للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي


القرآن والعلم الحديث

لقمان الحكيم، وبلعام بن باعورا
جاء في القرآن الكريم عن لقمان {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن
يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ
يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: ١٢-١٣) الآيات
من سورة لقمان فلقمان الحكيم في نظر القرآن كان رجلاً حكيمًا مؤمنًا ولكن من هو
لقمان الذي اشتهر عند العرب بالحكمة مع أنه لم يكن منهم ولم يرد له ذكر عند
غيرهم ومن البعيد أن يحفظ العرب ذكره ولا يكون له ذكر عند قومه. وهم أولى
بحفظ ذكره من العرب.
على أن علماءنا الأقدمين ليسوا علي بينة من أمر لقمان فمن قائل أنه لقمان
بن باعورا بن أخت أيوب أو ابن خالته ومن قائل: إنه من أولاد آزر عاش ألف
سنة وأدرك داود عليه السلام ومن قائل: إنه كان قاضيًا في بني إسرائيل، ومن قائل
أنه أسود من سودان مصر، وقد اختلفوا بعد هذا في أنه كان خياطًا أو نجارًا أو
راعيًا وهذا الاضطراب يدل علي أنهم لا يعرفون يقينًا ما لقمان ولا من أي قوم كان
وقد شك الألوسي المفسر في صحة هذه الروايات كلها ولكنه لم يبين لنا أصل هذا
الاسم الأعجمي الذي حفظه العرب بدون أن يعرفوا أصله ولم يرد فيه عند غيرهم
ما يوضح أمره.
وقد حاول العلم الحديث أن يحل هذه المسألة فهداه البحث إلى أن لقمان بن
باعورا الحكيم المؤمن هو بلعام بن بعور المذكور في التوراة والمشهور عند اليهود
بأنه فيلسوف الشعب الكافر، وقد قالوا عنه: إنه لا توجد في الدنيا فلاسفة مثله
وممن ذهب إلى هذا الدكتور ج درانبورج أحد أعضاء الجمعية الشرقية بمدينة
باريس ودليله عليه أن الأسماء المشهورة الواردة في التوراة والتي ذكر معظمها في
القرآن بالشكل الذي هي عليه في التوراة ينقصها اسم بلعام بن بعور فليس هو إلا
لقمان بن باعورا ويؤيد هذا اتفاق اسم الأب فيهما وأن الفعل العربي (لقم) معناه
باللسان العبري بلع على أنه يوجد في كتاب صغير لمؤلف يسمى أنوخ ما يؤخذ منه أن
دلالة هذين الاسمين على شخص واحد كان معروفا قديما فقد جاء فيه أن بلعام هو
الفيلسوف المسمى في العربية (لقنين) يعني لقمان وإنما أوقعه في هذا التحريف
بعده عن العربية وأنه ليس من أهلها.
وهذا الأمر إن صح لا يحل المسألة إلا من وجهتها التاريخية ولكنها من الوجهة
الدينية تبقى معقدة؛ لأن لقمان في نظر القرآن حكيم مؤمن وفي نظر التوراة إذا كان
هو بلعام فيلسوف كافر فقد ورد فيها أن بني إسرائيل لما ارتحلوا إلى موآب ليحاربوا
أهلها، أجمع شيوخها وأرسلوا إلى بلعام ليلعن هذا الشعب الذي يغير علي بلاده،
فقال له الرب: لا تلعن هذا الشعب لأنه مبارك ولما ألحوا عليه أذن له الرب أن
يذهب معه بشرط أن لا يتكلم إلا بما يأمره به فركب حماره، وغضب الرب لذهابه
تأمل؛ فأرسل له ملكًا في الطريق وفي يده سيف مسلول فلما أبصره حماره وقف
وكشف الله عن عينه؛ فرأى الملك متعرضًا في طريقه فأراد أن يرجع ولكن الملك
سمح له أن يذهب معهم بشرط أن لا يفعل إلا ما أمر به، ولما وصل إلى مكان يرى
منه شعب إسرائيل ظهر له الرب وأمره أن لا يلعنه فذهبوا به إلى مكان آخر لعل
الرب يظهر له ويغير أمره؛ فلم يأذن له في لعنهم فتركهم ورجع إلى مكانه الذي
كان فيه ولما استولى موسى وقومه علي بلاد موآب قتلوه مع كل ذكر فيها، وسبوا
النساء والأطفال فغضب موسى لعدم قتلهم النساء والأطفال، وقتل كل طفل فيها
وكل امرأة ثيب فهذا ما ذكرته التوراة الموجودة بأيدي اليهود عن بلعام.
