، ومظهرًا
لقوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: ٩٢) .
(٧) إن أُولى الدعاية الجنسية العربية في سورية وفلسطين كانوا مختلفين
في الرأي والميل في مناط الزعامة والقيادة لهذه الأمة حتى بعد ظهور الفارس
المغوار عبد العزيز آل سعود في الميدان، فقد كان بعضهم يفضل زعامة شرفاء
مكة على ما كان يظهر على التوالي من ضعفهم وعجزهم وخذلانهم للوطنيين
وتفانيهم في الإخلاص للأجانب لأنه - كما كانوا يقولون - أولاً: ليس في الميدان
غيرهم، ولإحاطتهم بالبلاد السورية في الحجاز وشرق الأردن والعراق، لأن ابن
سعود بعيد عن البلاد، ولأن خطته دينية لا مدنية- ومن هؤلاء كثير من اللادينيين
والمفتونين بالتفرنج، والشرفاء كانوا يرضون كلاًّ منهم بما يهواه ولا سيما فيصل،
فهو لا ديني مع اللادينيين واليهود والإفرنج، سني مع السنيين، شيعي مع الشيعيين.
أما وقد استولى ابن سعود على الحجاز واعترفت له الدول العظمى
بالاستقلال المطلق، وظهر خذلان الشرفاء في كل شيء، وعلم أنه لا دين يهمهم
أمره ولا وطن فلم يبق لطلاب إحياء مدنية العرب زعيم يتوجهون إليه غير ابن
السعود، ولا يضر غير المتدين وغير المسلم منهم تدينه؛ لأنهم ليسوا في كره
الإسلام كأساتذتهم من ملاحدة الترك، فأولئك يمقتون الإسلام لأنه عربي، ولو كان
لسلفهم دين علم وحكمة وآداب وتشريع يداني الإسلام في فضائله ومزاياه لفخروا فيه
على جميع الأمم، وباعوا به جميع الملل، وكيف وقد ارتأى بعضهم أن تكون
صورة الذئب الأغبر شعارًا لهم لأن أجدادهم عبدوه وقدسوه في جاهليتهم الأولى،
ورأينا منهم من يفتخر بجنكيز خان وهلاكو خان، أعداء البشر ومخربي العمران؟
فلو اقتدى متفرنجة العرب في مصر وسورية والعراق بهم حق الاقتداء في العصبية
القومية لكانوا أجدر بالافتخار بالإسلام ورجاله: محمد خاتم النبيين، وخلفائه
الراشدين، وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، وأئمة العلوم
الشرعية، لدينه الحق وملته الحنيفية، بأشد من افتخارهم بغيرهم من رجال العرب
العظماء كالملوك والأمراء والقواد والحكماء والأدباء، ففضائل العرب وحضارتهم
العليا إسلامية.
وقد قال أحد أدباء السوريين الأحرار من المسيحيين لبعض أصحابه:
إني أعجب لكم كيف تفتخرون بالانتماء إلى أحد أنبياء اليهود [١] وأنتم لا تؤمنون به،
وتتركون في الانتماء إلى نبيكم العربي والفخر به، ولماذا تعظمون مثل المعري
والمتنبي من شعراء قومكم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم منهم فضلاً
على لغتكم وأمتكم؟
(٨) إن زعماء المسلمين وعقلاءهم من العرب والعجم الراسخين في الدين
الإسلامي المبين، والواقفين على شؤون هذا العصر - ولا سيما الهنود منهم - هم
شديدو الغيرة على مهد الإسلام: الحجاز وسياجه من البلاد العربية، وضمان
استقلاله للمسلمين، وحفظه من عدوان الاستعمار الغربي عليه، ويعلمون أن هذا لا
يتم ويدوم إلا بوجود دولة إسلامية حربية عزيزة الجانب فيه، ولم تتحقق هذه
الأمنية إلا بعقل ابن السعود وسيفه، فهم بما يجب عليهم من صيانة دينهم مدفوعون
إلى مساعدة هذه الدولة الجديدة على تنظيم قوتها، وتفجير ينابيع الثروة لها،
ومساعدتها على نشر العلم وإقامة دعائم العمران في الحجاز وسائر جزيرة العرب،
وهؤلاء هم عمدة حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل الذي وضع أساسه السيد جمال
الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري.
