للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


كتاب الموجز في الاجتماع
بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار
عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة

ما أشد حاجة الأمم التي تتخبط في ديجور الجهل، أو ترسف في قيود الذل،
إلى علم الاجتماع الذي يهديها إلى سنن الله تعالى في الوجود، ودرس أسرار تقدم
الممالك والشعوب، واتقاء أسباب الفشل والحبوط.
استنبط العرب (رحمهم الله تعالى) أيام حضارتهم من الكتاب الكريم علومًا
وفنونًا كثيرة، وجعلوها ذات أصول راسخة، وقواعد محكمة، فلو رزق علم
الاجتماع عندهم من العناية والتدقيق حظ هاتيك العلوم، وجرى ملوكهم وأولو الأمر
فيهم في تسيير دفة الملك والسياسة على مقتضى تلك الأسس الثابتة، والسنن
الكونية التي لا تقبل التبديل ولا التحويل، لما علقت بأصول مدنيتهم تلك الشوائب
والأوضار، وأفضت بملكهم وعظمتهم إلى الزوال.
تلوت كتاب (الموجز) في علم الاجتماع لمؤلفه العالم الضليع، والكاتب
البليغ، عارف بك النكدي، أستاذ علم الاجتماع في معهد الحقوق وأحد أعضاء
المجمع العلمي العربي في دمشق - فألفيته من أجود كتبنا العربية الحديثة، وكم يود
الغيور على ملته أن يكون هذا العلم في جملة العلوم المتداولة يبن طلاب العلوم الدينية فإن مباحثه ليست بأدق من مباحث أصول الفقه التي يتلقونها ولا بأقل فائدة وعائدة
منها، وإذا كان علم الأصول يتعلق باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية
على قاعدة جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، فإن علم الاجتماع
يبحث عن سنن الله تعالى في حياة الأمم وموتها، والمحافظة على مقومات الأمة
ومشخصاتها التي تكون لها بها شخصية خاصة ووجود مستقل بين الأمم، وأَنَّى
يتيسر لأمة مغلوبة على أمرها، مستعبدة لغيرها، أن تحافظ على دينها وتحتفظ
بمصالحها، وتدرأ المفاسد عنها؟
***
ابن خلدون وعلم الاجتماع
ذكر المؤلف الكريم أن للعلامة الشهير ابن خلدون سابقة فضل في استنباط هذا
العلم، وأورد عنه أنه قد شرح أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع
الإنساني من العوارض الذاتية، وذكر أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول،
وأسباب التعرف والحول، وما يعرض في العمران من دولة وملة، وعزة وذلة،
وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة. وتعرض
للعصبية وسلطانها، والإقليم ونفوذه، والوراثة وتأثيرها، وتبدل الأخلاق والعادات،
وما لذلك من العلل والأسباب، (ثم قال) وإذا كان ابن خلدون لم يجعل علم
الاجتماع الذي يسميه (العمران البشري) وأحيانًا (الاجتماع الإنساني) علمًا ذا
قواعد ثابتة، فلا يقدح ذلك فيه ما دام الناس لا يزالون إلى يومنا هذا وهم في شك من
هذا العلم، وأصحابه في تردد من أمرهم، وحسب الرجل أنه أدرك العوامل
الاجتماعية من اقتصادية وطبيعية ونفسية، قبل أن يدركها غيره من الغربيين
بمئات السنين، فإذا لم يكن ابن خلدون مؤسس هذا العلم فهو لا ريب مهيئ
أسبابه اهـ.
أقول: لا شك أن الإمام ابن خلدون قد استقى ما أورده في مقدمته من ذلك
المعين الذي لا ينضب وهو الكتاب الكريم الذي أشار (قبل ثلاثة عشر قرنًا ونصف
قرن تقريبًا) في كثير من آيه إلى السنن الإلهية الثابتة في الأفراد والأمم، ومنه ما
يسمى عندهم سنة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، وإليه الإشارة بمثل قوله عز
اسمه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: ٢٥١) .
وقوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: ٥٥) وقوله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: ١٧) .
