للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي


رأي في الجديد ومدعي التجديد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
(كما نشر في عكاظ بتصرف قليل)

لسنا نتحرج أن ننبّه هنا إلى أصل هذا الجديد الذي يزعمونه ويتشدقون به.
فكل فاسق وكل ملحد وكل مقلد أحد هذين وكل متهوس بإحدى هذه العلل الثلاث، هو
مجدد إذا جرى في انتحال الأدب العربي وتعاطيه مجرى التكذيب والرد والنقيصة
والزراية عليه وعلى أهله والخبط ما بين أصوله وفروعه على أن لا يستخرج من
بحثه إلا ما يخالف إجماعًا، أو يعيب فضيلة، أو يغض من دين، أو ينقض أصلاً
عربيًّا جزلاً بسخافة إفرنجية ركيكة، أو يحقر معنى من هذه المعاني التي ينظمها
الجامدون أنصار القديم من القرآن فنازلاً. وبالجملة فالتجديد أن تكون لصًّا من
لصوص الكتب الأوروبية ثم لا تكون ذا دين أو لا يكون فيك من الدين إلا اسمك
الذي ضرب عليك فلا حيلة لك فيه، ولا تستطيع أن تستدرك منه إلا في أولادك
المساكين، ثم لا حاجة للجديد بإلحادك أو زيغك إلا إذا طبعت بأحدهما أو كليهما
مسائل التاريخ الإسلامي والأدب العربي، وأفسدت الخالص بالممزوج، وحقرت
الناس والمعاني وكنت حرًّا طليقًا من قيود السماء والأرض إذا صدرت أو وردت
فتقول على قدر عقلك، ثم تفعل على قدر زيغك، ثم تزيغ على قدر ما أنت قادر.
أما إن بحثت وقايست وتعقلت وكنت أذكى الناس وأبلغ الناس ثم كنت لا
تستخرج من التاريخ والأدب إلا ما يزينهما ويكشف عن أسرارهما وحقائقهما
الصحيحة ولم تكن لص كتب أوربية ومذاهب أوربية، فالويل لك. فما أنت إلا
قديم وما أنت إلا نفس حجرية ولو قدسك المسلمون تقديس الكعبة وحجرها، وإن
العصر لفي غنى عنك وعن كتبك وآرائك؛ لأن خمسة أو ستة أو خمسين أو ستين هم
العصر وهم الأمة وهم من التاريخ المترامي إلى المستقبل كالقطار فيه ما فيه من
عربات تحمل من العروض على أجناسها وأنواعها، ومن الناس على درجاتهم
وطبقاتهم، ولكن الخمسة أو الستة وحدهم عربة الآلات والبخار وفحم نيوكاستل.
بلى أيها المجددون، غير أنه ليس على الأرض معصوم من الخطأ وغير أننا
نعرف أن غلطة العالم تدل على علمه كما يدل صوابه، وإن شبهة الجاهل تدل على
جهله كما يدل خطأه إذ كان الأول متحرزًا يتوقى جهده وكان الثاني متحمقًا يسترسل
جهده، فعلى قدر قوة الشبهة وضعفها، ويحسب نوع الغلطة وشكلها، يعرف نوع
الفكر وتتبين حالة العقل. وبهذين تعرف صفة النفس، وبالنفس لا بغيرها يقوم
التاريخ الإنساني.