فهذه الفروق بين العشر الخامس من القرن الرابع عشر للهجرة النبوية التي
قامت فيه الدولة السعودية الجديدة، وبين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن
الثالث عشر التي تأسست فيها الدولة السعودية القديمة - هي مناط الرجاء في نجاح
الدولة الجديدة وفوزها.
***
الغوائل المهددة للتجديد الإسلامي
ولكن تجاه هذه المبشرات الست ثلاث غوائل أو مفاسد مما يفتك بوحدة
الإسلام في داخلها، قد تؤيدها الدسائس الأجنبية التي تهاجمها مما يحيط بها:
الأولى: عصبية غلاة الشيعة.
الثانية: جهالة مبتدعة القبوريين وأمثالهم من أهل الدجل والخرافات والبدع.
الثالثة: دعاية اللادينية ومفاسد ملاحدة المتفرنجة.
الشيعة وأهل السنة:
فأما غلاة الشيعة فقد كانوا أشد النقم والدواهي التي أصيب بها الإسلام:
هم مبتدعو أكثر البدع المفسدة لتعاليمه ولأهله، هم الذين صدّعوا وحدته،
وأضعفوا شوكته، وشوهوا جماله، وانتقصوا كماله، وجعلوا توحيده وثنية،
وأُخوته عداوة وبغضاء، وبثوا فيه فتنة عبادة أناس لأجل أنسابهم، وتقديس أناس
بأحسابهم، وجعل سعادة الدنيا والآخرة بوساطتهم عند الله وتأثيرهم في علمه
وإرادته، على ضد عقيدة القرآن من كون الخالق تعالى لا يطرأ على صفاته تأثير
من المخلوق، وكون مناط سعادة البشر هو الإيمان الصحيح السالم من خرافات
الوثنية المفسدة للعقول، وتزكية النفس بالعلم وعبادة الله تعالى وحده بما شرعه،
وأنه ليس لمخلوق أن يشرع لمثله عبادة بدون وحيه تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا
لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: ٢١) .
وجميع الفرق التي ارتدت عن الإسلام في القرون السابقة كانت من غلاة
الشيعة فمنهم جميع (فرق الباطنية) الذين كانوا يلبسون لباس المسلمين ويظهرون
التلبس به لتقبل دعايتهم لهدمه بالتأويل، وكانت طائفة البكداشية المنتشرة في بلاد
الترك والارنؤط منهم، ولما دعا ملاحدة الكماليين إلى اللادينية ولبس البرنيطة
وإبطال جميع النظم الإسلامية وتفريق جماعاتها كانوا هم أول من أجاب الدعوة
بسرور وارتياح، وصرح بعض رؤسائهم بأنهم قد وصلوا إلى غايتهم من طريقتهم
وهي هدم تعاليم الإسلام والتفصي من أحكامه وسلطانه.
كذلك كان غلاة الشيعة مثارًا لأفظع الكوارث التي هدت قوى الإسلام،
وضعضعت الخلافة العباسية، ودمرت الحضارة العربية، التي كانت زينة الأرض
وفخار أهلها - وهي كارثة التتار - كما كانوا أولياء وأنصارًا لأعداء المسلمين أيهم
أشد عداوة لهم وفتكًا بهم لإسلامهم حتى الصليبيين.