ولولا أن الكلام في علم الاجتماع من حيث هو علم لا من حيث هو دين
لأفضنا في ذكر الآيات التي يمكن أن يكون ما أورده الفاضل الكندي عن ابن خلدون
عناوين لها، وفصوله الممتعة مفسرة لها، مفصلة لمجملها.
***
الغرض من كتابة هذه الكلمة:
غرضي من هذه الكلمة التي أكتبها عن كتاب (الموجز) النفيس استنهاض
الهمم إلى الاستفادة من هذا العلم، وإيقاظ شعور من هم في غفلة عنه من رجال
الدين إلى سبر غوره، والتقاط درره، فإنه على الأكثر حجة لهم، ينفي عن دينهم
كثيرًا من المطاعن والشبه، ويكفيهم مؤونة الرد والدفاع من عند أنفسهم، وإني
مورد بعض الجمل الجميلة من هذا (الموجز) الجليل، ليكون قولي مؤيدًا بالدليل.
بطلان مذهب داروين:
قال في بطلان مذهب داروين - القائل بتولد نوع من نوع آخر أخس منه عن
طريق التحول (أي كتولد الإنسان من القرد!!) - معربًا عن كاترفاج نبذة مما جاء
في كتابه (الجنس الإنساني) ص ٧١: (ومن أراد أن يستشهد بما هو كائن، وأن
لا يبني حكمًا على شيء غير ما هو معلوم، استحال عليه أن يقول بتولد نوع من
نوع آخر عن طريق التحول، ومن قال بهذا فقد قال بشيء مجهول وجاء بالممكن
يحله محل الثابت بالتجربة. وبعد أن أفاض كاترفاج في هذا البحث وضرب له
الأمثال قال: وجملة القول أن (داروين) ومريديه من أجل أن يقروا التحول من
العنصر إلى النوع خلافًا لكل معارفنا المثبتة، ينبذون ما أثبتته التجربة والملاحظة،
ليحلوا محلها حادثًا ممكنًا ومجهولاً. قال مؤلف الموجز: لقد أتينا بهذه الكلمة بيانًا
لمذهب داروين الذي كثر أشياعه والمعجبون به، وهو مذهب لا يصح الركون إليه،
لأنه - كما قال كاترفاج - لا يستند على أساس ثابت، وإنما هو قائم على
الاحتمال والإمكان. ومهما يكن من الأمر فإن أصل الإنسان مسألة دقيقة غامضة،
إذا لم يؤخذ فيها بما ذهب إليه داروين، فليس هناك رأي آخر يعتمد كل الاعتماد
عليه، لتقادم العهد، وفقدان الأدلة الصحيحة) .
وأقول {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر: ٥٧) وأقدم ,
والبحث عن مادتهما الأصلية لتعرفها أشد وأبعد، وإلى هذا كله الإشارة بقوله عز
شأنه {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ
المُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف: ٥١) .
***
وحدة أصل الإنسان، أو الإنسان الأول:
قال في ص ٧١: وإذا نحن وازنا بين هذين الرأيين (كون الناس يرجعون
إلى أصل واحد أو أصول مختلفة) وما جاء في حق كل منهما من البراهين التي
أدلى بها إلى يومنا هذا، كُنا أميل إلى القائلين بوحدة أصل الإنسان، لأن الفرق ما
بين أشد الأجناس الإنسانية بعدًا بعضها عن بعض، ليس بالشيء الذي يذكر في
جنب الفوارق بين أصناف النوع الواحد من الحيوان والنبات.
أقول: ما ذكره هو الظاهر المتبادر من قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: ١) .