ولو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان معه خمسمائة ألف من أمثال (أدعياء
التجديد) أفيردون عليه ما ردَّ عربي واحد قلبه روح سيفه؟ أرأيتم الآن أيها
الفضلاء جدًّا ... أن الأمم في غنى عنكم وأن حاجتنا كل الحاجة إنما هي إلى
إيمانها وقديمها، وأنكم لا تنزلون منها ومن تاريخها وأسباب تاريخها إلا منزلة
الثرثرة في المعنى الصريح من المعنى الصريح. وأن مثلكم كمثل حادثة تاريخية
عظيمة أخذت ما أخذت من الناس وتركت ما تركت فيهم حتى إذا مضت لسبيلها
وصارت حديثًا في الأحاديث جاء رجل متسكع متلكع فاحتسى ألف كأس من الخمر
وأحرق ألف دخينة من التبغ، وأضرم النار وروح النار على دماغه ليخرج من
دماغه رواية تمثيلية في تلك الحادثة يزخرفها بالكذب ويزينها بالفلسفة ويزيدها
بالتحليل والمنطق، ويجملها بالخيال والشعر، ثم لا تكون مع هذا كله في جنب
الأصل إلا ملهاة وهزؤًا وسخرية، ليس فيها إلا حسام لا يقطع، وبطل لا يمنع،
ونار لا تحرق، وبحر لا يغرق؟ أتظنون أن التجديد لا يقوم إلا بالهدم، وهل يبلغ
ما أنتم فيه من الحماقة وضعف البصر بعواقب الأمور وأسرار الأشياء أن: إن
البناء الجديد لا يقوم إلا بعد هدم القديم وإزاحة أنقاضه، وإقرار الجديد في موضعه
أهو بناء من الطوب والحجارة والأخشاب، ترفعون هذا وتضعون هذا أم هو بناء
بالكلام على أرض من الورق، فكل من جاء ليبني بنى، وكل من جاء ليهدم هدم؟ ألا
تعلمون أن القديم لا يهدم البتة لأنه هو الذي يبدع الجديد وينشئه، فإن هدم في
أمة من الأمم زال الجديد بزواله، ولم يبق من الأمة إلا بقايا لا تستمسك على حادثة،
ولا تقر على صدمة، وإن سنة الكون في الجديد أنه ترميم في بعض نواحي القديم،
وتهذيب في بعضها، وزخرف في بعضها الآخر، وإلا لوجب أن يتجدد التركيب
الإنساني، والتركيب العقلي، وهو ما لم يقع ولن يقع منه شيء.
فالشأن في الجديد أن تتصل المادة الجديدة بالقديم فإذا هو هو، ولكن ببعض
الزيادة، أو بعض الزينة، أو بعض القوة، وكل ذلك لإحداث بعض المنفعة.
فالرجل المجدد لا يوجد نفسه أيها الفضلاء جدًّا، وما هو من الهوان على
الكون ونواميسه وعلله بحيث يقول: سأكون فيكون. ولو أن كل أسود في مطعم
أو حانة كأسود بني عبس لفسدت الأرض، ولم يبق للشجاعة تاريخ يحفظ، ولو أن
كل لون أحمر يقول: أنا الورد لما بقى للورد معنى إلا أن يكون خجلاً في وجه الدنيا.
المجدد أيها الفضلاء جدًّا لا تخرجه للأمة إلا أقوى عناصر القديم متى
اجتمعت فيه صحيحة متظاهرة يمد بعضها بعضًا. فإن من انتهى إلى غاية من
الغايات كان هو الحري أن يستشرف لما بعدها، وأن يأتي بما لا يستطيع من دونه،
ولكن الشرط أن يكون قد بلغ هذه الغاية وما يبلغها إلا إذا كان تهيأ بوسائلها، ولن
تأتي لي هذه الوسائل على أتمها وأكملها إلا إذا شاءت الحكمة الإلهية أن تنقح شيئاً
في أساليب الحياة ونظام القديم.
فالذي يحصل من كل ما تقدم أن لا جديد إلا حيث تبدع الحكمة شيئًا، ثم
تتصل نواميس الحياة النفسية بهذا الشيء، فإذا هي تفعل به ما اقتضته الحكمة مما
نسميه هدمًا أو بناءً. فأنت إذا كنت مجدداً في اللغة مثلاً، وكانت فيك العناصر
الكافية لاجتماع قوة من قوى الناموس العام، فلابد أن تبدع شيئًا غير موجود لا
يستطيعه غيرك كما تستطيعه أنت، فإذا أبدعت وأحدثت رأيت القديم نفسه هو
الدليل على أنك جددت، فكنت بشهادته مجددًا وهي شهادة كما ترى لا تنالها بأنك
محرر صحيفة، أو مترجم مجلة، أو ملخص من بعض آراء الفلاسفة، بل من
حياة عصرك وطبيعته، وقوانين وجوده؛ إذ تكون زيادة في العنصر وآية في الطبيعة،
وكلمة جديدة في قوانين الأمة. اهـ.