زالت الأسباب التي دعت زنادقة الفرس إلى ما ذُكر، وغلب الإسلام على
بلادهم بالفعل فقل من عاد يعاديه لذاته، بل وجهت العداوة الشيعية إلى أهل السنة
خاصة، وزال ملك العرب من بلادهم وصار السلطان فيه للترك فانتقل ما كان من
عدواتهم للعرب إلى الترك على اختلاف طوائفهم، وكان قد انتشر مذهب السنة في
البلاد الإيرانية كلها وضعف التشيع فيها ثم زاد وقوي بتعصب الترك
العثمانيين، فهم الذين كانوا سبب تأسيس دولة شيعية تقاتلهم لحماية التشيع وتضطهد
السنة، حتى صارت السنة في بلاد إيران أضعف من المجوسية، ولم تبق لها دعوة
مطلقًا، بل بث شيعة إيران مذهبهم في عرب العراق حتى كاد يكون أكثر البدو منهم
يقيمون مآتم الإمام الحسين عليه السلام، ويلعنون أبا بكر وعمر عليهما من الله
أفضل الرضوان، ولم يجدوا في بث دعايتهم هذه مقاومة من الدولة العثمانية
الجاهلة الغبية، ولا معارضة لها بمثلها من علماء أهل السنة إلى أن ظهرت
جماعة الوهابية.
الحق أن أهل السنة قد أهملوا في القرون الأخيرة دعوة غير المسلمين إلى
الإسلام، ودعوة المبتدعين في الإسلام إلى السنة، إلى أن حرك دعاة النصرانية
بعض مسلمي الهند إلى ذلك فحملتهم الغيرة والمباراة على تجديد الدعوة إلى الإسلام،
وقلما يغارون من الشيعة فيدعونهم إلى السنة كما يدعون هم أهل السنة إلى التشيع،
فالشيعة كلهم دعاة إلى مذهبهم حتى النساء، ولكن أهل السنة في الهند يعادون
الشيعة بما لا يفيد السنة، بل بما ينافي الوحدة الإسلامية العامة، وهذا ما ننكره
على الفريقين ونسعى لتلافي شره، وأعني بقولي (نسعى) حزب الإصلاح ذي
الأنصار في جميع البلاد الإسلامية.
وأما الوهابية فقد شرعوا في إحياء دعوة الإسلام على مذهب أهل السنة
والجماعة الذي كان عليه السلف الصالح وأئمة الحديث في القرون الثلاثة التي شهد
لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية، وإنكار البدع واجتناب التأويلات
المحدثة حتى ما فشا منها في أهل السنة، فعادتهم الشيعة وعادوها في بدء ظهورهم
أو في نهضتهم الأولى كما عاداهم جهلة المدعين للسنة تأييدًا لسياسة الدولة.
وأما معيد هذه النهضة ومجدد دولتها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن
الفيصل آل سعود فهو على شدة تمسكه بالسنة ونصرها واسع الصدر، عارف
بحاجة الأمة العربية والشعوب الإسلامية إلى التعاون والتكافل في هذا العصر، وقد
استولى على بلاد الإحساء التي كانت تحت تصرف الدولة العثمانية وفيها كثير من
الشيعة، ولم نسمع أن أحدًا منهم شكًّا منه أو من عماله اضطهادًا أو ظلمًا أو محاباة
لأهل السنة دونهم، وقد عنى أشد العناية بالتواد والموالاة بينه وبين الإمام يحيى
حميد الدين إمام الزيدية من الشيعة، فارتاح إلى ذلك عقلاء المسلمين وأهل الرأي
فيهم من أهل مصر والهند وسورية وسائر الأقطار.