***
وظيفة المرأة في الحياة:
شغلت المرأة عالَمي الكتابة والخطابة في كثير من الأقطار وقتًا طويلاً، ولولا
حب الخروج بها عن أصل فطرتها ودائرة عملها، لما أشكل على الكثيرين أمرها
ولما أكثروا من الكتابة والخطابة في شأنها، فإن وظائفها الطبيعية الأربع التي تنتقل
فيها ولا تخرج عنها - وهي الحمل، والولادة، والرضاع، وتربية الأطفال
- دع تدبير المنزل - هذه الوظائف الطبيعية لا تدع لها مجالاً لمشاركة الرجل في
عمله الخارجي، وأنها تهدم من كيان الأسرة، وتفسد من شؤون المستقبل، بمقدار
ما تهمل من وظيفتها المنزلية، وإليك شذرات من (الموجز) في الموضوع:
(لقد قلنا: إن للنساء على الرجال سلطانًا لا يغالب، فإذا هن أجلسن على
مقاعد النيابة والأحكام، وشاركن في السياسة، ففوضت إليهن السلطة، فقد زاد
سلطانهن المعنوي سلطانًا سياسيًّا، فأصبح لهن الأمر كله، ووقعت السلطة العملية
في يد أضعف الجنسين عملاً، وتراكمت المصالح العامة في عهدة أعجزهما قدرة
على حفظها، فأين الفائدة بعد ذلك، بل أين المساواة؟
(وقال) : وقد شاءت هذه الطبيعة أن لا يجتمع الرجل والمرأة مجتمعًا لا
مبالاة معه، وكيف يريان سبيلاً إلى المباحثة في شؤون الدولة الخطيرة، وللعيون
مع كل نظرة بارقة من الأمل تذهب بالقضية بين سمع الأرض وبصرها [١] .
(وقال) : إن المبالغة في المساواة بين الرجل والمرأة كان من شأنه أن أفسد
كثيرًا من نظام الأسرة، فقد أدى ذلك إلى تعدد الطلاق في أمريكا تعددًا هائلاً، حتى
جاء في بعض الإحصاءات أن الطلاق بين المتزوجين واحد في الثمانية، وسبب
ذلك الغلو في المساواة، وكون المرأة أصبحت في غنى عن زوجها، لا تبالي أي
حياة تحيا، وهل مصير هذا إلى غير تفسخ الروابط الاجتماعية، ثم الفوضى
المطلقة، والرجوع بالإنسانية أجيالاً بعيدة إلى الوراء؟
وقد أفاض حضرته في هذا الموضوع، وأتى بالكثير الطيب، وذكر أن علم
منافع الأعضاء يثبت بين الجنسين الفوارق الطبيعية التي تستلزم الفوارق النفسية
والفكرية أيضاً (قال) وما دامت الطبيعة أسقطت عن المرأة مشاق الأعمال
وصعابها، فلم لا تستفيد المرأة من ذلك؟ وعلام تريد أن تحشر نفسها في مأزق
حرج، فتدخل في خطة صعبة يتمنى الرجل لو كان له مخرج منها؟
أقول: وإلى هذه الفوارق بين الرجل والمرأة، التي خصصت كلاًّ منهما بعمل،
يشير قوله جل اسمه] وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [ (النساء: ٣٢) .
ومما أثبته الفاضل (العارف) مستندًا فيه إلى علم الاجتماع ورجال الاشتراع
يظهر جلياً أن الرجل بما وهبه الحكيم العليم من المواهب الطبيعية هو المكلف
بالتوفر على عمله الخارجي، والقيام على عيله (عائلته من زوج وولد) بالنفقة
وحسن التربية والمعاملة، وهو المستفاد من قوله عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: ٣٤) .
وقد اقتصر الأستاذ النكدي في بحثه هذا على ضرر اشتغال النساء في القضايا
العامة كالمجالس النيابية لأنه - كما أفادنا حضرته مشافهة - يتكلم من الوجهة
الاجتماعية والسياسية ويقاس عليها اشتغالهن في القضايا الشخصية كالمحاماة
والهندسة والدخول في المعامل، فإن في هذا من فساد نظام الأسرة ما في ذاك.
ولم يذكر أضرار التفنن في التبرج والتفرنج وقتل الوقت في المسارح
والمراقص، لأن هذا محله بحث (تفسخ الهيئة الاجتماعية) من الجزء الثاني الذي
وعده بنشره، وسنراه قريبًا إن شاء الله تعالى.
***
حكمة تعدد الزوجات:
(قال) أما الحقيقة في تعدد الزوجات فهو يرجع في الأقاليم الحارة إلى
مؤثرات طبيعية غير فوارق اللذات، وإلى عوامل القتال والحروب، وما تجره من
فقدان الرجال في القبائل، التي لا تطفأ نار الشر بينها، وللرغبة في تكثير النسل،
والتقوي بأحلاف من العمومة والخؤولة، ولرُخَص دينية بنيت على هذه الأسباب
الاجتماعية كلها أو بعضها. اهـ.
أقول: لا يخفي أن الحروب في الأمم والشعوب، أشد منها في القبائل إهلاكًا
وتدميرًا، وأكثر أخذًا وتقتيلاً، فهذه الحرب العامة قد أزهقت قواها البرية والبحرية
والجوية ملايين البشر، وتركت ملايين النساء والأطفال بلا رجال؛ إذاً فحكمة تعدد
الزوجات في أمم الحضارة أظهر منها في أمم البداوة، وقد أدركت ألمانيا أثناء
الحرب العظمى هذا النقص الفادح فاضطرت إلى التصريح بضرورة التعدد.
أرأيت كيف جاء علم الاجتماع وأحداث الزمان مؤيدًا للقرآن، أعلمت كيف
انطبقت أصوله على تعاليم الإسلام؟
***
ما خالف الشرع من علم الاجتماع:
رب معترض يقول: إنك ذكرت من القضايا الاجتماعية ما هو حجة لذويك
وتركت ما هو حجة عليهم، وعلم الاجتماع لا يعرف المحاباة، وقد قال في (الموجز)
ص ١٠٩:
(١) (فكل حق للرجال في حرمة أو مال يجب أن يكون للمرأة مثله، ولا
عليها ولا عليه أن يزيد حقها في هذه الأمور على حقه) وظاهر هذا معارض لنص
(للذكر مثل حظ الأنثيين) وفي بحث أدوار العقوبة وأنواعها (الدور الأول انتقام،
والثاني قصاص، والثالث تأديب وإصلاح) .
(٢) رأوا أن القود على إطلاقه، وجرح الجارح، وقطع السارق كان
لها أيام وانقضت. فتحولت العقوبة إلى واسطة يراد بها التأديب والإصلاح. وهذا
ينافي قوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (المائدة:
٤٥) الآية.
وفي بحث أطوار العقوبة الثلاثة:
(٣) خروج العقاب عندئذ - أي عندئذ ترقّت الأوضاع الاجتماعية،
وتألفت السلطة المنظمة. إلخ - عن أن يكون حقًّا شخصيًّا أو إلهيًّا إلى حق عام.
وفي بحث النوع الثاني من أشكال الحكم (الشكل الثيوقراطي) وهو الحكم
الذي يستمد نفوذه وقوته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون، وباسمه
يتكلمون.
(٤) حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزلة الوزراء. (قال) ومن
الحكومات الثيوقراطية: حكومة القضاة في اليهود، والخلافة في الإسلام، والممالك
والإمبراطوريات الغربية التي كان يعتقد أصحابها أنهم يستمدون قوتهم من الله. ثم عد
الحكم الديمقراطي خير الأحكام وأصحها وعلل ذلك بقوله: لأنه يستمد قوته وسلطانه
من الأمة، وهي وحدها صاحبة الحق في الحكم. اهـ.
(٥) وقال (ص ١٨٦) : وكما أنه لا سبيل إلى وضع شرع دفعة واحدة.
فكذلك لا سبيل إلى أن يختم عليه بعد وضعه فيقال: هذا هو الشرع الذي يصلح
لكل جيل في كل زمن.
(٦) وفي (ص ٧٢) : وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا في ما يذهبون إليه
بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم وبما توصلهم إليه
مساعيهم.
***
تمهيد للجواب
أقول: لسنا نحاول في كلامنا هذا هدم القواعد الثابتة القطعية من علم الاجتماع
بالنصوص الدينية فإن في ذلك ما يحمل الاجتماعيين على التمسك بقواعدهم
والبراءة مما خالفها وفيما أورده (الموجز) عن حجة الإسلام الغزالي عبرة وعظة،
ولا نلغي إيضاحكم النصوص بهذه القرارات الاجتماعية التي تخالفها في الظاهر
(لا في الواقع على ما سيأتي) لأن هذا يشعر بأن النصوص لا تمشى مع العلم، ولا
تبقى مع الزمن، وينتج عن ذلك نفور المتدينين من اقتباس العلوم والفنون، وإيثار
الجهل عليها، لا بل تدعوهم حميتهم لمحاربتها باسم الدين دفاعًا عنه، وتأييدًا له!!
والحق أن القواعد السماوية الصحيحة، كالقضايا العقلية والطبيعية الصريحة، لم
تبن إلا على أمتن الأسس، وأرسخ القواعد، ولم تجئ إلا لتقرير الحقائق وتثبيتها،
وكيف يمكن أن يكون بينها تناقض، والذي أنزل الوحي، وخلق العقل، وأوجد
الطبيعة هو واحد جلت حكمته؟ إذاً فما على رجال الدين والدنيا الغيورين إلا أن
يعنوا بالتوفيق بينهما، عليهم ألا يطرحوا أحدهما في سبيل الآخر، فإن هذا أبقى
لدينهم ودنياهم، وأحفظ لمصالح البشر من الضياع والحرمان، وأدعى أن يستفيد
ألوف المتدينين من كتب العلوم والفنون النافعة.
وها أنا ذا أسعى في الجمع والتوفيق بين ما اختلف ظاهره من نصوص الكتاب
ومسائل الاجتماع؛ خدمة للأمرين معًا، وترغيبًا للمسلمين في الإقبال على هذا العلم
النافع (أي الاجتماع) الذي يوقظ شعورهم ويستفز هممهم، للمحافظة على الإرث
الموجود، واسترداد المفقود بالطرق القانونية والسنن الكونية، التي سطت بها
الأمم القوية على الأمم المستضعفة، وجردتها مما يبعث فيها روح الحياة الحرة.
إن مَن يعتمد النظرة الأولى في حكمه يحسب أن ما أوردناه عن الموجز
كنموذج لمخالفة الاجتماع لظاهر الشرع، مخالفًا له في الواقع ونفس الأمر، ولكن
الذي يمعن النظر يرى لذلك أسبابًا إذا روعيت بإنصاف، حل الوفاق محل الخلاف.
(الأول) أن الحق المعطى للمرأة في الإسلام مبني على الطريقة الاجتماعية
المُثلى، والسنة الطبيعية العادلة كما سيأتي.
(الثاني) عدم المنافاة بين حكمين وإثبات أن لهما جهة واحدة، وإن ظن
بادي الرأي اختلافهما كما سترى.
(الثالث) بيان المراد يدفع الإيراد، ويثبت الحكم على الوجه الصحيح.
***
أجوبة الأسئلة المتقدمة
الأول بحث المرأة:
إن الإسلام قد راعى طبيعة المرأة ووظيفتها في الحياة، ولم يدعها إلى عمل
الرجل الذي جعل كافلاً لها. وقد أوردنا عن الموجز في ذلك ما فيه مقنع. أما قوله
فكل حق للرجال في حرمة أو مال، ينبغي أن يكون للمرأة مثله، ولا عليها ولا
عليه أن يزيد حقها في هذه الأمور على حقه، فيجاب عنه من وجهين:
(١) أن هذا مبني على الغلو في المساواة بين الرجل والمرأة في عامة
الشؤون والحقوق [٢] وقد نقلنا عن (الموجز) نفسه رد هذا القول، لما ينبني عليه
من فساد نظام الأسر، وأن مصالح الحياة الخارجية يجب أن تكون بيد الرجل وحده،
إذاً فتسويتها به في المال - مع أنه هو المكلف أن يكون قوامًا عليها وعلى ولده
بمقتضى عمله الطبيعي - يعد ظلمًا بينًا، ينشأ عنه خلل اجتماعي، وهو وقوع
الثروة في يد أقل النوعين حاجة إليها.
(٢) أن الإسلام وإن جعل للذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، فإن المرأة
في هذه القسمة هي الراجحة الرابحة، لأن الرجل هو المكلف بالإنفاق طبعًا وشرعًا
كما قدمنا، فلو أخذ ميراثه ألفين مثلاً، وأخذت هي ألفًا، عاد لها من نصيبه ألف
بطريق النفقة العادلة، واحتفظت هي بنصيبها لنفسها، فكان لها بالنتيجة ألفان وكان
له ألف واحد، فأصبح للمرأة مثل حظ الذكرين، فأي حيف بعد هذا وقع على المرأة،
وأي ربح أصابه الرجل في هذا الاقتسام، وهل هُضمت المرأة حقها في شرعة
الإسلام؟
نعم، هناك أمور استثنائية تضطرها إلى العمل الخارجي أو الاكتساب كأن
تكون أيّمًا ولها صغار لا مال لهم ولا كافل ممن تلزمهم نفقتهم من آل الرجل، فالإسلام
قد أباح لها ما للرجل من موارد الكسب، وجعل نصيبها منها مساويًا لنصيبه -
وجملة القول أن المرأة في الإسلام لا تشكو ظلمًا ولا هضمًا، وهي جارية فيه
على مقتضى النواميس الكونية كما قدمنا.
