للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقريظ المطبوعات الحديثة
(المواكب)
نظرات شاعر ومصور في الأيام والليالي
جبران خليل جبران أديب سوري عربي هاجر إلى أمريكا لأجل التجارة
كغيره وأقام فيها، لكن روح جبران شعرية فلسفية، تغوص في بحر لجي من
الفلسفة النظرية، وتطير في جو واسع من الخيال الشعري، وقد ينظم أحيانًا ما
يجنيه بغوصه من درر الفلسفة في أسلاك من الشعر، تحكي خيوط أشعة القمر أو
أسلاك أشعة الشمس، يراها [١] الرائي في الصحائف بعينيه، ويسمعها المصغي
بأذنيه، ويقرؤها القارئ بلسانه ويشعر بها الشاعر بوجدانه، ولا يملك أحد أن
يقبض على شيء منها، كشأن اليد مع الأشعة، إذا غابت عن الحس، غابت عن
النفس، إلا صورة مبهمة في الخيال، وذكرى تخطر بالبال، ذلك شعر الفلسفة
النظرية وفلسفة الخيال الشعري، وذلك جبران خليل جبران في مواكبه الجديدة،
وله شعر آخر يدخل في أبواب الأعمال ونظم الاجتماع، ليس أمامنا منه الآن شيء.
تصفحنا صفحاتها الثلاثين التي أهديت إلينا مطبوعة منذ ثلاث سنين، فإذا
هي مقاطيع من الشعر أشبه بالمواصيل، تصور للناظر فلسفة حياة البشر الفطرية
والمدنية، في بضعة عشر شأنًا من شؤونهم الأدبية والاجتماعية، وهي: الخير
والشر الحياة وما فيها من رغد وبؤس وكدر، السُّكر والنشوة، الدين، العدل
والعقاب، العزم، العلم، الحرية، اللطف، الظرف، الحب، جنون الحب، القوة
والفتح والظلم، السعادة، الروح مع الجسد، الجسم للروح والعقم، الموت والخلود.
تلك موضوعات المواكب، وكل منها مركب من مقاطيع كمجاميع الكواكب:
مقطوعة من بحر البسيط وقافية الراء المضمومة في وصف حال أهل الحضارة في
موضوعها يليها أربع أبيات لا يلتزم فيها قافية في وصف عيشة الغاب أي سذاجة
الفطرة وعيشة البادية، يليها بيتان في غناء الناي:
وهاك المثال وهو الموكب الأول:
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا ... والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا
وأكثر الناس آلات تحركها ... أصابع الدهر يوما ثم تنكسر
فلا تقولن هذا عالم علَم ... ولا تقولن ذاك السيد الوقُر
فأفضل الناس قطعان يسير بها ... صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر
***
ليس في الغابات راع ... لا ولا فيها القطيع
فالشتا يمشي ولكن ... لا يجاريه الربيع
خلق الناس عبيدًا ... للذي يأبى الخضوع
فإذا ما هب يومًا ... سائرًا سار الجميع
***
أعطني الناي وغني ... فالغنا يرعى العقول
وأنين الناي أبقى ... من مجيد وذليل
قوله: السيد الوقر بضم القاف أصله الوقور فخفف لضرورة الشعر وهذا جائز
وقد يجيز هذا الشاعر وأمثاله من العصريين في مثل هذا ما لم يجزه علماء العربية
من قبل وينظر ما معنى قوله: فالغنا يرعى العقول - فهو من مبهماته التي يقف
فيها الذهن مفكرًا.