وقد سعينا لعقد روابط المودة والاتفاق بينه وبين حكومة إيران وشاهها الجديد
الهمام، كما سعينا مثل هذا السعي من القبل بينه وبين الإمام يحيى، فصادف السعي
الثاني ما صادف الأول عنده من الارتياح؛ لأنه صادف رأيًا في العقل، وهوى في
الفؤاد، على كونه وقع بعد أن جمع فيصل ملك العراق مؤتمرًا من مجتهدي الشيعة
في النجف كفّروا فيه النجديين، ونبزوهم بلقب أعداء المسلمين (يعنون أنفسهم)
وعلى أثر قيام الشيعة في الهند وفي إيران بالتهييج العام عليه وعلى قومه وزعمهم
أنه هدم قبة الحجرة النبوية، وغير ذلك من الاختلاق الذي عرفوا من بعد أنه من
بهتان دعاية الشريف عليّ؛ إذ أرسلت حكومة طهران وزيرها المفوض
بمصر وقنصلها في سوريا إلى الحجاز ليكشفا لها كنه الحال في مكة المكرمة وفي
المدينة المنورة قبل خضوع الشريف علي واستسلام حاميتي المدينة وجدة - فقابلهما
ابن السعود بمكة بالود والاحترام، وأعطى الوزير المفوض نسخة من منشور الدعوة
إلى مؤتمر الحجاز لأجل تبليغها لحكومته ونسخة أخرى لإيصالها إلى
أمير أفغانستان، بل منحه من الثقة ما هو فوق ذلك، ولم تكن دولة آل عثمان
على إغماضها في أمر السنة ترى أن تعطي لدولة الشيعة من حق الاشتراك في أمر
الحرمين الشريفين شيئًا، وكنا نظن أن الدولة الإيرانية الجديدة تقدر هذه العواطف
قدرها، وتعلم أنها أحوج إلى مقابلتها بمثلها، فبلغنا مع الأسف أن استباب الأمر
لسلطان نجد في الحجاز ومبايعة أهله له بالملك عليهم قد وقع على دولة الشيعة
وزعمائها وقوع الصاعقة، وأنها منعت رعاياها من أداء فريضة الحج إعلانًا
لكراهة ملكها الجديد واحتجاجًا عليه بإقامته للسنة في منع عبادة القبور وهدم المعبود
منها، على حين قد صنع بعض شيعة إيران تمثالاً لعلي - كرم الله وجهه -
وهو منكس التماثيل وطامسها، وهادم الوثنية ومدمرها.
ندع عصبية غلاة الشيعة تغلي مراجلها في إيران والعراق والهند، فهي
عاجزة أن تنال من الدولة السنية الحية منالاً، ولن تغني عنهم جريدة المقطم
الممقوتة عند المسلمين شيئًا، وامتناعهم من أداء فريضة حجة عليهم، نرجو أن
تكون سببًا لرجحان رأي المعتدلين بعد سكون العاصفة، فنعود إلى السعي لجمع
الكلمة.
مقاومة الخرافيين لدولة السنة:
وأما جهالة دجاجلة الخرافات والقبوريين من أهل الطرق وأعوانهم من العوام
فهي بمعنى عصبية غلاة الشيعة، ولكنها أضعف منها كيدًا، وإن كانوا أهلها
أكثر عددًا، وذلك أن أكثر شيوخها جاهلون لا يستطيعون دفع حجة ولا تأييد
شبهة، وليس للعوام أدنى فائدة منهم، وهم ينتمون إلى مذاهب السنة التي تحتجّ
بكتب الحديث المشهورة من الصحيحين والسنن والمسانيد المشهورة، وكلها تؤيد
الإصلاح الذي يدعو إليه الوهابية، وكذلك أقوال الأئمة المجتهدين الذين لا خلاف
في جلالتهم عند أهل الطريق.
فإذا روى الوهابي لأي مسلم سني حديث أبي الهياج الأسدي عن علي - كرم
الله وجهه - في الأمر بهدم القبور وتسويتها بالتراب وعزاه إلى سنن الإمام الشافعي
وصحيح مسلم لا يسعه إلا قبوله، ولا سيما إذ قال له: إن الشافعي ذكر في كتابة الأم
أن الأئمة بمكة كانوا يهدمون ما يُبنى من القبور فيها عملاً بهذا الحديث. وأما
الشيعة فلا يقبلونه بشبهة أنه من رواية أئمة السنة، وهل للسنة رواة إلا
من أهلها؟ ولسنا نعد من وصفوا بالتشيع من أصحاب الحديث من غلاة الشيعة الذين
كلامنا فيهم، بل معنى تشيعهم زيادة حب علي وذريته والعناية بمناقبهم، وهذا من
روح السنة، ولكن لا يوجد حافظ من حفاظ السنة يطعن في أبي بكر وعمر
وجمهور الصحابة - رضي الله عنهم - أو يبغضهم، وما أبغضهم الروافض لا
لأنهم أزالوا دولة الفرس وملة المجوس من إيران.