وقد نقلت هذه الرواية إلى المسلمين مع من أسلم من أهل الكتاب ولكن بتغيير
قليل فإن التوراة لا تنص علي أنه دعا على موسى وقومه، وأما رواية مسلمي أهل
الكتاب فتنص علي أنه دعا عليهم فوقعوا بسبب دعوته في التيه؛ فقال موسى: يا
رب بأي ذنب وقعنا في التيه. فقال بدعاء بلعام فقال: كما سمعت دعاءه فاسمع
دعائي عليه فدعا أن ينزع منه الإيمان فسلخه مما كان عليه.
ولم يشأ علماؤنا إلا أن يصدقوا هذه الرواية التي لم ينزل بها إليهم كتاب ولم
يأت بها إليهم رسول فكان بلعام عندهم غير لقمان، وقد ذهبت الظنون بهم فيه أيضًا
؛ حتى قال بعضهم: إنه كان نبيًا، وقال آخرون: إنه كان من أهل اليمن وحمل
عليه ابن عباس قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ} (الأعراف: ١٧٥) وقالوا: إنه كان يعرف اسم الله
الأعظم الذي ما دعا به داع إلا استجيب له، ولا يخفى أن كل هذا من الإسرائيليات
التي رواها لنا كعب الأحبار وغيره من مسلمي أهل الكتاب، ولا يوثق بها عند
كثير من محققي المؤرخين عندنا، فإن مسلمي أهل الكتاب الذين نقلت عنهم هذه
الروايات كانوا في نشأتهم بين البدو من العرب بعيدين عن معرفة الأخبار الصحيحة
عن أهل الكتاب ولم يكن عندهم من العلم ما يميزون به غثها من سمينها.
وأما قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: ١٧٥) الآية [١] فليس فيه ما
يدل على أن المراد به بلعام أو غيره، وقد قال ابن عمر: إنها نزلت في أمية بن أبي
الصلت كان على علم بكتب الله وآياتها وكان يعلم أن الله سيبعث رسولاً من العرب
ويرجو أن يكون هو فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حسده ومات كافرًا،
وقيل: إنها نزلت في أبي عامر الراهب وقيل: إنها مثل لكل من يعرف الهدى
ويعرض عنه؛ فليس في القرآن إذًا ما يمنع أن يكون بلعام هو لقمان الحكيم.
وأما رواية التوراة عن بلعام فلا يلزمنا أن نصدقها وقد نسبت إلى غير بلعام
من الأنبياء الذين لا نشك في عصمتهم كداود، وسليمان، وغيرهما أمورًا لا نشك
في أنهم منزهون عنها فما ورد فيها عن بلعام لا يمنعنا من أن نجاري العلم الحديث
في أنه هو لقمان الحكيم، علي أن بعض علماء المسيحيين يشك في صحة قصة
بلعام الواردة في التوراة للتناقض الذي فيها، فكيف يأذن له الله على ما سبق في
الذهاب مع قومه، ثم يغضب عليه لذهابه معهم، وكيف يقتله موسى -عليه السلام -
مع من قتل من قومه مع أن التوراة لم تنص علي أنه لعن بني إسرائيل كما كان
يريد قومه بل نصت علي أنه لما لم يأذن له الرب في لعنهم قال لبالاق بن صفور
ملك موآب قم يا بالاق واسمع؛ فليس الله إنسانًا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم، وهل
يعد ولا يفي؟ وأخبره بأن بني إسرائيل سيملكون بلاده فبأي ذنب يقتل من هذا حاله
وبأي وجه يكون هذا الرجل عند اليهود فيلسوف الشعب الكافر؟ وإذًا ليس هناك من
جهة الدين ما يمنع أن يكون لقمان هو بلعام، وأنه لخير لنا أن نجاري العلم الحديث
في هذا، وأن لا نتأثر بما رواه اليهود من كفر بلعام كما تأثر به آباؤنا من قبلنا
فحال بينهم وبين الاهتداء إلى الحقيقة في أمر لقمان وجعلهم حيارى لا يدرون من
أي قوم كان؛ وإذا لم نذهب إلي ذلك فسنظل مطالبين أمام العلم بالأدلة التي نقنعه
بأن لقمان غير بلعام وبالآثار القديمة التي تكشف عن أمر هذا الحكيم الذي ورد به
القرآن الكريم.
ولماذا نكلف أنفسنا عناء هذا البحث والتفتيش ولا نقنع بما قنع به العلم
الحديث، ونحمده على هذه الخدمة التي خدم بها القرآن وقطعه الطريق على من
تحدثه نفسه من زنادقة هذا العصر بأن روايات القرآن عن لقمان حديث خرافة إذ لا
يجد له حديثًا في التاريخ القديم ولا ذكرًا عند الأقوام الذين نسبه إليهم علماء
المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي
... ... ... ... ... ... ... ... أحد علماء الجامع الأحمدي