***
الثاني والثالث الحقوق والعقوبات:
إن تقسيم العقوبة إلى أدوار انتقام وقصاص وإصلاح، والحق إلى شخصي،
وإلهي، وعام، هو تقسيم تاريخي، وأمور اعتبارية، لا حقائق ثابتة متغايرة، فإنه
لا منافاة بين كون العقوبة حقًّا شخصيًّا وإلهيًّا وعامًّا، وإنما يختلف التعبير باختلاف
الاعتبار، فالحق شخصي من جهة قرابة صاحب الحق وذويه، وإلهي من حيث إن
الله تعالى هو الذي قسَّم الحقوق على قاعدة العدل والإحسان، وشرع القصاص رحمة
بالعباد وذريعة لحسم مادة الفساد، وحق عام من حيث وحدة الأمة وتضامنها وأن ما
شرع في مصلحتها، فهي المكلفة بتنفيذ الحكم بواسطة حكومتها.
والانتقام قد يُراد به التأديب، والقصاص تكون غايته الحياة الطيبة والإصلاح،
فلو أن أمة (كالأمة العثمانية مثلاً) كان لها حريتها واستقلالها وسعة ملكها،
وعظمة سلطانها ثم خالفت في سيرها سنن الاجتماع، وأدارت رحى ملكها على
غير قطب الشورى والاشتراع، وراحت تسوس الرعية بما يملي عليها الهوى
والظلم، ثم طال عليها الأمد، فهبت فيها أعاصير الفتن، وذاق بعضها بأس بعض
فسطت عليها أمم قوية فسلبتها حريتها واستقلالها، وجعلت ممالكها بينها نهبًا مقسمًا،
قلنا: لو أن أمة أصيبت بمثل ذلك فاتعظت بما أصابها، وهبت تجاهد في سبيل حقها
المغصوب، وإعزاز شأن وطنها المحبوب، إذاً لصح أن يقال: إن ما أصابها كان
انتقامًا من ذنوبها، وقصاصًا أو جزاءً على عملها، وتعذيبها كان موقظًا لشعور
أفرادها، وسببًا لصلاحها ورشادها، وداعيًا إلى تضامنها واتحادها، والانتقام من
الأمم التي تطغى بإذاقتها العذاب بآية كونية أو بأيدي أمة أو أمم عاتية قوية هو
سنة من سنن الله تعالى في الوجود، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، والشواهد على ذلك
من تاريخ الأمم القديمة والحديثة كثيرة.
وما يقال في الأمم يقال في الأفراد، فإن القتل والقطع والجلد يراد منها صلاح
الفرد والمحافظة على المجموع، وكم من نقمة أورثت نعمة، وإن تعجب فعجب أن
يُرى في حد القاتل والزاني والسارق سُبَّة وعار على المجتمع، وأن لا يرى
الخطب أوجع، والخزي على المجتمع أشد، بما تصنعه هذه الأمم المادية - دعية
قوانين العدل والإصلاح!! - من قتل الشعوب الآمنة في عقر دارها وسلبها كل ما
تملك، وإفسادها نظام الأسر والبيوت، بل المجتمع كله.
والعجب كل العجب ممن يكبر أمر المسبب، ويغفل عن السبب، أو ينكر
القصاص العادل ولا يعظم الذنب.
الفظاعة ليست في قصاص البريء الذي يتعلق به الحق الشخصي والحق
الإلهي والحق العام، ولكنه في الجريمة التي أفضت إلى القصاص الذي أخذ المجرم
بذنبه، وكان فيه حياة الباقي، وإذعان القرابتين للحكم، وإزالة الوغر والضغن
وكف الأذى والعدوان.