دعاية اللادينيين والدولة الجديدة:
بقي من غوائل الإصلاح والعقبات الثلاث في سبيل الدولة الإسلامية الجديدة
دعاية اللادينيين وملاحدة المتفرنجين، وهؤلاء ضد علي جميع المتدينين من أهل
السنة حقيقة أو ادعاءً ومن الشيعة وغيرهم، وهم يحاربون الدين بالشبهات الفلسفية،
والآراء العلمية والنظريات القانونية والاجتماعية وبما يزعمون من معارضته
للإصلاحات العصرية، وبما يعزون إليه من الأمور الخرافية، ومنهم كثير من كبار
رجال الحكومة في مصر وإيران، وقد تعدت فتنتهم إلى أفغانستان، وهم يرجون
أن يعملوا في هذه الممالك ما عمل الترك، فهم الخطر الأكبر على الدين وأهله،
ولكنهم قليلون في الحجاز، ولا وجود لأحد منهم في نجد، فخطرهم على الدولة
الجديدة جله في خارجها، وأما خطرهم على مصر وإيران ففي صميمهما وأحشائها،
وليست أفغانستان بمأمن من شرهم.
كنا معشر طلاب الإصلاح وتجديد ما أخلق ورثَّ من أمر الإسلام، نعالج
جمود المتفقهة، ونكافح بدع أدعياء المتصوفة، ونناضل شبهات الملاحدة، على
ما لا بد لنا منه من مجاهدة دعاة النصرانية، وكانت الحكومات الإسلامية المتفرنجة
مذبذبة تداري الجامدين، وترضي المبتدعين، وتقرب الملحدين، وتعرض عن
المصلحين، على أنها كانت أحوج إلى هؤلاء لجمع الكلمة وتحقيق وحدة الأمة.
ولكن لم يكن أحد من كبار رجال حكومة الآستانة ولا مصر ولا طهران يعقل
ذلك، وهي الحكومات الكبرى التي ابتليت بالتفرنج، فلم تهتد السبيل إلى اتقاء فتنه،
ولا إلى الانتفاع بما تحتاج إليه من فنونه ونظمه.
وقد كانت سائر الشعوب الإسلامية وحكوماتها شرًّا من هذه الحكومات
وشعوبها في الجهل والخرافات والبدع، والحرمان من هداية الدين؛ فقضى عليها
الجهل كلها إلا ثلاثًا: ثنتان عربيتان وهما حكومتا اليمن ونجد، وواحدة عجمية
وهي حكومة الأفغان، كانت هذه الثلاث -وما زالت- أقرب إلى هداية الدين،
وأبعد عن فتن التفرنج وضلالات الملحدين، ولن يظللن على ما كنّ عليه كالسفن
الشراعية الرواكد على ظهر اليم عند سكون الريح، فرياح الحوادث في
محيط الكون الأعظم لن تدع في هذا العصر بحرًا ولا خليجًا ساكنًا، فيجب على
حزب الإصلاح المعتدل أن يؤيد هذه الدولة الجديدة ويشد أزرها ويساعدها بعلمه
ورأيه وسعيه على الجمع بين هداية الدين على طريقة السلف في الصدر الأول،
وعزة الملك وسؤدده بالعدل والعمران على أحدث الفنون والتجارب والصناعات
والنظم الحربية والاقتصادية، أن يقف موقفه في الوسط بين أنصار الدين وطلاب
السيادة والاستقلال والحضارة بفنونها ونظمها المجربة، فبهذا يجذب إليه الخيار من
جميع الطبقات في الأقطار الإسلامية فيقضي بهم على من لا خير فيهم من
المارقين والخرافيين باتباع خطة حزب الإصلاح الجمالي - فهي الخطة التي تجذب
كثيرًا منهم على حظيرة الإصلاح. وسنفصل القول في ذلك تفصيلاً، بما هو أشد
عليهم وطأ وأقوم قيلاً، وأقرب إلى الاتفاق والتعاون سبيلاً {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ
فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزمل: ١٩) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا