للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ذات بين مصر والحجاز

حادثة المحمل الشريف وأثرها في الصحافة:
قد ذاع في أرجاء العالم كله نبأ حادثة سميت (حادثة محمل الحج المصري)
في (منى) من أرض الحرم المكي المقدسة فقد طارت به الشركات البرقية،
وخاضت فيه جرائد الشرق والغرب، ولم أر جريدة من الجرائد المصرية ولا
السورية بينت الحادثة كما وقعت على كثرة من كان في موسم الحج من مراسلي هذه
الجرائد، وجريدة (أم القرى) المكية وهي التي تحرت الصدق في الرواية
اختصرت الخبر، وأوجزت فيه، ومن الغريب أن البلاغ الذي أذاعته الوكالة
الحجازية النجدية بمصر لم يخلُ من غلط ولم يبين الحقيقة ومن كل وجه، وسنبينها
في رحلتنا الحجازية.
وكانت وجهة الجرائد المصرية فيه سياسية لا دينية فقد عدته نزاعًا بين
حكومتي القطرين وشعبيهما فطفقت تطعن في النجديين وحكومتهم كدأب الجرائد
السياسية في هذا العصر، ولا يوجد الآن في مصر جريدة إسلامية تراعى أحكام
الشريعة الإسلامية في كتابتها كالجرائد الدينية المعروفة في جميع الشعوب وإن
كانت سياسية (كجريدة البشير الكاثوليكية في بيروت) والجرائد المصرية التي قد
تسمى إسلامية يراد بنسبتها إلى الإسلام أن أصحابها من الشعب الإسلامي، وإن
كان بعضها يطعن في الإسلام ويدعو إلى تركه، ومنها ما لا يقبل أصحابها نشر
شيء فيها يؤيد الإسلام ولا يمتنعون عن نشر ما يخالفه، وإن كانوا لا يدعون إلى
تركه كغيرهم ممن يسمون مسلمين.
وإن أمين بك الرافعي قد اشتهر بين محرري الجرائد المصرية ومديريها
بالتدين ومراعاة أحكام الإسلام، وما اشتهر إلا بحق فهو مسلم فعلاً لا سياسة وجنسية
فقط، وهو مع ذلك من أركان الوطنية وعلماء القوانين وقليل الإلمام بالفقه الإسلامي
وكان في أيام هذه الحادثة في الحجاز كثير الاتصال بأمير الحج ورجاله ومراسلاً
لجريدة (السياسة) اللادينية، وقد رأيت من مقالاته فيها ما أنصف به الوهابية
وتحرى الحق فيما كتبه عنهم كعادته الحميدة، ولكن ما كتبه في حادثة المحمل لم
يكن كذلك؛ لأنه تلقى أخبارها من أمير الحج ورجاله من جهة؛ ولأنه ظن مع هذا
أن ما صوروه له من تعدي الأعراب النجديين على المحمل ورميه بالحجارة وإصابة
هذه الحجارة بعض حرسه يبيح لأمير الحج شرعًا أن يرميهم في أرض الحرم
بقذائف المدافع والرشاشات فتقتل من تقتل بغير حساب. (وسنبين في الرحلة أن هذا خطأ محض لا يحتمل الصواب) .
فكان ما كتبه انتصارًا لأمير الحج وحجة للجرائد الوطنية في خطتهم التي
أشرنا إليها آنفًا، وبابًا مفتوحًا لخصوم الوهابية السياسيين كالإيرانيين وغيرهم
والدينيين كعباد القبور ومرتزقة الخرافات، على أن السياسيين المجاهرين
والدساسين قد ألبسوا سياستهم ثياب الدين اتباعًا لسنة آبائهم الأولين.
حملت الجرائد على الوهابيين حملة واحدة لا يصدها صد، ولا تقف دون حد
وأباحت صفحاتها لأصحاب الأهواء السياسية والخرافية الدينية المخالفين لهم في
عقائدهم وآرائهم وأفكارهم، وانتصر السعديون والدستوريون منهم لمنفذ سياسة
حزب خصومهم (الاتحاديين) في الحجاز وهو أمير الحج وهم غافلون، ولكن
الحكومة الائتلافية الحاضرة لم يخف عليها ما خفي على كل هؤلاء، فهي لم تكد
تحل محل الحكومة الاتحادية حتى بادرت إلى الاعتراف بما لم تعترف به من ملكية
جلالة عبد العزيز آل سعود على الحجاز وبإرسال وفد رسمي إلى المؤتمر الإسلامي
الذي دعا إليه وأقامه بمكة المكرمة، ثم إنها علمت من خطأ أمير الحج ما لم يعلمه
أصحاب الجرائد والجمهور، وإنما علمته من تقريره الرسمي الذي هو أكبر حجة
عليه كما يدل عليه ما نشره في جريدة الأهرام، علمت هذا وثبت عندها أن جلالة
ملك الحجاز وسلطان نجد برهن بمعاملته لأمير الحج وبغير ذلك على شدة حرصه
على موادة مصر والحكومة المصرية، وهي أجدر بأن تعلم ما لا يعلم الجمهور من
مصلحة البلاد في هذه الموادة.
***
إلمام الأمير سعود بمصر وحسن تأثيره:
بينما الجرائد الكثيرة تسرف في خطتها التي بيناها مع الإشارة إلى عذر
أكثرها فيها، حتى إن بعضها حث الحكومة المصرية على التصدي لإخراج
الوهابيين من الحجاز لتنفيذهم أمر الشريعة بهدم ما بني على القبور المعبودة من
المساجد والقباب، كأن إخراجها إياهم من الهنات الهينات، والراجح أن المقترح لا
يدين الله بهذه الخرافات، بل نخشى أن لا يدين الله تعالى بالعقائد اليقينيات، ولا
بالصلاة والزكاة، والجميع يجهلون ما عند الحكومة من المعلومات، الثابتة بالحجج
والبينات.
بينا ما ذكر كما ذكر؛ إذا بأسلاك البرق تنبئ أن الأمير سعودًا أكبر أنجال
ملك الحجاز وسلطان نجد سيؤم مِصر لمعالجة عينيه (لا لغرض آخر) ، وأن
الحكومة المصرية قد دعته إلى نزوله ضيفًا عليها، وتلا ذلك أخبار الجرائد تترى
بإعداد دار خاصة لضيافة سموه، قد وُكِّل تنظيمها وتأثيثها إلى سعادة محافظ مصر
(بالنيابة) وبأن دولة وزير الخارجية قد زار هذه الدار بنفسه وأشرف على ما
يعمل فيها.. .، وبأن الأوامر الرسمية قد صدرت إلى قنصلية مصر في جدة وإلى
محجر الطور وإلى السويس بأن يقوم رجال الحكومة في كل منها بما يجب من
خدمة سمو الأمير في مكانه.. . وبأخبار تنفيذ هذه الأوامر بالعناية التامة.
ثم وصل الأمير إلى القاهرة فاستقبل فيها استقبالاً فخمًا من قبل الحكومة
والأمة وفتح له الباب الملكي في محطة مصر، ثم أقبل على زيارته في دار
الضيافة مندوب جلالة الملك، والوزراء، وكبار العلماء، والشيوخ والنواب،
ومندوبو الصحف، وغيرهم، وزار هو دولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول في
بيت الأمة، ودولة رئيس الوزراء في ديوانه ومجلسي الشيوخ والنواب ومعاهد
العلم والدين كالمساجد الكبرى، ودور الآثار القديمة المصرية والعربية والكتب
المصرية، وحديقة الحيوانات، وبنك مصر، والمطبعة الأميرية.. . إلخ. وكان
يقابل في كل مكان رسمي وغير رسمي بالحفاوة والإجلال، وتحدث معه بعض
مندوبي الصحف فسمعوا منه أحسن الحديث وأحكم الأجوبة عما سألوه عنه، وفي
كل يوم تنشر الصحف أخبار تنقله وزائريه وتنزهه كما تنشر أخبار ملك
البلاد، وكتب بعضها مقالات خاصة في الثناء عليه ووجوب الحفاوة به ومنافع
المودة والاتفاق بين حكومة جلالة الملك والده، والحكومة المصرية ومن أحقها
بالتأمل مقالة لجريدة البلاغ الوفدية السعدية (ولا نتنزه عن الإشارة لشذوذ ثلاث
جرائد أسبوعية سفهت علينا وعلى الوهابية رجاء أن يلقمها الأمير حجارة جنيهات
يقطع ألسنتها البذيئة كدأبها ودأب أمثالها) .
كان كثير من الناس يظنون بما كانوا سمعوه من مطاعن أعداء الوهابية
الغابرين وخصومهم الحاضرين أن أهل نجد المنبوذين بلقبها أعراب شذاذ في دينهم
وأخلاقهم وعاداتهم وآرائهم فرأوا من الأمير سعود وبطانته وحاشيته مثلاً أعلى
وأكمل مما كانوا يظنون ومما يعهدون من غيرهم دينًا وأدبًا وفضيلة، أكبروا تقوى
الأمير واستمساكه بعروة الدين الوثقى، وأعجبوا بآدابه وشمائله، واستحسنوا آراءه
وأفكاره في كل ما حدثوه به.
رأوا أن الأمير كان يصلي كل صلاة في أول وقتها بالجماعة أنى أدركته من
مكان رسمي كمجلس النواب، أو ضاحية عامة كحديقة الحيوانات، أو دار خاصة
كدار محافظ مصر، كانوا سمعوا أن من عناية الحكومة بدار الضيافة أن جعلت فيما
جعلته فيها من خدم وحرس عسكري وموظفين مؤذنًا أوصته بأن يلتزم في أذانه
مذهب الوهابية، فتوهم بعضهم أن أذان الوهابية مخالف لأذان سائر المذاهب
الإسلامية، ثم سمع من زاروا تلك الدار أو مروا بها وسمعوا أذان مؤذنها أن
الحكومة لم تجامل الأمير باتباع مذهبه المخالف للمذاهب المعروفة فيها! بل سمعوا
الأذان الشرعي المتفق عليه في جميع مذاهب السنة المنصوص في كتب السنن
النبوية كلها وكتب فقه المذاهب الأربعة كلها بدون زيادة في كلماته المعدودة المنقولة
بالتواتر كما يزيد بعض مبتدعة المؤذنين في مصر في بعض الأوقات ولا
سيما أذان الفجر صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونداء لبعض المعتقدين
المعبودين بدعائهم مع الله أو من دون الله، كقول بعضهم في آخر الأذان: (يا شيخ
العرب) دعاء ونداء للسيد البدوي المشهور بهذا اللقب، وبدون زيادة في نغم الأذان
وصفة أدائه، وتجاوب اثنين أو أكثر فيه كالأذان الذي يسمونه بالسلطاني، ويخالف
مذهب الشيعة الذين يقولون في الأذان (حي على خير العمل) وهي كلمة
منسوخة.
فهذه المسألة تجلي لمن يحب معرفة الحقائق كنه الفرق بين الوهابية ومخالفيهم.
الوهابية على مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو رابع أئمة
الفقه الأربعة، وإنما يذكر رابعًا؛ لأنه متأخر عنهم ولادة ووفاة لا لأن ترتيبهم ترتيب
فضيلة، فكل منهم مجتهد مطلق، وكان هو أعلمهم بالسنة من حيث سعة الرواية
ونقد الرجال ومعرفة الآثار، ومن تلاميذه أكبر مدوني السنة كالشيخين البخاري
ومسلم وأبي داود وأجل من بعدهم تلاميذ تلاميذه رضي الله عنهم أجمعين،
إلا أن الوهابية أشد أهل السنة استمساكًا بها، ورفضًا للبدع المخالفة لها بالزيادة أو
الصفة كما ذكرنا في الأذان أو النقص بالأولى، وقد شنع عليهم بعض أعدائهم بما
جعل اتباعهم للسنة وإجماع مذاهبها ضلالاً، وخروجًا منها أو من الإسلام بتحريف
باطل إذ قالوا: إنهم يمنعون الصلاة على النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى
آله وأطلقوا القول في ذلك حتى إن بعض حجاج بلدنا في الموسم الأخير قالوا لي
بمكة: إننا كنا سمعنا أن الوهابية منعوا الشهادة بالرسالة من الأذان ويعاقبون من يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سمعنا الأذان في الحرم كاملاً كما
نعلمه (! !) وذكر أمين بك الرافعي في رسالة من رسائله المكية إلى جريدة
السياسة حديثًا، جرى بينه وبين الملك عبد العزيز آل سعود فنص فيه أن من عادته
تكرار الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكره في المجلس
وإن كثر، وهو لم يعهد هذا من أحد غيره.
هذا مثل واضح من مطاعن أعداء الوهابية فيهم بالباطل والتحريف جعلوا
تمسكهم بالسنة مخالفة للسنة، ولو جازت الزيادة في الدين ولا سيما شعائر الإسلام
كالأذان لزاد الناس في الصلاة والحج وغيرها حتى لا يعرف الأصل من الزائد
وذلك مخالف لقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) ولاقتضى
ذلك أن يكون الآخذون بالزيادة أكمل عبادة من النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه والتابعين لهم وخير القرون الذين شهد صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم
خير الأمة.
صلى الأمير الجمعة في الجامع الأزهر ففرشت له الطريق من الباب
الخارجي إلى المحراب كما يفرش لملك البلاد واجتمع الجماهير من العلماء
والطلاب حفاوة به، وصلى بجانبه بجوار المنبر الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر ورئيس
المعاهد الدينية والمفتي الأكبر وغيرهما من كبار العلماء الرسميين، وزار بعد
الصلاة مجلس إدارة الأزهر وقدمت له فيه المرطبات، ونفح خدم الأزهر بطائفة
من الجنيهات، وودعه العلماء بمثل ما استقبلوه به من الإجلال.
وصلى جمعة أخرى في المسجد الحسيني، وزار بعد الصلاة حجرة الآثار
النبوية المشهورة فكان كلما عرض عليه شيء منهما قال: اللهم ارزقنا اتباع آثار
نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأذاعت الجرائد له أنه زار المشهد الحسيني
أي القبر المنسوب إلى الإمام الحسين السبط عليه سلام الله ورضوانه كذبًا وزورًا؛
لأن المحققين من مؤرخي أهل السنة والشيعة قد صرحوا بأن رأسه رضي الله عنه قد
أعيد من الشام إلى كربلاء بعد أن حمل إلى يزيد ودفن مع الجسد هنالك
وصرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من أئمة المحدثين ومؤرخيهم، وقد أنكرت هذا
على الأمير كتابة، فمشافهة وقلت له: كيف تزور قبرًا مزورًا يعبد من دون الله أو مع
الله بالدعاء والطواف والنذور وغير ذلك؟ فكذب الخبر وقال: إنه لم
يدخل حجرة المشهد ولا رأى ذلك القبر، واستشهد على ذلك مصطفى بك منير
المدير الرسمي لدار الضيافة (مهمندار) فشهد وكذب لي ذلك قبله الشيخ فوزان وكيل
الحكومتين الحجازية والنجدية، وسألتهما عما نشر في الجرائد من حضوره
لحفلة الموسيقى العسكرية في حديقة الأزبكية وتصفيقه للعازفين فأنكرا ذلك أيضًا،
وقالا: إنه إنما دخل الحديقة لحضور حفلة شرب الشاي التي دعي إليها ولم
يحضر محل عزف الموسيقى، وإنما سمعها من بعد بغير قصد ولم يصفق لها،
وقد وعدا بتكذيب الخبرين في الجرائد ولم يفعلا، بل نقلت جريدة (الكوكب)
بعد ذلك في حديث لأحد محرريها مع الأمير ومهمنداره أنه زار المشهد (؟) ولم
يكذبه أحد والظاهر أن لحاشية الأمير أغراضًا في مثل هذا.
وجملة القول أن وجود الأمير في مصر كان حجة مشاهدة على أن من
يسمونهم الوهابيين هم خيار أهل السنة دينًا وأدبًا وفضيلة حجة أخرست الطاعنين
فيهم من أصحاب الأهواء السياسية والخرافية، كما أن عشرات الألوف من حجاج
الآفاق الذين أموا المسجدين المكي والمدني حجاجًا وزائرين قد شاهدوا من تأمين
البلاد، ومن حرية المذاهب الإسلامية التي تجلت أكمل التجلي في المؤتمر
الإسلامي ما هدم الدعاية الإيرانية التي بثت في العالم قبل الحج (والعاقبة للمتقين) .