وهل كانت دولة (الخلافة العثمانية) مصيبة في إبطالها أحكام الشريعة،
والاستعاضة عنها بتلك القوانين التأديبية، التي لم تكن إلا باعثًا على زيادة الإجرام
وارتكاب الآثام والفساد العام، الذي عمَّ المحكومين ومنفذي الأحكام؟ ألم تكن تلك
الكلمة الخاطئة: (اضرب واجرح لا تخف، هي حبسة وزوج أكتاف) هي المثل
السائر على ألسنة مجرمي العوام؟ المشجع على ارتكاب الجرائم في تلك الأيام؟
وهب أن في سجون الغرب من ضروب التربية والإصلاح ما يجعل الشقي سعيدًا،
فهل كانت سجون الشرق يوم اختيرت لها قوانين الغرب مستوفية وسائل التهذيب؟
وكيف عنينا بالغايات قبل التماس الوسائل؟ ثم ألا تختلف الأحكام باختلاف الأقوام؟
وهل اتحدت عقلية الشرق والغرب ونفسيتهما فتكون ذرائع الإصلاح فيهما واحدة؟
فقول (الموجز) : رأوا أن القود على إطلاقه وجرح الجارح وقطع السارق
كان لها أيام وانفضت. أقول (فيه) إنها ما انقضت ولن تنقضي، ولا تزال الأمة
التي تعمل بها كنجد واليمن أسعد حظًّا وأهنأ عيشًا وأقل جرائم من غيرها، وسعادتهم
في بلادهم تنبني على أصلين (الأول) التربية الدينية التي هي أقرب
مهذب للنفس وزاجر عن الشر (والثاني) اعتقاد أن كلاً مأخوذ بذنبه، وأن كل من
يقوم على ما تحدثه به نفسه من قتل أو جرح ينفذ فيه مثله في الحال.
ونحن نسأل الله تعالى أن يحمي الجزيرة العربية من آفات المدنية الحديثة،
ونفثات سمومها القاتلة، وأعظمها فتكًا في الأفراد والأمم، وتقويضًا لدعائم الاجتماع
والعمران، وهو ما أباحته قوانينها المهذبة (!) العادلة (!!) من الميسر والربا
والزنا والخمور، وإن شئت قلت: سلب الأموال، وإهلاك المساكين والعمال،
وتضييع الأنساب، وإفساد العقول.
وإليك ما قاله الأستاذ النكدي في محاضرته (القضاء في الإسلام) التي طبعها
من بعد رسالة مستقلة قال (ص ٩٩ ج١ محاضرات المجمع) :
(جاء هذا القضاء بكثير من الأصول والأحكام التي يزعم أكثرنا أنها كانت
مجهولة لولا القوانين الحديثة) وكتبت تحت عنوان (الادّعاء العام) ما نصه:
(فوض القانون إلى المدّعى العام أن يتتبع الجرائم فيقيم الدعوى على فاعلها
وأن يدافع عن الحق العام، ويخاصم كل من يعبث به (إلى أن قال: وهذه الخطة
لم يغفل الشرع أمرها. وقد سماها الأصوليون (حقوق الله) وعرفوها بأنها ما تعلق
نفعه بالعامة، ويجب على ولي الأمر إقامتها مثل جزاء السارق، وقاطع الطريق
واللص وغيرهم من أهل الفسق والفجور) ثم نقل عن كتاب السياسة الإلهية لشيخ
الإسلام ابن تيمية ما يؤيد ذلك.
وقال ص ١٠٣ منه: (إدغام العقاب) :
لما ارتقت الهيئة الاجتماعية ورقت [٣] قوانينها فكان [٤] من وراء ذلك أن
جعلت العقاب إصلاحًا وتأديبًا، لا انتقامًا وتعذيبًا، وجاءت المادة (٢٩٩) من
أصول المحاكمة الجزائية تقول في شقها الثاني: إذا ارتكب المتهم عدة جنايات
وجنحات معًا فتحكم [٥] بالجزاء المعين للأشد عقوبة، ومثل ذلك ما قاله أبو يوسف
في كتاب الخراج به) .
وإن لم يكن القاذف ضرب للأول حتى قذف آخر فإنه يضرب لهما جميعًا
حدًّا.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))