للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمود أحمد الغمراوي


جمعية الإلحاد والزندقة
العلم والدين [*]

(رد على مقال للدكتور طه حسين نشر في العدد ١٩ من جريدة السياسة
الأسبوعية في ١٧ يوليو سنة ١٩٢٦) .
نشر الدكتور هيكل في العدد الرابع عشر من السياسة الأسبوعية مقالاً بحث
فيه في العلم والدين وما بينهما من وفاق أو خلاف، وقد انتهى به بحثه إلى أنه لا
خصومة بين العلم والدين، ولن تكون بينهما خصومة، وأن الخلاف والخصومة
هما بين رجال العلم ورجال الدين، ومنشؤهما سعي كل من الطائفتين سعيًا أنانيًّا
صِرْفًا ليكون بيدها الحكم والسلطان.
وختم بحثه بما ملخصه أن النصر سيكون دائمًا حليف الفريق الذي يرضي
الإنسانية ويخفف أعباءها، وتجد في يده مفتاح راحتها ومرهم جراحها.
ونصح لرجال الدين بأن ينقطعوا عن العالم ويعتزلوا الدنيا ويبعدوا عن
شئونها ويعكفوا على العبادة والزهد والتقشف، وقد تناولت أقلام الكاتبين بالبحث
والتحليل والنقد عناصر هذا الموضوع الذي أثاره الدكتور هيكل، وكتب كاتب ديني
مقالاً قيمًا ألمَّ فيه كاتبه الفاضل بمعلومات نفيسة قال عنها بحق: إنها مقدمات لا بد
منها للحكم فيما بين الدين والعلم من وفاق أو خلاف.
وفي الحق أن من يجهل الأساس التي قام عليها الدين، والأساس التي قام
عليها العلم، ولا يعرف من مبادئ الدين تلك المقدمات الأولية التي ألمَّ بها ذلك
المقال لا يحق له أن يتصدى للبحث في هذا الموضوع الخطير، وبالأولى لا يسوغ
له أن ينصب نفسه منصبا الحكم الذي لا ينقض حكمه ولا يرد قضاؤه، وهو جاهل
بالقواعد الأساسية التي لا يقوم إلا عليها الحكم.
كنت أظن أن سيجد حضرات الكتَّاب في مقال ديني درسًا ينفعهم ويعصمهم
من الزلل حينما يريدون أن يبحثوا فيما بين الدين والعلم من صلة، وكان أكثر من
نرجو لهم النفع بهذا الدرس أولئك الذين لم تهيئ لهم تربيتهم المدرسية وسائل
الإلمام بقواعد العلم الديني، فأما الذين قضوا شطرًا ليس بالقليل من أعمارهم في
دراسة العلوم الدينية، وقطعوا في الأزهر مرحلة ليست بالقصيرة من مراحل
تربيتهم العقلية، فما كنا نظنهم بحاجة إلى مثل هذا الدرس، وما كنا نحسبهم من
الجهل بأمور الدين بحيث لا يعرفون بسائط القواعد المقررة.
دهشت وايم الحق حين قرأت في العدد التاسع عشر من السياسة الأسبوعية
مقال الدكتور طه حسين في العلم والدين وما ضمنه من تناقض وسخف.
وما كان دهشي لأن الدكتور طه أخطأ الصواب وكان من عادته أن يصيب،
ولا لأنه جانبه التوفيق في هذا البحث وكان قبلاً موفقًا، كلا فقد عرفنا الدكتور
هجامًا كثير العثرات شديد الجرأة على العلم وعلى الدين، بعيدًا عن التوفيق
والإصابة في كثير من أبحاثه لا سيما ماله صله بالدين، ولكن دهشي كان للفرق
العظيم بين عقليتين ممتازتين وذكائين مصدودين، عقلية تكونت بعيدة فيما نعلم عن
مناهل الدين فكانت موفقة في كثير من آرائها في الدين، وأخرى نشأت نشأتها
الأولى في معاهد الدين غير أنها فيما تكتب عن الدين تخبط خبط العشواء في الليلة
الظلماء.
عجبت لما بين عقلية الدكتور هيكل وذكائه، وبين عقلية الدكتور طه وذكائه
من الفوارق العظيمة.
فهذا يتورط في الخطأ تورط من لا يعرف إلى الصواب سبيلاً، وذاك يهتدي
بفطرته وذكائه إلى مواطن الإصابة حيث كان يخشى عليه من التورط في الزلل،
وهذا كله في بحث كان المفروض أن المخطئ أولى بالإصابة فيه من المصيب.
وأن من الحق أن أقول: إنني لم أجد مأخذًا على الدكتور هيكل في مقاله وبحثه إلا
في أمرين اثنين:
أحدهما: أنه أرسل الكلام في الدين إرسالاً فهم منه أنه يقصد من الدين
الجنس الذي يتحقق في أي دين من الأديان، وهذا ما لا يتفق والواقع فإن الوثنية
مثلاً ليست كما لا مقرر القواعد والأركان.
وثانيهما: أنه يريد رجال الدين على أن يكونوا ناسكين بعيدين عن الدنيا
معتزلين شئون العالم، ولعل هذا هو الهدف الذي يرمي إليه من بحثه، ولكن هذا
ليس من الإسلام في شيء، ففي القرآن الكريم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ
وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: ٧٧) وقد يكون هذا النصح غير
المخلص أثرًا من آثار الأنانية والتنازع على الحكم والسلطان كما هو رأي الدكتور.
هاتان النقطتان هما في رأيي موضوع المؤاخذة في مقال الدكتور هيكل، فأما
مقال الدكتور طه فإنك لن توفق إلى العثور فيه على رأي صائب مهما حسنت نيتك
في طلبه، ولن تجد فيه إلا عثرات تتلوها سقطات، ولن تقف منه إلا على
متناقضات تهيب بك إلى أن تدين بالمتناقضات.
لا يعنيني كثيرًا أن أَلْفِتَ القارئ إلى ما يَفْجؤه في مستهل كلام الدكتور من
الركة والتهافت؛ إذ يقول: (ليس لي ما يحول بيني وبين التفكير في هذا
الموضوع والتعليق على ما كتب فيه، وفي الحق أني فكرت في هذا الموضوع
وكتبت فيه) ، كذلك لا يهمني أن أقف به على ما يعقب هذه الجملة من التناقض
واشتباه الرأي واختلاط الفكر؛ إذ يقول: قد تكون المسألة (يعني مسألة العلم والدين)
جديدة في مصر، ولكنها قديمة في أوربا ثم يقول (هي ليست جديدة في مصر ولا
في العالم الإسلامي فقد عرض لها الغزالي وابن رشد، وعرض لها الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده وتلاميذه غير مرة) .
أقول لا يهمني أن أنبه القارئ إلى شيء كثير من أمثال هذه الهنات المعيبة
ولكني أَلْفِتُ القارئ إلى ما يتخلل الجملتين من غرور وتغرير، فللدكتور طه في
الكتابة سنة قل أن يشاركه فيها غيره من الكاتبين؛ فهو حين يكتب في موضوع
يحاول جهده أن يغرر بالقارئ، يوهمه أنه قبل أن يعالج الكتابة في الموضوع
الذي تناوله قد قرأ فيه كتبًا قيمة وأنه قتله بحثًا وفهمًا، وأنه ألم بجميع أطرافه وخَبُرَ
جميع دُرُوبه ومسالكه؛ وإذًا فليس على القارئ بعد أن قام عنه الدكتور بكل وسائل
التنقيب والبحث والقراءة والفهم إلا أن يتجرد من دينه، وإلا أن يلغي عقله
وفهمه، وكل ما أودع الله فيه من قوة دراكة، ويسلم بعد ذلك قياده للدكتور يصرف
منه العنان، كما يصرف الصبي دواجن الطير والحيوان.
أليس الدكتور طه هو صاحب كتاب الشعر الجاهلي؟ أليس قد طلب إلى
قارئ ذلك الكتاب قبل أن يقرأ كتابه أن يتجرد عن دينه وعقله ووجدانه وعاداته
وقوميته ليسير مع الدكتور فيصرفه كيف يشاء؟ هذه هي روح الدكتور
طه في كتاب الشعر الجاهلي بارزة صريحة لا حجاب دونها، وهي هي بعينها في
مقال العلم والدين، واضحة جلية، وإن كان وضوحها هنا بمقدار يناسب قدر هذا
المقال الصغير.
فترى الدكتور قبل أن يدخل بك في متناقضاته يلقي عليك أمثال قوله: (وفي
الحق أني فكرت في هذا الموضوع وكتبت فيه قبل صديقي هيكل وعزمي، وفي
الحق أن السياسة اليومية قد نشرت لي في ربيع سنة ٢٣ فصلاً غضب له مولانا
الشيخ بخيت، وفي الحق أني كتبت في العلم والدين وما بينهما من خلاف فصلاً
آخر كنت أريد أن أنشره) ثم يعود فيكرر على سمعك مثل قوله: (لست إذًا حديث
عهد بمسألة العلم والدين، وما يمكن أن يكون بينهما من خلاف، وقد قرأت في هذه
المسألة كتبًا قيمة قبل أن أكتب فيها) إلى غير ذلك من إلحاح ثقيل ممل، فماذا يقصد
الدكتور من هذا كله؟ أليست هذه الروح المقنعة بقناع مهتوك يشف عما وراءه،
هي بعينها تلك الروح البادية العارية في كتاب الشعر الجاهلي، وكلتاهما تريدان
قارئ كلام الدكتور على أن يلغي عقله وفهمه ليستطيع أن يشترك مع حضرته في
أن يكون ذا نفس واحدة تحمل بين جنبيها شخصيتين متباينتين متعاديتين متناقضتين،
وفي الحق أن الدكتور لن يجد معه شخصًا آخر يستطيع أن يهيئ نفسه لاحتمال
أمرين متباينين، ويدين باعتقادين متناقضين - كما يريد في مقاله - إلا شخصًا
ألغى عقله وسفه نفسه وتجرد من كل ما منحه الله من إحساس وإدراك، فهو من
أجل ذلك يطلب إلى قرائه في إلحاح مضجر أن يتجردوا من عقولهم ووجدانهم
وإدراكهم ليستطيعوا أن يشاركوه في آرائه وأفكاره، كأنه يأبى أن يكتب أو يتحدث
إلا إلى المجانين.
هذا شيء ألفت القارئ إليه، وشيء آخر أرجو أن يقف القارئ معي عليه،
وهو - قصة باستور - فقد ساق الدكتور هذه القصة ليقنع القارئ بأنه ليس فذًّا في
نفسيته العجيبة التي تستطيع أن تكون في وقت واحد مشرقة مغربة، مصدقة مكذبة،
مؤمنة مرتابة، وهل في ذلك من غرابة؟ ألم يكن باستور العالم الفرنسي المشهور
من أشد الناس إيمانًا بالمسيحية، ومن أحرصهم على تأدية واجباته الدينية، وهو من
العلم بالمكان الذي لا ينكر ولا يمارى؟
لا أجادل الدكتور في شأن باستور، ولا فيما نعته به من أنه جمع بين الصدق
في الدين والإخلاص للعلم فلست ممن يرون أن من خصائص العلم معاداة الدين،
ولا أرى من خصائص العالم الإلحاد في الدين والجرأة على العلم، وقد يصح أن
يكون باستور كغيره من العلماء الذين اختصهم الله بفهم ثاقب وعلم وافر في فن من
الفنون حتى صار رأيه حجة في فنه، ولكنه إذا اضطر إلى الأخذ بما ليس من
فنه سأل أهل الذكر وأخذ بآراء الأخصائيين من غير نزاع ولا جدال، كما
يأخذون هم أيضًا برأيه في فنه من غيره مماراة ولا خصومة.
وتفسير قصة باستور وغيره من علماء المسيحية في أخذهم بالعلم واطمئنانهم
إلى الدين على هذا الوجه الذي قدمت قريب من الصواب جدًّا.
فباستور وأضرابه يعملون بحكمة الإنجيل (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) .
فإما أن يكونوا مثل دكتورنا الفيلسوف الأديب المؤرخ الحقوقي المتشرع
الأصولي الفقيه المحدث الطبيعي الكيماوي الفلكي الجيولوجي الفيسيولوجي
الأمبريولوجي، ثم هم مع كل هذا يحملون بين جنوبهم نفسًا قلقة مضطربة تدين
بالمتناقضين وتطمئن إلى المتباينين المتنافرين - فهذا ما أنزّه هؤلاء العلماء عنه ولا
أسلم لدكتورنا بصحته.
ولعل باستور لم يؤثر عنه أنه وقف مرة في حياته من رجال دينه موقف
دكتورنا من علماء الدين، يقول لهم في جرأة وصلابة وجه: إنني أفهم للدين وأجدر
بمعرفة قضاياه، وإدراك مراميه منكم، فهل لدكتورنا أن يتشبه بباستور وغيره من
علماء المسيحية فلا يتعدى طوره ولا يقفو ما ليس له به علم؟
لا أظن أن الذي حال بين باستور ولم يحل بين دكتورنا وبين هذا الموقف
الجريء هو ما بين طبيعة المسيحية والإسلام من تفاوت في السهولة والسماح
والتوسيع على العقل الإنساني في أن يحلق في سماء الفكر والبحث حيث يشاء، لا
أظن هذا فما كان لباستور أن يعتقد في المسيحية أنها تغل العقل الإنساني وتحول
بينه وبين التفكير الحر؛ إذ لو كان هذا رأيه في المسيحية لما كان كما وصفه لنا
دكتورنا من أشد الناس إيمانًا بها، ولأعلن عليها حربًا عوانًا كما فعل غيره من
ملاحدة المسيحية، وإذاً فليس جمود المسيحية هو الذي جعل باستور يقف من دينه
هذا الموقف المهذب، وليست سماحة الإسلام هي التي جعلت دكتورنا يقف من دينه
هذا الموقف الجريء المغموز، ولكن السبب فيما أظن هو أن باستور قد أوتي حظًّا
من العلم والحياء يحول بينه وبين أن يقف هذا الموقف {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
العُلَمَاءُ} (فاطر: ٢٨) ، على أنه مهما يكن في طبيعة دين من سهولة وسماح،
ومهما أرخى للعقل الإنساني من عنان لكي يجول في مسارح التفكير إلى حيث يشاء،
فإنه ليس من المعقول أن يأذن الدين بل ولا أن يأذن العلم نفسه للعقل في أن
يخرج في تفكيره وبحثه عن المناهج التي أقراها، والتي أقر العقل أيضًا أساسها
وقواعدها، فإن معنى هذا الإذن أن يهدم كلاًّ من الدين والعلم والعقل نفسه بنفسه
ونتيجة ذلك الفوضى والجهالة.
إني لأرجو القارئ بعد أن وقف مما سبق من القول على عقلية الدكتور وما
تتسع له من متناقضات ألا يدهش ولا يستولي عليه الضجر حين يرى الدكتور يعلن
قبل كل شيء أنه يعلم أن الإسلام لم يلغ العقل الإنساني ولم يحل بينه وبين التفكير
الحر، ثم يراه يعلن أثر ذلك أن العلم شيء، والدين شيء آخر، وأن منفعة العلم
والدين في أن يتحقق بينهما هذا الانفصال حتى لا يعدو أحدهما على الآخر، وحتى
لا ينشأ من هذا العدوان في الشرق الإسلامي مثل ما نشأ في الغرب المسيحي.
لا يضيقن صدرك بما يقول الدكتور، وسائلْه معي هل يعلم حقًّا إن الإسلام لم
يلغِ العقل الإنساني ولم يحل بينه وبين التفكير الحر؟ ، وهل هو يدين حقًّا بهذه
القضية؟ فإذا كان يدين حقًا بهذه القضية فهل هو مع هذا يعتقد أن الإسلام يعطي
العقل هذا الإطلاق، ويمنحه هذه الحرية الواسعة ثم يعده من أعدائه لا من حلفائه
وأعوانه؟ فإذا كان الإسلام لا يعد العقل عدوًّا له بل يعتبره حليفًا وصديقًا وفيًّا
فهل مع قيام هذا الحلف ووجود هذه الصداقة بين الإسلام والعقل يصح أن يعادي
الإسلام العلم وهو وليد العقل وربيبه [١] ؟ وإذا لم يكن بين الإسلام والعلم عداء
فكيف يعدو أحدهما على الآخر؟ وكيف يعتقد الدكتور أن منفعة العلم والدين في
أن يتحقق بينهما الانفصال، وكيف تصور أن يقع بين الإسلام والعلم في الشرق
الإسلامي من المصادمات والحروب العنيفة مثلما وقع بين المسيحية والعلم في
الغرب المسيحي؟
آمنت بالله ورسله وآمنت بأن الدكتور طه له عقلية ممتازة قادرة على الإيمان
بالمتناقضات، وأنه بعيد عن الإلمام بطبائع الإسلام ولا يحسن تطبيق وقائع التاريخ
(يتبع)
... ... ... ... ... ... ... محمود أحمد الغمراوي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بمعهد أسيوط
((يتبع بمقال تالٍ))